البحث

التفاصيل

صيام عرفة يكفر ذنوب السنة السابقة والسنة اللاحقة

الرابط المختصر :

صيام عرفة يكفر ذنوب السنة السابقة والسنة اللاحقة

بقلم: د. تيسير رجب التميمي – عضو الاتحاد

 

الحمد لله الذي أنعم علينا بمواسمَ للخيرات والبركات ، وأزمنةٍ للطاعات والقربات ، تتجدد علينا لتذكِّرنا إن نسينا أو أخطأنا ، نقترب فيها من ربنا ، ونتزود فيها لآخرتنا، تضاعف لنا فيها الحسنات ، وتمحى عنا السيئات ، وتتنزل علينا الرحمات.

أظلنا اليوم واحد منها وهو يوم عرفة، وحق لهذا اليوم أن يكون من أيام الله ، فقد اجتمع له ما يميزه عن غيره من أيام السنة بنص القرآن الكريم وآياته:

* ففيه الركن الأكبر والأعظم من فريضة الحج ، فقد أمر صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى: {الْحَجُّ الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ ، مَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِنْ لَيْلَةِ جَمْعٍ فَتَمَّ حَجُّهُ} رواه أبو داود ، وجمع هي مزدلفة.

* وهو يوم حرام في شهر حرام من الأشهر التي قال الله تعالى فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} التوبة 36.

* وهو من أيام أشهر الحج التي قال الله سبحانه فيها: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} البقرة 197.

* وهو من الأيام المعلومات التي حثنا الله عز وجل على العمل الصالح فيها فقال سبحانه وتعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} الحج 28، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر فقالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء} رواه الترمذي ، وهذه الأيام المعلومات أربعة: يوم النحر وثلاثة أيام تليه هي أيام التشريق، وسميت أيام التشريق بذلك لأن الناس يشرّقون اللحم فيها أي يجففونه لطهيه فيما بعد.

* وفيه أتم الله سبحانه النعمة وأكمل الدين للأمة، قال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: [يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال أي آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا} المائدة - 5. قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة ] رواه البخاري.

وفعلاً؛ فإن عيد الأمة المسلمة يأتي بمقدم هذا اليوم، قال صلى الله عليه وسلم: {يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام} رواه الترمذي، إن يوماً له هذا الفضل العظيم ليجدر بالمؤمن أن يغتنمه في عبادة الله تعالى والاستزادة من الصالحات التي أداها رسولنا صلى الله عليه وسلم فيه.

* فصوم يوم عرفة لغير الحاج يكفر ذنوب عامين ، سئل صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة فقال: {أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِى بَعْدَهُ} رواه مسلم ، وهذا كفيل بزيادة رصيده من الأجر والثواب ، فهنيئاً لمن أدرك هذا اليوم وعزم على صيامه فصامه تقرباً لله عز وجل . فلعلّ الله سبحانه كذلك أن يعصم الصائم من الذنوب والآثام والمعاصي، ولكن لا يجوز صيام يوم الأضحى وأيام التشريق للحاج وغيره، لقوله صلى الله عليه وسلم: {أيام التشريق أيام أكل وشرب} رواه مسلم.

* ويوم عرفة من أفضل الأوقات للتوجه فيها إلى الله عز وجل بالدعاء والرجاء والتضرع ، قال صلى الله عليه وسلم: {خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير} رواه الترمذي.

فكيف إذا اجتمع للمؤمن فيه الدعاء والصيام! فإذا دعا عند الإفطار فما أقرب الإجابة وما أحرى القبول!

وكيف وقد اجتمع للمؤمن فيه أنه يوم الجمعة ، يوم عظيم الأوقات ومبارك الساعات وفيه تزداد وتضاعف الحسنات، فلنحرص في هذا اليوم أن نسأل الله من عظيم فضله من خير الدنيا والآخرة ، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه} رواه مسلم.

* اغتنام الصمت بذكر الله، فإنه أعظم وأعلى أجراً وجزاء من الدعاء ، وبالأخص إذا كان معه خشوع القلب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إخباراً عن ربه عز وجل {من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين} رواه الترمذي. ولا ينحصر الذكر فيما يجري على اللسان ، بل يشمل ما يستحضره القلب من تسبيح وتهليل وتحميد وثناء على الله عز وجل ووصفه تعالى بما هو أهله من صفات الكمال ، قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ} الأعراف 205 ، والذكر أيضاً رأس الأعمال الصالحة ، فقد {جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كَثُرَتْ عليَّ ، فمرني بأمر أتثبَّتُ به ، فقال: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله عز وجل} رواه أحمد . وفي الذكر تزكية للنفوس وتطهير للقلوب وإيقاظ للضمائر.

 والذكر من ثمرات النظر والتدبر في الآيات الكونية، قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} آل عمران 191 ، فإن الذاكر حين ينفتح لربه جَنانه ويلهج بذكره لسانه يمده الله بنوره فيزداد إيماناً إلى إيمانه ويقيناً إلى يقينه ، فيسكن قلبه للحق ويطمئن به ، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد 28.

* وإنها لفرصة ثمينة سانحة للتوبة والاستغفار في يوم عرفة ، فالاستغفار برهان التوحيد والإيمان والتقرب إلى الرحمن ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال { يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي } رواه الترمذي ، فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب .

 إن هذا اليوم العظيم يوم المباهاة والعتق من النار ، يوم يقبل فيه حجاج بيت الله الحرام على ربهم خاشعين ضارعين يرجون عفوه ورضاه ؛ متجردين من الدنيا وزينتها، مستحضرين يوم البعث ، يوم يُعرضون على ربهم ويقفون بين يديه للحساب ، فيباهي بهم ملائكته ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثاً غبراً} رواه الحاكم ، ويتجلى عليهم بالمغفرة لهم والعتق من النار ، قال صلى الله عليه وسلم {مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِى بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ} رواه مسلم .

     فإذا كان الغد من عرفات فهو يوم النحر ويوم الحج الأكبر ، يوم عيد الأمة وجائزتها العظمى ومكافأتها الكبرى ، ابتهاجاً بأداء ركن الإسلام والتقرب إلى الرحمن ، وفي يوم العيد هذا أحكام:

* يستحب للمسلم يوم العيد أن يتطيب ويلبس أجود ما لديه عند الخروج إلى صلاة العيد اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كان يغتسل يوم الفطر والأضحى ويلبس بُرْدَيْ حبرة (وهي ثياب فاخرة من اليمن) .

* ويستحب له أيضاً التكبير ، ويبدأ وقته بالخروج إلى صلاة العيد ، وينتهي بصلاة عصر اليوم الثالث من أيام التشريق ، وصيغته الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، ويستحبّ أن يزيد بعد التكبيرة الثالثة : الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، ويستحب بعدها أيضاً أن يزيد : لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ويختم ذلك بالصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأزواجه رضي الله عنهم جميعاً ، وتكون هذه التكبيرات في كل وقت وبالأخص عقب الصلوات .

* ويبدأ التقرب يوم العيد إلى الله تعالى بأداء صلاة العيد ، فلْنسارعْ في أدائها شكراً لله عز وجل ، ولْنحرصْ على إخراج الجميع نساء ورجالاً كباراً وصغاراً لحضورها إظهاراً لشعيرة عظيمة من شعائر الإسلام ، وهي سنة مؤكدة واظب عليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان يخرج نساءه وبناته يوم العيد ليشهدن الصلاة .

* ثم يتقرب المؤمن أيضاً إلى ربه بذبح الأضاحي ، ولئن كانت صدقة الفطر طعمة للمساكين وفرحة لهم يوم عيد الفطر ، فكذلك الأضحية فرحة لأهل البيت وللفقراء والمساكين .

* فإذا الْتقينا يوم العيد فلْنتصافحْ ، فبالمصافحة تسقط الخطايا وتتحاتّ الذنوب كما تتحاتّ أوراق الشجر إذا رافقتها المحبة والأخوّة الصادقة النابعة من القلب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من مسلمين التقيا فأخذ أحدهما بيد صاحبه إلا كان حقاً على الله عز وجل أن يحضر دعاءهما ولا يفرق بينهما حتى يغفر لهما } رواه البيهقي ، ولْيهنئ بعضنا بعضاً فيقول أحدنا لأخيه المسلم تقبل الله منا ومنك ، أو يقول عيد مبارك عليك أو أحياكم الله لمثله . 

* وفي يوم العيد لنحرصْ على التزاور فيما بيننا وصلة الأرحام والصدقة والإحسان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة قاطع رحم} رواه مسلم، فإن هذه الصلة تعمق المودة والمحبة في النفوس ، وتقوي الوشائج الاجتماعية بين المسلمين . فحق علينا زيارة الأقارب والأصدقاء والجيران، وألاَّ ننسى أسر الشهداء والأسرى ، وأن ندخل الفرح إلى قلوب الأطفال وتزيينهم بالملابس وغيرها.

ندعو الله سبحانه وتعالى أن يعيد هذه الأيام على الأمة بالنصر والعزة والتمكين، وأن يتقبل الله منكم ومنا الطاعات ، وكل عام وأنتم بخير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقاضي قضاة فلسطين، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، وأمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس


: الأوسمة



التالي
ركن الحج الأعظم.. يوم عرفة فضائله ومآثره وخير الدعاء فيه

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع