ثلاثية الإنسان والطغيان وغزّة
بقلم: محمد خير موسى
كلّما تقدّمت التقنيّة الشريرةُ تراجع الإنسان، وكلّما استعلى طغيان السلاح انخفضت قيمة الفعل الإنسانيّ. وفي مقاييس الردع، غدا السلاح هو الفاعل، وهو صاحب القرار الحقيقيّ في عالمٍ يعيش سباق التسلّح المحموم بأبشع صوره. كثيرون يستشهدون بقول صمويل كولت، فور انتهائه من اختراع المسدّس: “الآن يستوي الجبان والشجاع”؛ على انسحاب الإنسان من ميدان الفعل والمواجهة لصالح السلاح، حتّى غدا معشّشا في أذهان الكثيرين عدم جدوى إرادة الإنسان في ظلّ تغوّل قوّة الأزرار.
خَوَر طغيان الاستبداد أمام طغيان الاحتلال
وفي حالةٍ مثل دولة الاحتلال الإسرائيليّ، وهي دولةٌ نوويّة، ومن أكثر الدول تفوّقا في الصناعات العسكريّة، ومصدّرةٌ لأرقى أنواع الدبابات، فإننّا نتلمّس خَوَر العروش الممتدة من المحيط إلى المحيط أمامها، وعدم تجرُّئها على التفكير في مبدأ المواجهة، بعد أن آمنت هذه العروش بالسلاح الذي تتوسّله من عدوّها، وكفرت بالإنسان الذي حوّلته في البلاد التي علا فيها طغيان الاستبداد؛ إلى عبدٍ لا يجد قيمة أو جدوى في الدّفاع عن أيّ شيء وعن أيّ أحد. ففي زمن التماهي بين الوطن والزعيم، لا يجد الإنسان نفعا لأيّ بذلٍ منه سوى أنّه تحسينٌ لشروط عبوديّته.
قوة الشعب ميدان مزايدة الاستبداد
في كلّ خطابات الزعماء العرب كان الشعب حاضرا بقوّة، فعند حافظ الأسد “قوتان لا تقهران؛ قوّة الله وقوّة الشعب”، وعنده كذلك “الإنسان هو غاية الحياة وهو منطلق الحياة”. وفي خطب جمال عبد الناصر التي تخطّت حاجز ألف خطبة، لا تكاد تجد فيها واحدة لا تنطوي على مصطلحات “قوّة الشعب” و”إرادة الشعب” و”الإيمان بالشعب”.. وهكذا كلّ الذين يجثمون على رقاب الشعوب ويجلدونها بسياط الخُطب والعنتريّات عقودا مالحة. لكنّ هذا الشعب لا يملك من الوطن شيئا، ولا يعرف من الوطن أكثر من تماثيل الزعيم وصوره التي تتناثر على امتداد جغرافيا القهر.
“كرّ وأنت حرّ”
وفي ظلّ هذا الانسحاب الإنساني لصالح طغيان السلاح وطغيان الاستبداد تأتي حوادث مفصليّة لتعيد التوازن إلى طريق تنافي التفكير وتعاطينا مع قيمة الإنسان، واقعيًّا لا شعاراتيًّا. فعندما أغارت إحدى القبائل على مضارب قبيلة عبس وهزمت كبار سادتهم، ومنهم شداد، وأخذت نساءهم سبايا، واستنجد منادي عبس: “ويكَ عنترة أقدم”، تقاعس عنترة، فجاءه أبوه الذي كان يرفض الاعتراف به ليس بوصفه ولدا فحسب، وإنما بوصفه إنسانا.. وقال له: “كرّ يا عنترة”، أي اهجم وحارب، فقال عنترة: “إنَّ العبد لا يحسن الكرّ والفرّ وإنما يحسن الحلاب والصرّ”، فقال شداد: “كرّ وأنت حرّ”، فقال: الآنَ إذن. فما زال الإنسان في ظلّ الطغيان لا يرى نفسه إلا حلّابا للزعيم، ولا يرى الشعب والوطن إلا محلوبا له، فعن أيّ شيءٍ يدافع؟ وعمّن يدافع؟! إنّ كلًّا من طغيان السلاح في العالم وطغيان الاستبداد في الأوطان لا يقوم بنيانُهما إلا على أنقاض الإنسان، فكلّما ارتفعا كفرَ الإنسان بذاته، وانسحب مخذولا من مشهد الفعل والتأثير.
وجاءت غزّة
حتّى إذا جاءت غزّة في ليلٍ بهيم زاغت فيه الأبصار وتكلّست فيه الآمال؛ فأعادت إلينا اليقين بأنّ الإنسان لا السلاح هو الفاعل الحقيقيّ، وأنّ الإنسان هو القوّة العظمى التي أهدرها الطغاة، وأنّ الإنسان هو قبلة النصر الحقيقيّ.. الإنسان الذي رضع الحريّة حتّى ارتوت منها أطراف أظافره، فهو الذي يعرف جيدا عمّن يدافع ولمَ يكرّ. لا يغدو الإنسان جبانا حينَ يملك عدوّه السّلاح، ولكن عندما يفقد إرادة المواجهة ومبررها، فلا قيمة للشجاعة من أجل وطنٍ ليس لنا وكرامةٍ لن ننال بدمائنا شيئا منها.
غزّة اليوم، وهي التي لا تملك من السلاح شيئا مقارنة بما يملكه عدوّها، تقول لنا إنّها عندما ملكت الإنسان الذي آمن بنفسه إنسانا مقاتلا في درب الحريّة، وشعبا حاضنا يتحمّل المشاقّ الجسام من أجل زاد عظيم من الكرامة، قد أعادت للإنسان اعتباره بعد أن عمل الطغاة على تهشيمه في أشباه أوطان، وعملت عولمة السلاح على مسح قيمته في غابة يقال لها الكرة الأرضيّة. فالذي يصنع النّصر في غزّة ليس السلاح ولا الصواريخ، بل الإنسان الذي عرف أنّه لم يخلق للحلاب والصرّ، بل خلق ليكون هو غاية الحياة، وهو منطلق الحياة ولكن بمنطق غزّة الفطريّ السويّ؛ لا بمنطق حافظ الأسد والطغاة من أشباهه.