البحث

التفاصيل

الفتوى والسياسة: عن جدل خطبة عرفة هذا العام

الرابط المختصر :

الفتوى والسياسة: عن جدل خطبة عرفة هذا العام

بقلم: معتز الخطيب – عضو الاتحاد

 

أثار قرار تعيين الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وعضو هيئة كبار العلماء في السعودية محمد العيسى خطيبا وإماما للحجاج هذا العام جدلا واسعا، ومن ثم أصدرت بعض التشكيلات الإسلامية بيانا تضمن أمرين، أولهما: المطالبة بعزله، لأنه -حسب البيان- "مدخول في دينه وأمانته"، وثانيهما: مطالبة الحجاج بـ"العدول عن الصلاة مع هذا الرجل المفتون إلى الصلاة في مخيماتهم جماعة".

وقد أسس البيان موقفه هذا على دعوى عامة، وهي أن إمامته للحجيج "تتضمن مفاسد شرعية وواقعية، وفيها مضادة لشرع الله ورد لأحكامه" التي تتمثل "في أنه لا يتولى الإمامة إلا مسلم خالٍ من العيوب القادحة في أصل دينه".

وقد ساق البيان قائمة بالأفعال ليخلص إلى أنها "تقدح في أصل دينه"، وملخصها: توليه للصهاينة، ومحبته لكاهن الهندوس، وصلاته على ضحايا الهولوكوست، وتحريضه على المسلمين في فرنسا، وشراكته لتوني بلير، وجهره بأن اليهود والنصارى إخوانه، على الرغم من أن الشيخ صالح الفوزان كان قد كفّر من قال ذلك بحسب نص البيان الذي وقعت عليه شخصيات عديدة ذات توجه حركي.

ويعكس البيان -في الواقع- ظاهرة تسييس الفقه التي سبق أن نقدتها في أكثر من مناسبة، وهي ظاهرة تمارسها الحكومات والتشكيلات الإسلامية الحركية على السواء، ومن ثم بات واجب "البيان الشرعي" العلمي في مثل هذه المواقف محفوفا ببعض التحديات، فمن جهة: كيف نقوم بواجب البيان العلمي دون أن يُفهم أننا نؤيد هذا الموقف السياسي أو ذاك؟ ومن جهة أخرى، باتت سلطة "البيان الشرعي" مادة للصراع بين بعض الحكومات من جهة والحركات أو الهيئات الإسلامية من جهة أخرى، يتجاهل فيها الإرث الفقهي ولا يراعى الخلاف العلمي، لأنه إنما يصدر عن موقف سياسي لا يحتمل مثل ذلك.

وبعيدا عن الصراع السياسي سأجمل أوجه الإشكال في البيان المشار إليه في نقاط محددة، لأنها -فيما أحسب- أعون على الإيضاح والفهم، وذلك وفاء للمعرفة الفقهية التي تشكل مصدر البيان الشرعي هنا بعيدا عن التحزب والتلون السياسي، فمشكلتنا اليوم مع كثير من البيانات التي تحمل الصفة الإسلامية أنها لا تحرر المسائل العلمية أولا، ومن ثم تقع في طامات في التنزيل على الواقع المعاصر ثانيا.

النقطة الأولى: حمل البيان العنوان الآتي "بيان شرعي عن حكم إمامة العيسى وخطبته في عرفة"، والقارئ يتوقع أن يقرأ "بيانا فقهيا" يعرض لآراء الفقهاء وتعليلاتهم ثم يرجح بينها وفق حيثيات محددة، لكن البيان لم يتعرض لمذاهب الفقهاء في المسألة المطروحة لا من قريب ولا من بعيد، خصوصا أن المسألة المثارة تتناول أمرين:

الأول: حكم إمامة الفاسق غير المعيّن (وهو ما يسمى الحكم الفقهي العام).

والآخر: تنزيل أحكام إمامة الفاسق على الشخص الذي هو محل الكلام هنا، والنظر في إثبات فسقه بحسب نظر الموقعين على الأقل (وهو ما يسمى تحقيق المناط).

فإذا حررنا الحكم الفقهي العام وحيثياته أمكن لنا بعد ذلك النقاش في تنزيله على زيد أو عمرو، ولكن كاتب البيان لم يأت المسألة من أبوابها، وموه فيها بعبارات غائمة رغم أن "البيان الشرعي" يفرض الوضوح والدقة العلمية، كما يفرض رعاية الخلاف العلمي والأمانة في التعاطي مع المذاهب الفقهية الأربعة المعتبرة، لا مجرد الانتقاء العشوائي منها بحسب الهوى السياسي، خصوصا أن البيان استعان بفتوى الشيخ الفوزان للإيحاء بتكفير ذلك الإمام رغم أن من الموقعين على البيان من لا يوافقون الفوزان في عشرات المسائل غير هذه.

"ولاية تسيير الحجيج هي ولاية سياسية وزعامة وتدبير، ومن ثم لُحظ فيها وفي شرائطها التي ذكرها الإمام الماوردي الطابع العملي المرتبط بضمان سلامة الحجاج وأدائهم لمناسكهم لتقوم الشعيرة، ومشمولات هذه الولاية أوسع من مجرد تعيين شخص لإمامة الناس يوم عرفة".

النقطة الثانية: أن الحركة الإسلامية اعتمدت لعقود على فقهيات الشيخ يوسف القرضاوي -حفظه الله تعالى- الذي حمل لواء التيسير على الناس في الفقه والتماس المخارج لهم ليعيشوا بالشريعة في الحياة المعاصرة، ولكن البيان المشار إليه سلك -للأسف- مسلك التشديد، إذ دعا الناس إلى التفرق جماعات متخالفة في يوم عرفة الذي من المفترض به أن يجسد وحدة الجماعة المسلمة من كل جنس ولون وصقع، مديرا ظهره لمذهب جمهور الفقهاء وهو أن الصلاة خلف الفاسق -إن وافقناهم على تفسيق الإمام- جائزة كما سأوضح قريبا.

النقطة الثالثة: غلب على البيان النفَس السياسي، ولذلك خلا من التحرير العلمي الذي كان يفترض به أن يعالج مسألتين منفصلتين:

المسألة الأولى: الصفات المطلوبة في شخص الإمام في الصلاة (والإمامة في عرفة من إمامة الصلاة)، والتمييز فيها بين ما هو صفة صحة وما هو صفة كمال، ثم تقويم قرار اختيار العيسى لهذه الوظيفة الدينية الرمزية في هذا اليوم المشهود.

والمسألة الأخرى: حكم الصلاة خلف ذلك الإمام تحديدا، وهذا يقتضي تشخيص حاله الظاهرة ووزنها بميزان الفقه، ثم تنزيل حكم إمامة الفاسق عليه.

لم يكتف البيان بالخلط بين المسألتين فقط، بل سخّر المسألة الثانية لأجل الاحتجاج على قرار التعيين الذي يندرج ضمن المسألة الأولى، ومن هنا دعا الحجاج إلى ترك الصلاة خلف الإمام تعبيرا عن الاحتجاج السياسي على قرار التعيين.

لست من مؤيدي ذلك الإمام، بل أنا ضد مواقفه السياسية، وأرى أن تعيينه يحمل رسالة سلبية، ولكنني أرى في الوقت نفسه أنه يجب الفصل بين الاعتراض السياسي على قرار تعيينه وبين حكم صلاة الحجيج الذي هو فعل تعبدي، فالخلط بينهما تسييس للحج وإخلال بالواجب العلمي الذي يفرض رعاية الخلاف الفقهي عند إصدار أي "بيان شرعي" وتغليب المصالح الدينية للناس، فمن حق المسلمين أن يعرفوا مختلف الآراء الفقهية المعتبرة، لا أن يُفرض عليهم رأي محدد محكوم بموقف سياسي مسبق بمعزل عن أي منهج علمي متسق.

النقطة الرابعة: أشار البيان إلى أن الصلاة والخطبة في يوم عرفة تدخلان ضمن "ولاية الحج" التي هي جزء من الولايات الشرعية، ولكنه قصَّر في تنزيل هذه المسألة على الواقعة التي نحن بصددها، وتوهم أن المسألة يمكن حسمها بعبارات عامة، وبيان ذلك أن ولاية الحج ضربان:

ولاية تسيير الحجيج: هي ولاية سياسية وزعامة وتدبير، ومن ثم لوحظ فيها وفي شرائطها التي ذكرها الإمام الماوردي الطابع العملي المرتبط بضمان سلامة الحجاج وأدائهم مناسكهم لتقوم الشعيرة، ومشمولات هذه الولاية أوسع من مجرد تعيين شخص لإمامة الناس يوم عرفة، ويمكن أن يقال إن النزاع في الولاية السياسية هو نزاع سياسي كذلك.

ولاية على إقامة الحج: هي ولاية بمنزلة الإمامة في إقامة الصلوات، وشروط الإمام في الصلاة هي شروط عامة تتلخص في الإسلام والبلوغ والعقل والذكورة وغير ذلك مما اشترط لأجل صحة الاقتداء، ولا يدخل في تلك الشروط أي اعتبار للمواقف السياسية كتلك التي ساقها البيان من أفعال الإمام التي نستنكر بعضها على الأقل، ولكنها لا تؤثر في صحة إمامته أو صلاته فقها.

فأنت ترى أن نوعي الولاية هنا لا يساعدان مصدري البيان على الحسم في ما انتهوا إليه على عكس ما توهموه، فهي -على الأقل- مسألة اجتهادية تحتمل أكثر من رأي، ولكن البيان سلك مسلكا خطابيا حين استدعى ولاية الحج ليدرج ضمنها الإمامة في يوم عرفة، ولينتهي إلى القول إن من مقاصد ولاية الحج الشرعية "صيانة عقائد وأخلاق الحجيج وأفكارهم"، فليس من وظائف خطبة عرفة ذلك ولا في طاقة الإمام في يوم عرفة أن يفعل ذلك، بل إن خطب عرفة كثيرا ما تم تسييسها، وهو أمر يجب أن تتم صيانة الشعيرة الكبرى عنه، ثم إن ولاية الحج -في التصور الفقهي الكلاسيكي- أوسع مما آل إليه الأمر في تنظيم الحج اليوم، فليس لإمام وخطيب يوم عرفة أي ولاية أبعد من مجرد الإمامة والخطبة.

النقطة الخامسة: طالب البيان الحجاج بترك الصلاة خلف الإمام المعين في يوم عرفة "خشية أن تكون الصلاة خلفه غير مقبولة لتجاوزه حد ما قرره العلماء من الصلاة خلف كل بر وفاجر" بحسب نص البيان.

ومن العجيب أن يدعو الموقعون على البيان الناس إلى ترك الصلاة الموحدة في يوم عرفة بمجرد الظن، وهو خشيتهم "أن تكون الصلاة خلفه غير مقبولة"، مع تجاهل تام لمذاهب الفقهاء في حكم الصلاة خلف الإمام الفاسق.

وقد اختلفت المذاهب الفقهية في الصلاة خلف الفاسق على مذهبين:

المذهب الأول: جواز الصلاة خلف الفاسق مع الكراهة، وهو مذهب جمهور الفقهاء، فإذا صلى خلف فاسق صحت صلاته ولا يعيد، وذلك لورود الأحاديث في هذا المعنى، وأنه يجوز الاقتداء بمن شهد الشهادتين، ولأن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وأن الحسن والحسين -رضي الله عنهما- كانا يصليان خلف مروان بن الحكم والوليد بن عقبة.

فالحنفية قالوا: يصلح للإمامة -في الجملة- كل عاقل مسلم، فدخل في ذلك المسلم الفاسق، والمعتمد عند المالكية أن الصلاة تصح مع الكراهة خلف الفاسق فسقا عمليا، كزانٍ وشارب خمر، بل إن المعتمد عند المالكية أيضا أن الصلاة تصح خلف المبتدع الذي وقع الخلاف في بدعته، هل هي مكفرة أو لا.

أما الشافعية فأجازوا الصلاة وراء الإمام الفاسق مع الكراهة، ولكنهم قالوا إن محل كراهة إمامة الفاسق إنما هي لغير الفاسق، أما إن كان المأموم فاسقا مثل الإمام فلا كراهة ما لم يكن فسق الإمام أفحش من فسق المأموم.

المذهب الآخر: عدم جواز الصلاة خلف الفاسق مطلقا، وهو مذهب الحنابلة الذين قالوا: لا تصح إمامة فاسق مطلقا، سواء كان فسقه اعتقاديا أم عمليا، وسواء أعلن فسقه أم أخفاه.

وفي حالة الفسق الخفي لا بد من أن يعلمه المأموم بنفسه بأن يكون قد اطلع عليه، وقد اختلف الحنابلة بعد ذلك في حكاية مذهبهم في إعادة الصلاة خلف الفاسق لو وقعت، فمنهم من قال: في الإعادة روايتان مطلقا، ومنهم من قال: إن لم يعلم فسقه فلا إعادة عليه، وإن علم فسقه ففي الإعادة روايتان، ومنهم من قال إن كان الإمام الفاسق مستترا في فسقه لم يُعِد المأموم صلاته خلفه، وإن كان الإمام متظاهرا بالفسق ففي الإعادة روايتان.

النقطة السادسة: نص البيان على أن الإمام المعين "تجاوز حد ما قرره العلماء من الصلاة خلف كل بر وفاجر"، ولذلك دعوا الناس إلى ترك الصلاة خلفه، وهذا كلام غير علمي، فإذا تجاوز حد ما قرره العلماء فالأليق بالبيان أن يحسم أمره ويقول: إن الصلاة خلفه لا تصح، وألا يكتفي فقط بأنه "يخشى" ألا تصح، فضلا عن أن البيان لم يوضح لنا ما هو هذا الحد الذي تم تجاوزه، خصوصا أن البيان يخلط بين أمرين: الفسق الاعتقادي والفسق العملي، فالفسق العملي سبق فيه الخلاف، ومذهب الجمهور جواز الصلاة خلف الفاسق بل وصحتها كذلك، فالفسق الذي حدده الفقهاء هو الفسق الذي يُخل بركن أو شرط من شروط صحة الصلاة كأن يصلي وهو سكران أو وهو مُحدث متعمدا.

أما الفسق الاعتقادي فهو مسألة خلافية بين الفقهاء، اللهم إلا إن كان موقعو البيان يكفرون الإمام المعين ففي هذه الحالة فقط تبطل الصلاة خلفه لمن اعتقد كفره، ولكن البيان كان مواربا في هذا واتكأ على فتوى الفوزان ولم يعمل بمقتضياتها فاكتفى بمجرد الخشية من ألا تصح الصلاة خلفه.

لم يكن الهدف هنا تأييد قرار تعيين الإمام الذي لا أراه مناسبا لهذه الوظيفة الرمزية وعظم شعيرة الحج، ولكن هدفي هو بيان ضرورة الفصل بين النشاط الحركي السياسي وبين البيان الشرعي الذي يفرض واجبات من نوع مختلف، وعدم استغلال سلطة "الشرع" لتمرير مواقف سياسية معينة مع تجاهل تام للإرث الفقهي، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. معتز الخطيب، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وأستاذ فلسفة الأخلاق في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة


: الأوسمة



التالي
في الذكرى 27 لمذبحة سربرنيتسا.. البوسنيون يقيمون مراسم لدفن رفات 50 ضحية
السابق
القره داغي: عيد الأضحى المبارك "عيد التضحية بحظوظ النفس قبل الأضحية"

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع