"عاشوراء".. انتصار الحرية على الطغيان
بقلم: د. وصفي عاشور أبوزيد
عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ ﷺ، لَمّا قَدِمَ المَدِينَةَ، وجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا، يَعْنِي عاشُوراءَ، فَقالوا: هذا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وهو يَوْمٌ نَجّى اللَّهُ فيه مُوسى، وأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصامَ مُوسى شُكْرًا لِلَّهِ، فَقالَ أَنا أَوْلى بمُوسى منهمْ فَصامَهُ وأَمَرَ بصِيامِهِ. [أخرجه البخاري في صحيحه].
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: وحِينَ صامَ رَسولُ اللهِ ﷺ يَومَ عاشُوراءَ وَأَمَرَ بصِيامِهِ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، إنَّه يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ اليَهُودُ والنَّصارى فَقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: فَإِذا كانَ العامُ المُقْبِلُ إنْ شاءَ اللَّهُ صُمْنا اليومَ التّاسِعَ قالَ: فَلَمْ يَأْتِ العامُ المُقْبِلُ، حتّى تُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ ﷺ.
توضح هذه الرواية الصحيحة أن موسى عليه السلام صام هذا اليوم؛ شكرًا لله تعالى على نجاته من فرعون، وأن فرعون هو رمز “الاستبداد” و ”الطغيان”، ونجاة موسى وقومه من الطغيان تعني انتصار الحرية وعدم هزيمتها أمام جبروت فرعون وطغيانه، وتبعه اليهود في هذا الصيام.. فحين وصل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ووجد اليهود يصومون هذا اليوم اتباعًا لموسى عليه السلام، فقال هذه المقولة المحفوظة: “أَنا أَوْلى بمُوسى منهمْ فَصامَهُ وأَمَرَ بصِيامِهِ”.
وهنا لابد لنا من وقفات:
أولا: أن الأنبياء يَصْدُرون من مشكاة واحدة، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الأنْبِياءُ أَوْلادُ عَلّاتٍ”. [جزء من حديث متفق عليه]. وأولاد علات يعني أنهم إخْوة لأبٍ واحدٍ من أمهاتٍ مختلفة، والمعنى: أنَّ شَرائعَهم مُتَّفقةٌ من حيثُ الأُصولُ، وإنِ اختَلَفت مِن حيثُ الفُروعِ حَسَبَ الزَّمنِ وحَسَبَ العُمومِ والخُصوصِ. فهؤلاء الأنبياء مشتركون في بناء واحد ومهمة واحدة، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم متممًا وخاتما في هذا البنيان الشاهق الكبير العريق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلة الله عليه وسلم قال: “إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ هَلّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ وأنا خاتِمُ النبيِّينَ”. [متفق عليه، واللفظ للبخاري].
ثانياً: أن مهمة الأنبياء هي تحرير الناس مطلقًا، سواء أكان هذا التحرير من عبادة غير الله، أو من الهوى والشيطان، أو من سلطان متجبر طاغٍ في الأرض يمنع عن الناس هداية الله، ويصدهم عن سبيله، ويحجزهم عن اتباع رسله وأنبيائه، وهذا ما عبر عنه ربعي بن عامر رضي الله عنه الذي وعى عن النبي رسالته التي هي مستودع كل ما سبقه من الرسالات، فقال لرستم: “اللَّهُ ابْتَعَثَنَا، وَاللَّهُ جَاءَ بِنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إِلَى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الإِسْلامِ”. [تاريخ الطبري: 3/ 520. دار التراث. بيروت.الطبعة الثانية.1387هـ].
ثالثا: أن الحرية تستحق كل تضحية، وتستوجب بذل كل غال ونفيس، من أجل هذا تدخلت عناية الله لتحرير موسى وقومه بعدما أخذ موسى بكل الأسباب المتاحة له وقبل ذلك وبعده استصحاب معية الله وتلبية أمره “قَالَ كَلَّاۤۖ إِنَّ مَعِیَ رَبِّی سَیَهۡدِینِ” [الشعراء: 62]، ثم شكر موسى لربه على هذه النعمة: نعمة التحرير، نعمة انتصار الحرية على الطغيان، وهي نعمة كبيرة تعادل الحياة؛ ولهذا علل الزمخشري كفارة قتل الخطأ بتحرير رقبة بقوله: “لما أخرج نفسًا مؤمنة عن جملة الأحياء لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار، لأنّ إطلاقها من قيد الرق كإحيائها”. [تفسير الزمخشري: 1/549. دار الكتاب العربي. الطبعة الثالثة. 1407هـ].
ولذلك أيضا رأى العلامة محمد الطاهر ابن عاشور أن من المقاصد العالية للشريعة الإسلامية "حصول الحرية"، وأن استقراء تصرفات الشريعة دل "على أن من أهم مقاصدها إبطالَ العبودية وتعميمَ الحرية". [مقاصد الشريعة الإسلامية: 3/ 372-373. طبعة الحبيب بلخوجة. قطر].
رابعًا: أن صيام أمة محمد صلى الله عليه وسلم واحتفاءها بهذا اليوم – يوم انتصار الحرية – هو صيام مميِّز، يميز الأمة عن غيرها ويحفظ لها استقلاليتها؛ فحين قدم النبي المدينة ووجد القوم يصومون هذا اليوم قال له المسلمون إن اليهود والنصارى يعظمونه، ومن مقتضيات العقيدة مخالفة اليهود والنصارى، فقال قولته المعروفة التي رواها مسلم بسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "لَئِنْ بَقِيتُ إلى قابِلٍ لَأَصُومَنَّ التّاسِعَ". فَلَمْ يَأْتِ العامُ المُقْبِلُ، حتّى تُوُفِّيَ رَسولُ اللهِ ﷺ.
الحرية في عصرنا:
إن من أهم ما يجب أن يسعى له المسلمون والعاملون له هو انتزاع الحرية من الطغاة والطغيان والقضاء على المستبدين والاستبداد، لا سيما في ظل ما تقوم به الثورة المضادة والمضادون للثورة من إجهاض لثورات الشعوب ورغبتها في امتلاك إرادتها واختيار من يمثلها ويحكمها، وإنني أرى أن معركة المسلمين الأولى اليوم هي الحرية؛ فإن الاستبداد هو أساس كل داء، وأصل كل بلاء، وحسبنا ما وصفه به الكواكبي في وديعته للأجيال “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، قال عنه إنه: “داء أشد وطأة من الوباء، أكثر هولا من الحريق، أعظم تخريبا من السيل، أذل للنفوس من السؤال، داءٌ إذا نزل بقوم سمعتْ أرواحُهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء، والأرضَ تناجي ربها بكشف البلاء”.
ولا نريد أن ندخل في جدال عقيم: هل الشريعة أولا أم الحرية؟ فالذي أراه أن الواجب علينا هو أن يمتلك المسلمون أدوات القوة المنضبطة التي تفرض الحرية المنضبطة أيضا، وتُحكّم الشريعة الغراء، لا تفرضها فرضًا أو تلزم الناس بها إكراها، وإنما يملكون من أدوات القوة ما يستطيعون به أن يُمضوا أمورهم، ويحققوا رسالتهم، وهي أن يُسعدوا البشرية بالوحي الإلهي الذي نزل لرعاية مصالح العباد في المعاش والمعاد جميعا.. وهذه هي المعركة الحقيقية.
متوالية الحرية والطغيان
والذي نعيشه اليوم هو مصادرة الطغيان للحرية، ومحاولات جاهدة ونافذة لتأديب الشعوب على حراكهم الذي قاموا به مطالبين بالحرية يعظونهم ألا يعودوا لمثله أبدا إن كانوا يريدون العيش بأمن وسلم، ويجعلون كل شعب قام بذلك أو يفكر في ذلك عبرة لشعوب الأرض عن طريق قتلهم ومطاردتهم واعتقالهم وتقسيم أوطانهم.
وهذه المعركة – معركة الحرية والطغيان – سماها العلامة محمد أحمد الراشد “متوالية الحرية والطغيان” يقول: “وفحوى هذه المتوالية أن الطغيان إذا اشـتد جداً: تحركت أشواق الحرية في دواخل الناس فتكون ثورة تنهي الطغيان، حتى إذا رفل الناس بالخيرات والحرية مدة طويلة ضعفت احتياطاتهم، فيـسـتـيـقظ طاغية جديد يـسـتـثـمر غفلة الناس ونسيانهم لذكريات الطغاة، فيتكرر السوء، حتى إذا طال زمنه وزاد البغي: انتفض الناس وثاروا، ثم من بعد مدة يغفلون، وهكذا تـسـتمر هذه المتوالية، لكن مدة الحرية تكون أطول في كل مرة، بتأثير الوعي النامي، حتى يصل الأمر بعد تكررات عديدة إلى استقرار عهد الحرية وانقطاع الظلم”. [الردة عن الحرية: 12].
إن يوم عاشوراء الذي نجى الله فيه موسى من فرعون، وحرره فيه من الطغيان والاستبداد حري بأن يجعله المسلمون يوما عالميا للحرية لا سيما في هذا العصر الذي يسعى فيه العرب والمسلمون لانتزاع هذه الحرية، ومواجهة الطغيان والاستبداد الذي جاءت رسالة الإسلام لتحرير الناس منه، وهذه هي المعركة الحقيقة التي يجب على المسلمين أن يسهروا عليها: علمًا راسخا، وعملاً دؤوبا، وجهادًا متواصلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. وصفي عاشور أبوزيد عضو مجلس الأمناء ورئيس لجنة التزكية والتعليم الشرعي