إضاءات على حياة خالد بن الوليد.. سيرته وأباطيل وشبهات حوله
بقلم: د. علي الصلابي
شهد التاريخ الإسلامي في حياة النبي ﷺ وبعد وفاته قادة عظاما كان لهم أثر كبير وقدم راسخة في الدعوة إلى الله ونشر دينه وقد اشتهر أمرهم وتواتر فضلهم لدى المسلمين على مر العصور حتى صار ذلك أمرا مسلما بديهيا، ومن هؤلاء القادة الصحابي الجليل والقائد الإسلامي الفذ خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فإنه عرف ببطولته وشجاعته قبل الإسلام وبعده، حتى خصه رسول الله ﷺ حال حياته بميزة ربما كانت أشرف مكرمة وأعظم تزكية في حياته كلها، فقال عنه ﷺ: (سيف الله المسلول)، ولكن أهل الشبهات الذين حبسوا أنفسهم على محاربة الدين، واختلاق الأكاذيب والشبهات الباطلة كرسوا جهودهم حول هذه القامات الكبيرة فما تركوا شخصية عظيمة أو قدوة بارزة أو قامة دينية وفكرية واجتماعية إسلامية رفيعة إلا وأساؤوا إليها زورا وبهتانا، وممن طالهم بعض هذه الشبهات الباطلة الصحابي الجليل خالد بن الوليد، رضي الله عنه. فسنتكلم أولا عن التعريف به، بذكر أصله ونسبه، ودوره في الفتوح والانتصارات، ثم ذكر الشبهات التي أثارها البعض حوله والرد عليها، والله الموفق.
التعريف بخالد بن الوليد -رضي الله عنه-: أصله ونسبه
هو الصحابي الجليل خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، ويكنى بأبي سليمان، وأمه لبابة بنت الحارث، أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث، مدحه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قائلا عنه: (نعم عبد الله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله)، وكان إسلامه قبل فتح مكة. وكان والده سيدا في قريش، ولقب بريحانة قريش، يلتقي نسبه بالرسول -عليه الصلاة والسلام- في مرة بن كعب، وقد كان -رضي الله عنه- حريصا على تربية أبنائه على الفروسية، والحرب، واستخدام الأسلحة، كما كان قبل إسلامه شديد العداء لرسالة الإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم.
وصف خالد بن الوليد بأنه شخصية عسكرية محنكة، وقائد مغوار في الحروب، وله انتصارات عظيمة، بما عرف عنه من الشجاعة والإقدام، والذكاء الحربي وحسن الحيلة والقدرة على التنظيم، والبراعة في التنفيذ.
دور خالد بن الوليد -رضي الله عنه- في الفتوح وإعلاء كلمة الله
اعتنق خالد بن الوليد -رضي الله عنه- الإسلام بعد أن جاوز الأربعين من عمره، بعد أن تلقى كلاما من رسول الله ﷺ عبر أخيه يقول فيه (لو جعل خالد نكايته مع المسلمين على المشركين لكان خيرا له، ولقد مناه على غيره…)، فأسلم خالد في السنة الثامنة للهجرة، وذهب للنبي ﷺ رفقة عمرو بن العاص (رضي الله عنهما)، وأعلن إسلامه، ففرح النبي ﷺ واستبشر خيرا.
شارك خالد بن الوليد بعد إسلامه في كثير من المعارك الحاسمة، فشارك في 5 معارك كبرى في حياة النبي ﷺ، وكان له الدور البارز فيها، وكانت له القدم الراسخة في تثبيت المسلمين ومعونتهم؛ إذ شارك في غزوة مؤتة بعد استشهاد 3 من القادة ثم أخذ الراية واستطاع بحنكته أن يحافظ على الجيش الإسلامي بخطة قوية وحنكة ذكية. كما كان له دور في فتح مكة، حيث جعل النبي ﷺ خالدا قائدا لإحدى المجموعات الأربع للجيش الإسلامي، ليدخل خالد مكة من الجنوب باتجاه الشمال، وأوصى النبي ﷺ بعدم قتل أي أحد إلا من قاتل.
وقاتل سيف الله خالد مع المسلمين في غزوة حنين، وكان في مقدمتهم وأصيب بجراحات بليغة آنذاك، وعلى الرغم من إصابته، فقد قاتل حتى كان النصر حليفا للمسلمين.
وقد أرسله النبي ﷺ في سرية إلى أكيدر بن عبد الملك (صاحب دومة الجندل) الذي كان على الدين النصراني، فنصب له كمينا واستطاع بذلك أخذ أكيدر أسيرا إلى رسول الله فصالحه النبي ﷺ على الجزية وأطلق سراحه.
هذه بعض الغزوات والمعارك التي شارك فيها خالد رضي الله عنه في حياة النبي ﷺ، وله تاريخ كبير وحافل من الفتوح والانتصارات بعد حياة النبي ﷺ في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم (فتح بلاد الشام والعراق، بسام العسلي).
شبهات وأباطيل حول عزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد
ساء تقدير أهل الشبهات والأباطيل، وأصحاب التفكير الانتقائي والسطحي، وأهل الشهرة والإعجابات (اللايكات) على مواقع التواصل الاجتماعي، وكذلك أعداء الأمة من فرق باطلة وتيارات لادينية، وأخفقت مخططاتهم في الطعن وتشويه رموز وشخصيات أمتنا الإسلامية العظيمة. وربما وجد هؤلاء -من باب الحقد الدفين أو الأغراض الدنيوية الرخيصة- مجالا مفتوحا لتصيد الروايات والأحداث التي تتناول صحابة رسول الله (ﷺ)، وقراءتها بطرقهم وأيديولوجياتهم الخاصة، بهدف إظهار الصحابة والتابعين والسلف الصالح بمظهر لا يليق بهم، ومحاولة زعزعة مكانتهم وقيمتهم في نفوس المؤمنين، فإذا لم يجدوا شفاء نفوسهم، اختلقوا ما ظنوه يجوز على أذهان القارئين، لكي يصبح أساسا ثابتا لما يتناقله الرواة، وتسطره كتب المؤلفين المعاصرين.
ومن جملة من طالهم الاتهام والتشويه، أمير المؤمنين وفارق الإسلام عمر بن الخطاب، وسيف الله المسلول وقائد جيوش الفتح والدعوة إلى الله خالد بن الوليد (رضي الله عنهما)، فقد تعرضا لتشويه وافتراءات المبطلين وأهل الشبهة الذين حاولوا تشويه تاريخهما المجيد، ووقفوا كثيرا عند أسباب عزل أمير المؤمنين الخليفة عمر بن الخطاب خالد بن الوليد (رضي الله عنهما)، وألصقوا التهم الباطلة بالرجلين العظيمين، وأتوا بروايات لا تستند إلى أساس، ولا تقوم على البرهان أمام التحقيق العلمي النزيه. وإليك قصة عزل خالد بن الوليد على حقيقتها بدون لف، أو تزوير الحقائق، فقد مر عزل خالد بن الوليد بمرحلتين، وكان لهذا العزل أسباب موضوعية.
العزل الأول: لماذا عزل الفارق عمر بن الخطاب خالد بن الوليد (رضي الله عنهما)؟
عزل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خالد بن الوليد في المرة الأولى عن القيادة العامة وإمارة الأمراء بالشام، وكانت هذه المرة في السنة الثالثة عشرة من الهجرة، غداة تولي عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكر الصديق (رضي الله عنهما)، وسبب هذا العزل اختلاف منهج الصديق عن الفاروق في التعامل مع الأمراء والولاة؛ فالصديق كان من سنته مع عماله، وأمراء عمله أن يترك لهم حرية التصرف كاملة في حدود النظام العام للدولة، مشروطا ذلك بتحقيق العدل كاملا بين الأفراد والجماعات، ثم لا يبالي أن يكون لواء العدل منشورا بيده، أو بيد عماله، وولاته، فللوالي حق يستمده من سلطان الخلافة في تدبير أمر ولايته من دون رجوع في الجزئيات إلى أمر الخليفة. وكان أبو بكر لا يرى أن يكسر على الولاة سلطانهم في مال، أو غيره ما دام قائما في رعيتهم.
وكان الفاروق قد أشار على الصديق بأن يكتب لخالد ـرضي الله عنهم جميعاـ "ألا يعطي شاة، ولا بعيرا إلا بأمره (أي أمر أبي بكر)"، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك، فكتب إليه خالد: "إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك، وعملك"، فأشار عليه بعزله، ولكن الصديق أقر خالدا على عمله.
ولما تولى الفاروق الخلافة أراد أن يعدل بولاة أبي بكر -رضي الله عنه- إلى منهجه، وسيرته، فرضي بعضهم، وأبى آخرون، وكان ممن أبى عليه ذلك خالد بن الوليد فعزله عمر -رضي الله عنهما- (خالد بن الوليد، صادق عرجون، ص (332.(
العزل الثاني: قصة عزل سيف الله خالد بن الوليد للمرة الثانية
وفي بلدة قنسرين، جاء العزل الثاني لخالد، وذلك في السنة السابعة عشرة، فقد بلغ أمير المؤمنين: أن خالدا وعياض بن غنم أدربا في بلاد الروم، وتوغلا في دروبهما، ورجعا بغنائم عظيمة، وأن رجالا من أهل الآفاق قصدوا خالدا لمعروفه، منهم الأشعث بن قيس الكندي، فأجازه خالد بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه شيء في عمله، فكتب عمر إلى قائده العام أبي عبيدة يأمره بالتحقيق مع خالد في مصدر المال الذي أجاز منه الأشعث تلك الإجازة العامرة، وعزله عن العمل في الجيش إطلاقا، واستقدمه المدينة، وتم استجواب خالد، وقد تم استجواب خالد بحضور أبي عبيدة، وترك بريد الخلافة يتولى التحقيق، وترك إلى مولى أبي بكر يقوم بالتنفيذ، وانتهى الأمر ببراءة خالد من أن يكون مد يده إلى غنائم المسلمين، فأجاز منها بعشرة آلاف ولما علم خالد بعزله، ودّع أهل الشام، فكان أقصى ما سمحت به نفسه من إظهار أسفه على هذا العزل الذي فرق بين القائد وجنوده أن قال للناس: إن أمير المؤمنين استعملني على الشام حتى إذا كانت بثينة، وعسلا؛ عزلني. فقام إليه رجل فقال: اصبر أيها الأمير! فإنها الفتنة. فقال خالد: أما وابن الخطاب حي، فلا.
وكتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة، ولا خيانة، ولكن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه، ويبتلوا به، فأحببت أن يعلموا: أن الله هو الصانع، وألا يكونوا بعرض فتنة (البداية والنهاية ،7/115).
وفاة خالد بن الوليد (رضي الله عنه)
وفي بلاد الشام -أرض الجهاد- في حمص تحديدا سنة 21 للهجرة، ألمّ بخالد (رضي الله عنه) مرض الموت وأحاطت به سكراته بعد مسيرة عظيمة من الدعوة والجهاد في سبيل الله.
دخل أبو الدرداء على خالد في مرض موته، فقال له خالد: يا أبا الدرداء! لئن مات عمر؛ لترين أمورا تنكرها. فقال أبو الدرداء: وأنا والله أرى ذلك! فقال خالد: قد وجدت عليه في نفسي في أمور، لما تدبرتها في مرضي هذا، وحضرني من الله حاضر؛ عرفت: أن عمر كان يريد الله بكل ما فعل، كنت وجدت عليه في نفسي حين بعث من يقاسمني مالي، حتى أخذ فرد نعل وأخذت فرد نعل، ولكنه فعل ذلك بغيري من أهل السابقة، وممن شهد بدرا، وكان يغلظ علي، وكانت غلظته على غيري نحوا من غلظته علي، وكنت أدل عليه بقرابته، فرأيته لا يبالي قريبا، ولا لوم لائم في غير الله، فذلك الذي ذهب عني ما كنت أجد عليه، وكان يكثر علي عنده، وما كان ذلك إلا على النظر؛ فقد كنت في حرب، ومكابدة، وكنت شاهدا، وكان غائبا، فكنت أعطي على ذلك، فخالفه ذلك في أمري (تهذيب تاريخ دمشق، 5/116).
ولما حضرته الوفاة، وأدرك ذلك، بكى وقال: ما من عمل أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتها وأنا متترس والسماء تنهل علي، وأنا أنتظر الصبح حتى أغير على الكفار. فعليكم بالجهاد، لقد شهدت كذا، وكذا زحفا، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء! لقد طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي (خالد بن الوليد، صادق عرجون ص، 348).
خاتمة:
لم يكن خالد بن الوليد -رضي الله عنه- رجلا عاديا، بل قامة تاريخية عظيمة، وصحابيا جليلا، ومن رجالا الإسلام الذين أسسوا لدعوة الله ورسالة التوحيد في الأرض، ومن حماتها العظام الذين نشروا الدين وفق المنهج القرآني في الجهاد والتعامل مع غير المسلمين ومعرفة الحق والذود عنه، ودفع الباطل ومحاربة أهله، ولم يترك (بعد إسلامه) معركة ولا فتحا في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا معركة أيام أبي بكر الصديق، إلا وبذل الغالي والرخيص ليكون على رأسها فاتحا ومنتصرا بقوة الله وعزيمة الحق وأخلاق المؤمنين، وأما ما قيل عنه من زور وباطل، فهو زبد يذهب جفاء، قال تعالى: {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} [الرعد: 17].
ملاحظة: استقى المقال مادته من كتاب "عمر بن الخطاب"، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد كثيرا من كتاب "خالد بن الوليد"، للدكتور صادق عرجون.
المراجع:
- تهذيب تاريخ ابن عساكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثالثة 1407هـ/ 1987م.
- خالد بن الوليد، صادق عرجون، الدار السعودية، الطبعة الرابعة 1407هـ/ 1987م.
- تاريخ الأمم والملوك، لأبي جعفر الطبري، دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ/ 1987م.
- البداية والنهاية، أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي، دار الريان، القاهرة الطبعة الأولى 1407هـ/ 1988م.
- نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ظافر القاسمي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الثالثة 1407هـ/ 1987م.
- أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، إبراهيم شعوط، المكتب الإسلامي، الطبعة السادسة 1408هـ/ 1988م.
- عبقرية خالد، عباس محمود العقاد، المكتبة العصريةـ بيروت.
- الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، حمدي شاهين، دار القاهرة بدون تاريخ الطبعة.
- عمر بن الخطاب، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2003م.
- الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، حمدي شاهين، دار القاهرة بدون تاريخ الطبعة.
- حروب الإسلام في الشام في عهود الخلفاء الراشدين، محمد أحمد باشميل، الطبعة الأولى 1400هـ/ 1980م.
- صحيح التوثيق في سيرة وحياة الفاروق عمر بن الخطاب، مجدي فتحي السيد، دار الصحابة للتراث بطنطا، الطبعة الأولى 1417هـ/ 1996م.
- الطريق إلى المدائن، أحمد عادل كمال، دار النفائس، الطبعة السادسة 1406هـ /1986م.