في ذكرى وفاته.. “بن عاشور” في مواجهة الاستبداد تأصيلًا علميًّا وتنفيذًا عمليًّا
بقلم: محمد خير موسى
يوم الثّاني عشر من أغسطس/آب من عام 1973، توفي الإمام محمّد الطّاهر بن عاشور؛ وهو المولود سنة 1879، وبين هذين التّاريخين قضى 94 عامًا في العمل الإصلاحيّ التّجديديّ الفقهي المنطلق من جذور راسخة في أعماق العلم الشرعي وعقلٍ يحلّق في فضاءات المقاصد؛ ليكون علامةً فارقةً للثّورة الرّاشدة في الفكر الإسلاميّ والعلم الشّرعيّ، وليستلّ مقاصد الشريعة من كتب الأصولييّن ويفردها لتكون علمًا مستقلًّا قائمًا بذاته.
الحريّة ثمرة الفطرة الإنسانيّة ومن أهمّ مقاصد الشّريعة الإسلاميّة
الحريّة عند “بن عاشور” هي أهمّ ثمار الفطرة الإنسانيّة؛ فالفطرة عنده أصلٌ كليّ تنبني عليه مجموعةٌ من المقاصد من أهمّها مقصد الحريّة؛ فيقول: “الحريّة وصفٌ فطريّ في البشر؛ فإنّنا نرى المولود ييفع حرًّا لا يعرف للتّقييد شبحًا”، والحرّيّة عنده شاملةٌ تتعلق بالاعتقاد والإيمان والفكر، والقول والتّفكير والتّعبير عن الرّأي، والعمل والسّلوك.
ولقد كان الطّاهر بن عاشور الأسبق في إعلان الحريّة مقصدًا من مقاصد الشّريعة إذ يقول: “ومن قواعد الفقه قول الفقهاء: “الشّارع متشوّف للحريّة” واستقراءُ ذلك واضحٌ من تصرّفات الشّريعة التي دلّت على أنّ من أهمّ مقاصدها إبطال العبوديّة وتعميم الحرية”.
جاء الطّاهر بن عاشور ليعلن أنّ الحريّةَ أصلٌ يجبُ أن يمتزجَ بروح الإنسان وينبتَ مع إيمان المسلم بربّه ودينه، وينمو مع تصّوراته الاعتقاديّة، فالحريّة عنده مقابل العبوديّة بكلّ أشكالها وصنوفها وصورها، فلا بدّ أن يرسخ في أعماق المسلم أنَّ الإسلام جاء ليرفع إصر العبوديّة عن الفرد والمجتمع ويطلق الإنسان ليحلّق في فضاءات الحريّة بأشكالها كافّة.
الاستبداد السّياسي وشهوة تطويعُ الأفكار
يرى “بن عاشور” أنَّ الآراء السّياسيّة لا يجوز أن تهيمن على المذاهب الفكريّة، وأنَّ الخلط بينهما سيقود لا محالةَ إلى ضعف احترام الآراء والمذاهب الفكريّة، وأنّ المآلُ سيكون اضطهادها وإهانتها.
يقول في مقال عنوانه “احترام الأفكار” نشرته “مجلة السعادة العظمى”: “لمّا استُخدمت الآراءُ للسّياسة، وشاعت المداهنة بين الناس، وضعفت الكبراءُ عن الحجّة، يومئذٍ ساد اضطهاد الأفكار والضّغط عليها؛ كي لا تسود على مخالفتها القاصرين الظاهرين في مظاهر العلماء المحقّقين”
ويقول أيضًا: ”كذلك الحَجْر على الرأي يكون منذرًا بسوء مصير الأمة، ودليلًا على أنها قد أوجبت نفسها خفية من خلاف المخالفين، وجدل المجادلين، وذلك يكون قرين أحد أمرين، إما ضعف في الأفكار، وقصور عن إقامة الحق، وإما قيد الاستعباد الذي إذا خالط نفوس أمّة كان سقوطها أسرع من هويّ الحجر الصّلد”.
ويرى “بن عاشور” أنَّ السّياسيّ خاضعٌ لأهوائه، عبدٌ لرغباته، فلا يقبلُ الآراء الحرّة إلّا لتكون أداةً طيّعةً في يده لتحقيقِ أهدافه وتنفيذِ رغباته؛ وإلّا فإنّه يراها خطرًا على عرشه، فهو -كالمريض- كثيرُ الأوهام؛ فيقول: “منهم من يفعل ذلك إبقاءً على منصبه، واستحفاظًا على وجاهته؛ لأنّه يخالُ أنّ كلّ مخالفةٍ له في الرّأي تنذرُ بثَلِّ عرشه، وزلزال أركانِه، والمريضُ كثير الأوهام”.
فالسّياسيّ الذي يريدُ تطويعَ الأفكار لخدمة توجّهاته، يمارسُ الاستعباد وتحويل هذه الأفكار وحامليها إلى رقيقٍ وعبيدٍ يسخّرون حياتهم وعقولهم لخدمة السّيد المالك، والحريّة نقيض ذلك كلّه.
صدق الله.. وكذب بورقيبة
وجد الطّاهر بن عاشور نفسه في أتون موقفٍ عمليّ لهذه الفكرة التي نظّر لها قبل عقود، وذلك عندما خطب الرّئيس التّونسي الحبيب بورقيبة في شهر رمضان، ووافق يوم 5 فبراير/شباط 1960، ودعا العمالَ إلى الإفطار في رمضان لغاية زيادة الإنتاج.
قائلًا: “تونس والبلاد الإسلاميّة تعاني درجةً من الانحطاط تجلب لها العار في نظر العالم، ولذلك فإنّه لا يمكن أن يعرقل جهادها أو يعطّله أو يوقف انطلاقها أو يقعدها عنه فرض الصّوم؛ فالصّوم يحطّ من إمكانيّات الفرد ويجعله لا يقوى على واجب هو ليس واجبًا شخصيًّا بل واجبٌ نحو أمّته ونحو دينه، وإذا أردتُم أن يكتبَ الله لكم ثوابًا في الدّار الآخرة فما عليكم إلّا أن تعملوا بضع ساعاتٍ إضافيّة، خيرٌ لكم من صوم لا عمل فيه يدفعكم إلى زيادة التّقهقر”.
وكعادة المستبدّين، أراد بورقيبة أن يسخّر الأفكار لخدمة رغائبه السياسيّة، فدعا الإمام الطّاهر بن عاشور -الذي كان عميد الجامعة الزّيتونيّة وأشهر علماء تونس على الإطلاق آنذاك- لتأييد وتأكيد دعوته إلى الإفطار لزيادة الإنتاجيّة.
توجّه الإمام الطّاهر بن عاشور إلى الإذاعة التّونسيّة ليلقي خطابه إلى الشّعب التّونسيّ بناءً على دعوة بورقيبة، ولمّا أصبح على الهواء مباشرة قال مخاطبًا الشّعب:
“أيّها التّونسيّون، قال تعالى: {يا أيُّها الذينَ آمنوا كُتِبَ عليكُم الصّيامُ كما كُتِبَ على الذينَ مِن قبلِكُم لعلَّكم تتقون}”، ثم قال: “صدقَ اللهُ، وكذبَ بورقيبة”.
وأمامَ تجلّي الحريّة هذا في أبهى صورها، لم يكن أمام الاستبداد إلّا التّقهقرَ والتّراجع عن الدّعوة البورقيبيّة البائسة.
وهكذا، جعلَ الطّاهر بن عاشور -الإمام المجدّد- الحريّةَ مقصدًا من مقاصد الشّريعة، وعاشَ حياته ليكون العقلُ حرًّا، والفكرُ خارج قيود الاستبداد، ورسمَ لحريّة الثّائر حدودًا تعينُه على الانعتاق والانطلاق، وتحميه من جموحٍ غير راشدٍ يوقعه في ما ثارَ عليه، وجمع بين الفكرة وتطبيقها؛ فلمّا واجه محاولات الاستبداد السّياسيّ تطويعَه وأفكارَه، غدا أيقونةً في مواجهة الغطرسة الاستبدادية يُحَتذى أثرها وفكرُها ما بقيت الحريّة دفّاقّةً في عروق الثّائرين.