بسم الله الرحمن الرحيم
المقاصد الشرعية من تداول الأموال؛
بقـلم: الدكتور أحمد الإدريسي - عضو الاتحاد
(الجزء الأول)
الحمد لله رب العالمين، وصلى على سيدنا محمد، وعلى ءاله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا إلى يم الدين.
من مقاصد الشرع الحكيم في وضع الشريعة؛ تحقيق مصالح العباد في الدارين، وأن يتمكنوا من القيام بالتكاليف الشرعية، لذلك جعل الشارع هذه التكاليف مفهومة لهم، وجعل المكلَّفين قادرين على تطبيقها، يقول الإمام الشاطبي: (تكاليف الشريعة ترجعُ إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ضرورية، والثاني: أن تكون حاجية، والثالث: أن تكون تحسينية)[1]. فالمقاصد الضرورية؛ هي التي تقوم عليها حياة الناس، ويتوقَّف عليها وجودهم في الدنيا، لا يستقيم النظام إلا بها، وقد يختل باختلالها. وإذا انخرمت تؤول حالةُ الأمة إلى فسادإما واقع أو متوقع. وهذه الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل[2] والمال.
وسنقف في هذا المقال، بحول الله، وقفة تأمل مع مقصد حفظ المال، وبالأساس؛ "المقاصد الشرعية من تداول الأموال".
إن المقصد الأساس للأموال هو؛ أن تكون قياما وقيمة. وكونها قياما بالمصالح هو الأصل، وكونها قيمة للناس والأشياء تبع لقيامها بالمصالح، لأن من لا يملك مالا يقوم بمصالحه لا قيمة له فيما من شأنه أن لا يُقضى إلا بالمال. ومن جهة أخرى يكون مقصد حفظ المال بأمرين[3]، هما:
1- حفظه من جانب الوجود، بتنميتِه تنميةً مشروعة؛ ولذا شرع الله تعالى طرقًا لكسبه، وإنفاقه، وتنميته.
2- حفظه من جانب العدم، بتحريم السرقة والغش، والرشوة، بل إن الشارع أقام عليها عقوبات مقدرة وغير مقدرة، فقال تعالى في حد السرقة: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾(المائدة: 38).
ومقاصد الشريعة الإسلامية من تداول الأموال بالجملة خمسة[4]، وهي:
1- حفظ الأموال،
2- إثبات الأموال،
3- وضوح الأموال،
4- رواج الأموال واستثمارها،
5- العدل في الأموال.
وسنناقش كل مقصد على حدة، بإذن الله تعالى، في خمسة مباحث.
المبحث الأول: مقصد حفظ المال؛
حفظ المال من الضروريات الخمس، ويشمل المال العام والمال الخاص، قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾(النساء: 29). وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا)[5].
وقد بيّن أئمة الأصول والمقاصد، أن مقاصد الشرع متعلقة بمصالح العباد في الحال والمآل، ثم بينوا أن مصالح العباد رهينة بحفظها، وبالمقابل يعتبر تركها إضرارا بمصالحهم، مستدلين بعموم نصوص الشريعة الإسلامية. يقول الإمام الغزالي رحمه الله: (إن مقصود الشرع من المال خمسة؛ أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة)[6]. وبالنسبة ل"حفظ المال"؛ أوجب الشرع الحفاظ عليه صيانة لمصالح العباد؛ فحرّم ما يهدد وجوده كتبذيره وأكل أموال الناس بالباطل، وأمر بكل ما يؤدي إلى تعزيزه وتنميته بالكسب الحلال والاستثمارات المباحة، وإنفاقه في الوجوه التي رغب الشرع فيها. ويكون ذلك بثلاثة أمور أساسية، وهي:
1- حفظ أجزاء المال المعتبرة من التلف بدون عوض.
2- حفظ مال الأمة من الإتلاف.
3- حفظه من الخروج إلي أيدي غير الأمة بدون عوض.
وحفظ المال يكون أيضا من جهة الوجود ومن جهة العدم:
1- حفظ المال من جهة الوجود:
شرعت أحكام لحفظ المال من جهة الوجود، ومنها الحث على العمل، والكسب الحلال، والبحث عن الرزق، وإجلاله، وجعله عبادة وقربة يثاب عليها صاحبها. قال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ﴾(الجمعة:10). وقال عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾(الملك:15).
- إباحة البيوعات والإجارات وكما يسهم بطريق مشروع في تبادل الأموال وترويجها بين الناس.
- التكسب وهو إيجاد ما يسد الحاجة إما بعمل أو بدن أو بالمرضاة مع الغير.
- العمل في الشيء مع مالكه، كالمغارسة و القراض والشركة. والتبادل بالعوض عن طريق انتقال المال بالتبرع أو الإرث.
- إحياء الأرض الموات.
ومن وسائل حفظ المال:
- العمل لأنه وسيلة التنمية والاستثمار.
- الأرض.
- رأس المال لأنه وسيلة لإدامة العمل،
- ضبط نظام السوق.
- ضبط نظام الأوقاف ومصاريف الزكاة.
2- حفظ المال من جهة العدم:
أ- أحكام لحفظ المال من جهة العدم: من أهم الأحكام التي شرعت لحفظ المال من جهة العدم:
- تحريم السرقة والرشوة والغصب، وتشريع العقوبات والزواجر والجوابر المترتبة على ذلك.
- تحريم تبذير المال وإضاعته، ولو في المباح المشروع.
- ضمان المتلفات، ولو ممن اضطر غلى ذلك الإتلاف.
ب- أهم الوسائل لحفظ المال من جهة العدم:
- منع الاعتداء على الأموال.
- منع الإسراف والتبذير.
- تامين ثقة المكتسب بالأمن على ماله.
- غرم المتلفات.
- تحريم الربا.
المبحث الثاني: مقصد إثبات المال؛
إذا كان المقصد العام من التشريع المالي، كما يقول المقاصديون، هو؛ "إثراء الأمة، أفرادا ومجتمعات ودولا"، لأجل القيام بدور الخلافة على منهج العبادة. فإنه يجب أن تكون ملكيتها ثابتة لأصحابها بوجه صحيح دون منازعة، وأن يتمكنوا من التصرف فيها بحرية، ما لم يخالف أحد شرع الله والقوانين المنظمة، وما لم تتعارض تصرفاته مع مصلحة الأمة، أو مع مصالح الآخرين.
أولا: إثبات الأموال،
من مقاصد الشرع الحكيم في إثبات التملك والاكتساب:
1- ألا ينتزع المال من مالكه بدون رضاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن أحيا أرضًا ميتةً فَهيَ لَهُ، وليسَ لعِرقِ ظالمٍ حقٌّ)[7].
2- اختصاص المالك بما تملكه بوجه صحيح ولذلك شرع الإشهاد، وعلى ذلك بُـنيت أحكام صحة العقود وحملها على الصحة والوفاء بالشرط وفسخ ما تطرق إليه الفساد.
3- حرية مالك المال في التصرّف فيه تصرفاً لا اعتداء فيه على أحكام الشريعة، لا ضرر فيه على الغير.
ثانيا: وسائل إثبات المال؛
شرع الإسلام طرق الإثبات عموما، ووسائل إثبات المال خاصة، ونظم القانون طرق إثبات الحقوق، ومنها:
1- الإقرار: يعرف الإقرار بأنه اعتراف شخصي بادعاء يوجهه إليه شخص آخر. وأنه: "اعتراف الخصم أمام القضاء بواقعة قانونية مدعى بها عليه، وذلك أثناء السير في الدعوى المتعلقة بها الواقعة".
2- شهادة الشهود أو البينة الشفهية: قبل اكتشاف الكتابة كانت البينة الشفهية تحتل الصدارة في مجال الإثبات، عن طريق شهادة الشهود، وهي: "إخبار من شخص ليس خصما في مجلس القضاء بإجراءات معينة منها حلف اليمين بما رآه أو سمعه، أو أدركه بحاسة من حواس الإدراك".
وقيل هي؛ "التصريح الذي يدلي به الشخص أمام القضاء بواقعة صدرت من غيره وترتب عليها حق لهذا الغير"، ويجب أن تكون هذه الواقعة المصرح بها وصلت إلى علم الشاهد بسمعه أو بصره، كأن يسمع تعاقدا بين طرفين فيشهد بما سمع أو رأى.
ويشترط في الشاهد أن يكون راشدا متمتعا بكامل الأهلية، كما تقبل شهادة الطفل المميز وتسمع شهادته بدون يمين وتكون على سبيل الاستئناس والاستدلال، كما يشترط في الشاهد ألا يكون محكوما عليه بعقوبة جنائية لم تنته مدتها بعد، ويمكن أن تُـسمع منه على سبيل الاستدلال. وتوجد حالات يجوز فيها الإثبات بشهادة الشهود، والتي اختص بها القانون التجاري.
3- الكتابة: وتتضمن المحررات: مع اكتشاف الكتابة تضاءل دور البينة خاصة في زمان الناس هذا، والذي يمنحها القوة الثبوتية المطلقة، لذلك قالوا: "الكتابة تبقى والكلمات تزول"، وتعود أهمية الكتابة إلى وضوحها كدليل إثبات مع ديمومتها، حيث تبقى بعد وفاة من حررها أو من وقع عليها. والمحررات نوعان:
- المحررات الرسمية: وهي: "العقد الرسمي عقد يثبت فيه موظف أو ضابط عمومي أو شخص مكلف بخدمة عامة وفق ما تم لديه أو تلقاه من ذوي الشأن، وذلك طبقا للأشكال القانونية وفي حدود سلطته واختصاصه".
- المحررات العرفية: ويقصد بها كل ورقة مكتوبة يحررها أطراف عاديون دون تدخل أطراف رسمية، وتنقسم بدورها إلى محررات عرفية معدة للإثبات، ومحررات عرفية غير معدة للإثبات:
* المحررات العرفية المعدة للإثبات، وهي التي لابد فيها من توفر شرطين لانعقاد المحرر العرفي المعد للإثبات وهما: شرط الكتابة وشرط التوقيع.
* المحررات العرفية غير المعدة للإثبات، وتتمثل في: البرقيات، والرسائل، والدفاتر التجارية، والأوراق المنزلية، وكل ما يفيد التأشير على سند الدَّين وبما يفيد براءة ذمة المدين.
4- اليمين: وتسمى أيضا "اليمين الحاسمة" لأنها تحسم النزاع، وهي اليمين التي توجه من أحد الخصمين للآخر بقصد حسم النزاع، حيث يجوز لكل من الخصمين أن يوجه اليمين الحاسمة إلى الخصم الآخر. وقد حذر الإسلام من اليمين الغموس، لأنها يمين كاذبة يقتطع بها الإنسان حق أخيه من غير موجب شرعي. لذلك شدد النبي ﷺ الوعيد فيها، فعن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة)[8].
5- المعاينة: يقصد بالمعاينة انتقال القاضي أو من يكلفه من أعوان القضاء كالمحضرين إلى مكان النزاع لمعاينته بنفسه أو بموجب أمر صادر عنه، ويعتبر المشرع المعاينة طريقةً من طرق الإثبات يلجأ إليها القاضي من تلقاء نفسه أو بطلب من أحد الخصوم لإثبات واقعة مادية تستوجب معاينتها للفصل في النزاع.
6- اعتبار القرائن: القرينة هي ما يستخلصه القاضي أو المشرع من أمر معلوم الدلالة على أمر مجهول، وبذلك تعتبر القرائن أدلة غير مباشرة، حيث لا ينص الإثبات فيه مباشرة على الواقعة محل التعدي، وإنما على واقعة أخرى بديلة. والقرائن نوعان:
- قرائن قانونية: وهي التي يستنبطها المشرع من حالات يغلب وقوعها، والقرينة القانونية تغني من تقررت لمصلحته عن أية طريقة أخرى من طرق الإثبات، ومعنى ذلك أن القرينة إذا وجدت في صالح المدعي فإنها تعفيه من عبء الإثبات المباشر الذي كان مكلفا به.
- قرائن قضائية: يترك فيها التقدير للقاضي لاستنباط كل قرينة لم يقررها القانون.
7- الخبرة القضائية: أصبحت الخبرة طريقا من طرق الإثبات، خاصة مع تطور وسائل العصر؛ العلمية والتكنلوجية، ولاسيما في بعض المسائل الفنية الدقيقة، أو القضايا العلمية التي يصعب على القاضي إدراكها والوقوف على حقيقتها دون الاستعانة بخبير أخصائي، فالخبرة هي وسيلة للتحري في جميع فروع القضاء سواء منها المدني أو الجنائي أو التجاري أو الإداري.
يتبع....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقـلم: الدكتور أحمد الإدريسي، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أستاذ وباحث في المالية والاقتصاد الإسلامي.
[1] - الشاطبي؛ أبو إسحاق، الموافقات. (دار الحديث القاهرة، طبعة: 1427هـ-2006م). ج: 2 / ص:265.
[2] - حفظ النسل أو حفظ العرض أو حفظ النسب.
[3] - الشاطبي؛ أبو إسحاق، الموافقات. (مرجع سابق). ج: 2 / ص:266.
[4] - ابن عاشور؛ محمد الطاهر بن عاشور. "مقاصد الشريعة الإسلامية". (دار الكتاب المصري، القاهرة، ودار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 2011م). من ص:290 إلى ص:320.
[5] - رواه الإمام البخاري، كتاب: الحج، باب: الخطبة أيام منى. حديث رقم: 1664.
ومثله في صحيح مسلم، حديث رقم: 1679.
[6] - الغزالي؛ أبي حامد. المستصفى. تحقيق وتعليق: محمد سليمان بن الأشقر. (مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1417هـ-1997م). ج:2 / ص: 284.
[7] - رواه الإمام البيهقي في "السنن الكبرى"، كتاب: الغصب. باب: ليس لعرق ظالم حق. حديث رقم: 10802.
[8] - رواه الإمام مسلم في صحيحه، باب: تغليظ اليمين الكاذبة عمدا. حديث رقم: 137.