البحث

التفاصيل

الدكتور فضل مراد يكتب.. القول بالعموم مختلف عن تنزيل العموم (صوم عرفة على وقفة الحجاج بعرفة)

الرابط المختصر :

الدكتور فضل مراد يكتب.. القول بالعموم مختلف عن تنزيل العموم (صوم عرفة على وقفة الحجاج بعرفة)

 

مسألة صوم عرفة على وقوف الحجاج بعرفة تكررت كثيرا وقد تعبت في بحثها وتأملها والنظر في أصولها وتحليل مناهج الفقهاء في ما كان على وفقها طويلا مدة من الزمن والحاصل أن الذي وصلت إليه أن الصحيح الذي لا مرية فيه في عصرنا هو أن صوم عرفة يكون وفقاه لوقوف الحجاج بعرفة،، ولبيان ذلك أقول:

الشريعة منزلة على واقع المكلفين وعلى قدرتهم ووسعهم في القيام به لقوله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا..) البقرة 286.

وهذا قانون الشرع الحاكم لكل باب منه في كل زمان ومكان.

 

وثبت الأمر بالصوم لمجرد الرؤية في نصوص بلغت التواتر (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، فهذه التكليف عام للأمة جميعا مشرقا ومغربا يقوم به البعض عن الكل ضرورة لتعذر رؤية جميع الأمة..

إذ لو علق الصيام برؤية كل شخص في الأمة لبطلت الفريضة لعدم إمكان ذلك فعلق الشرع الصوم برؤية الهلال من البعض بواحد واحد أو اثنين اثنين أو واحد واثنين على خلاف مبنى على دلالة الأحاديث في الباب التي تنوعت على هذا المهيع فتنوعت بها المذاهب جمعا وترجيحا ، ولكن لما كان الشرع معلقا بالاستطاعة وهذا من محاسنه العظيمة.

قام الفقهاء في حدود استطاعتهم التكليفية بتنزيل هذه النصوص العامة على واقعهم زمن الأئمة الأربعة والظاهرية ومن قبلهم فاختلف تنزيل العموم ولم يختلف دليل العموم لأن القول بالعموم مختلف عن تنزيل العموم،،

فإن الأول خاضع للألفاظ والثاني خاضع للكلي الحاكم على الشرع وهو قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) .. (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)

فعند التنزيل تختلف الأنظار لاختلاف محددات التنزيل وهي عشرة حسب تتبعي الشخصي ذكرتها في مقال سابق ، لهذا نجد لمالك قولين في المسألة فمرة قال بالتعميم ومرة بعدمه والمعتمد عند أصحابه من المتأخرين زمن خليل ومن بعده التعميم.

 

وليس للشافعي قول في كتبه ومن قال عنه فقد أخطأ ، وقد راجعتها كثيرا ولم أجد ولهذا اضطر أصحابنا من أصحاب الأوجه أن يخرجوا أو يجتهدوا

إذ ليس كل وجه لازم أنه مخرج على أصول الشافعي بل منها ما ليس على أصوله.

ولهذا عبر النووي عن هذا بالأصح وهو دليل على ثبوته عن الأصحاب لا الإمام الشافعي ودليل على قوة الخلاف..

لكن وجدت ابن المنذر ينقل عن الشافعي وعن الأئمة الأربعة القول بالتعميم للرؤية في كتابه الإشراف ونقله عنه النووي في المجموع ولم يتعقبه.

وهو مسطور في كتب عياض وغيره.

وقد اختلف أصحاب الشافعي على وجهين:-  فمنهم من عمم ومنهم من لم يعمم والذين لم يعمموا لهم ستة أقوال في تحديد البعد والقرب ذكرها النووي في المجموع

والحنفية على التعميم إلا إن فحش البعد والظاهرية كذلك،

والحاصل أن هذه الاختلاف قائم على تنزيل دلالة العموم لا على دلالة العموم لأن دلالة العموم بينة صريحة في نصوص متواترة. (صوموا لرؤيته) فلا خلاف فيها إنما الخلاف في تنزيلها.

وكان القول بأن لكل بلد رؤيتهم في زمن الأئمة له وجه لأن حديث: (صوموا لرؤيته) يصدق على بلدان متقاربة يصلهم الخبر في زمن يمكن معه البناء عليه فيجب القول بتعميم الرؤية

وكذلك يصدق على بلدان كالمدينة والشام يتعذر بينها بلوغ الخبر زمنهم فيصدق عليهم تنزيل عموم (صوموا لرؤيته) فيلزم أهل المدينة أن يروا وأهل الشام أن يروا

لتعذر وصول الخبر من الشام إلى المدينة هذا هو مستطاعهم التنزيلي.

ولا تكليف عليهم سواه وهو ما ذهب إليه ابن عباس وأصاب..

أما إن كان متقاربا فإنها رؤية واحدة لا زمة للكل لذلك أفطر رسول الله وأصحابه لما جاءهم ركب آخر النهار يخبرهم أنهم رؤا الهلال والركب آخر النهار يدل على مسيرة يوم فهذا يدل على أنه لا اختلاف فيه تعميما.

أما في عصرنا فإن العموم اللفظي التقى مع التنزيل العام بلا تخالف ، فالعموم الواضح صريح لسائر الأمة دلالة في حديث (صوموا لرؤيته)

أما التنزيل فإن العالم الإسلامي يجمعه ليل واحد من ماليزيا إلى موريتانيا

فمن رأى الهلال في شرق الأرض لزم غربها وعكسه.

فالرأي الذي لا مناص عنه في عصرنا هو لزوم العموم وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد وقول الشافعي المنقول عند ابن المنذر أما في كتبه فلم أجد له كلاما وإنما اجتهد أصحابه.

فمن نسب إلى الشافعي القول باختلاف المطالع فلم يصب ،، وهو قول الظاهرية

وأما قول ابن عباس (هكذا أمرنا رسول الله) فهو محتمل أن هناك حديثا بلفظ :إن لكل بلد رؤيتهم ويحتمل أن يقصد ابن عباس  حديثه المروي عنه في الموطأ: عن عبد الله بن عباس، أن رسول الله صَلى الله عَليه وسَلم ذكر رمضان، فقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدد ثلاثين» وهو نص متواتر عن الصحابة.

وهذا الأخير هو الصحيح لأنه لم يثبت عن رسول الله حرف في أن المدينة لها رؤية غير الشام.

فهو اجتهاد تنزيلي من ابن عباس وهو صحيح لأن أهل المدينة غاية ما يستطيعونه هذا

وأما اليوم فالقول باختلاف المطالع من الدحس المذهبي والمعاندة الجامدة والمماحكة السياسية قصيرة النظر سيئة السمعة.

والفقهاء كالمتفقين أن الإمام العام لو أمرهم برؤية واحدة لزمهم.

كما صرح بذلك ابن الماجشون وغيره

وما ذلك إلا أنه وافق عموم التكليف المتواتر في (صوموا لرؤيته)

وينتهي هنا قول من قال بأثر كريب عن ابن عباس الواضح الاحتمال لأنه سيعود إلى الوفاق بتأويل أن قوله (هكذا أمرنا رسول الله أي: صوموا لرؤيته).

والقول باختلاف المطالع بين قرية واحدة تفصل بينهما الأسلاك الشائكة الحدودية قول مشين خارج عن كل دليل من الكتاب والسنة ويتعلل من يقول به أن فيه حفاظا على الجماعة وطاعة لولي الأمر.

وتحقيق مقصد الحفاظ على الجماعة إنما يكون على كماله وتمامه بصيام الأمة برؤية واحدة. والشريعة قصدت الحفظ المطلق لا مطلق الحفظ ولا أشنع من هذا القول إلا ما كان من تعدد الجماعات في الصلوات في المسجد الحرام بين المذاهب الأربعة..

أما سياسيا فليس المقصود اليوم في دولنا من الإنفرادات العمل بأحد وجهي الشافعية ولا أحد قولي مالك.. ولا هم يحزنون إنما باعثه نفخة الاستقلال لا إثبات الهلال فالمسألة دولية لا دليلية

ومن العجب الكبير أن "عرفة" يجتمع لها أهل الإسلام من المشارق والمغارب بالملايين ويبلغ وقوفهم الأمة جميعا في بث مباشر ولحظة واحدة ثم نجد من يخالف من الدول متدرعا بقميص الرؤية وهو من أفيل الأقوال في عرفة خاصة.

ولا هو من حديث الرؤية في صدر ولا ورد

والصواب الذي أدين الله به هو الرؤية الواحدة لعرفة وغيره.

وأنه لا عذر لأحد في التعلق بوجه مذهبي في عصرنا وقد بني هذا الوجه على اجتهادات زمانية صحيحة في عصرها وهي مجانبه له في هذا العصر. 

والله المستعان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. فضل مراد - مقرر وعضو لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

 * مراجع البحث

- «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف» (3/ 273 ت الفقي)
- «تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن» (2/ 296)

- «بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع» (2/ 83)

- «المغني» لابن قدامة (4/ 328 ت التركي)

- «الحاوي الكبير» (3/ 409)

- «نهاية المطلب في دراية المذهب» (4/ 17)

- «المجموع شرح المهذب» (6/ 273)

- «العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير ط العلمية» (3/ 179)

- «روضة المستبين في شرح كتاب التلقين» (1/ 513)

- «مواهب الجليل في شرح مختصر خليل» (2/ 384)

- «الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر» (3/ 112)





التالي
قبل الوقوف غدًا بصعيد عرفات.. حجاج بيت الله الحرام يتوافدون إلى مشعر منى لقضاء يوم التروية
السابق
بناء البيت العتيق.. وتشريف خليل الله إبراهيم (عليه السلام)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع