حكم أخذ جنسية بلد غير مسلم وبيان الجواز وتحرير المقام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد
فقد سئلت عن حكم أخذ جنسية البلاد غير المسلمة وكنت قررت الجواز في المقدمة في فقه العصر وتكرر هذا السؤال بناء على فتاوى البعض فأقول:
إن الإقامة في أي بلاد جائزة، لعموم (والأرض وضعها للأنام )
والاستيطان بها وأخذ جنسيتها؛ جائز كذلك
إذْ الأصل الإباحة؛ لعموم العفو عن كافة المسائل المسكوت عنها بالنص (وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) (المائدة: 101).
ولأن الجنسية الوطنية إلى وطن ما لا تصادم الدين؛ لإمكان اجتماع الوصف الديني والوصف الوطني بلا تعارض، كعربي مسلم، وأوروبي مسلم؛ فالانتماء الديني لا يعارض الانتماء الوطني.
وقد قال سبحانه وتعالى ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم )
قال شيخ الإسلام: «وذلك أني لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين في: أن ما لم يجئ دليل بتحريمه فهو مطلق غير محجور، وقد نص على ذلك كثير ممن تكلم في أصول الفقه وفروعه، وأحسب بعضهم ذكر في ذلك الإجماع يقينا أو ظنا كاليقين».
ومن المعلوم أن كل ما لا مضرة فيه وهو يحقق مصلحة شرعية فهو مباح
وهذا مقرر عند أهل الإسلام من الفقهاء مشرقا ومغربا
وقد قرر القرافي وغيره الكثير من العلماء الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع..
بل قال قال الزركشي: «فإن لم (نجد) ما يدل على تحريم فهو حلال بعد الشرع بلا خلاف».
ومن الأدلة على ذلك في الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته».
فدل أن ما لم يحرم فهو مباح.
في الصحيحين كذلك من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
فدل أن الشرع إما أمر وإما نهي وما ليس كذلك فلا يلزم الانتهاء عنه ولا يلزم فعله وهذا هو المباح.
أخرج البزار وقال: سنده صالح والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء رفعه، بلفظ: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، وتلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}[مريم:64]».
وقد بسطنا القول في تقرير هذه القاعدة في كتاب مستقل
أما ما استدل به المانع من الحديث فجوابه من جهة الرواية والدراية
أما من جهة الرواية فهو مختلف في وصله وإرساله، وهذه علة، وقد أخرجه الطبراني في أكبر معاجمه برقم 2215 من حديث جرير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع إليهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل، وقال «إني بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين»، قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال «لا تراءى نارهما». قلت: وإسناده صحيح، وقد أعل بالإرسال كما سيأتي. وأخرجه الإمام أبو داود في السنن برقم 2645، بلفظ (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لم قال لا تراءى ناراهما قال أبو داود رواه هشيم ومعمر وخالد الواسطي وجماعة لم يذكروا جريرا). قلت: وهذا يدل على ترجيح الإمام أبي داود للإرسال، وهو ما رجحه الترمذي والبخاري وظاهر صنيع النسائي، فقد أخرجه في السنن برقم 4780 مرسلا، ورواه الترمذي في السنن برقم 1604 وبين الاختلاف فيه، وقال الحافظ في بلوغ المرام برقم 1264: رواه الثلاثة وإسناده صحيح ورجح البخاري إرساله
أما من جهة الدراية : فلا دليل فيه على المنع بل له معنى ينزل على حادثة بعينها هي المذكورة في الحديث
ويحمل المنع بعدها على حالة الحرب؛ لإمكان إصابة مقيمين من المسلمين، ولأنه -أي المقيم- ناقص النصرة، لا نصرة له في حالة استنصاره وهو في بلد معاهدة (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَاّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) (الأنفال: 72).
وهذه من علل النهي عن الإقامة.
وقد كف الله أيدي المؤمنين عن مكة؛ لأجل المقيمين من المسرين بالإسلام (وَلَوْلا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء) (الفتح: 25)، والعلة هي (فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (الفتح: 25)، وهذه تبعة، فنهى عن الإقامة تبرئة للذمة في مثل هذه الحالات
فالبراءة في حديث «أنا بريء من مقيم بين ظهراني المشركين تتراءى نارها» هي براءة تبعة من إصابته حال حدوث حرب، فلا يلزم إثم ولا دية؛ لتعذر التمييز بين مشرك ومسلم مقيم بينهم.
ولأن الصحابة بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا في الحبشة مهاجرين الهجرتين واستمروا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلزمهم بترك بلاد الكفر إلى المدينة كما ألزم من كان في مكه، وكانت الحبشة على النصرانية، فدل على جواز الإقامة في بلد غير مسلمة، ولا يقال هو منسوخ بحديث المنع؛ لعدم ثبوت التاريخ، بل هو دليل على ما قدمنا أنه نهى لرفع التبعية والمسئولية عن المقيم في بلد الحرب حال الحرب.
ولأنه لو حمل حديث المنع من الإقامة في بلاد الكفار على عمومه للزم وجوب هجرة المسلمين كافة إلى بلاد الإسلام، وهذه مشقة خارجة عن المعتاد، وقد نسخ هذا بـ «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» .
فلو منع من أسلم من الإقامة في أهله وأرضه لشق ذلك على من أراد أن يسلم في أصقاع الأرض، وللزمه الهجرة، ولم يقل بهذا أحد من أهل الإسلام، ولأدى ذلك إلى الصد عن الدخول في الإسلام لهذه المشقة؛ لأن مفارقة الوطن والأهل من أعظم المشقات.
ولذلك اختبر الله بها عباده المهاجرين الأولين، وألزمهم بها نصرة لدولته ورسالته ثم نسخت إلى يوم القيامة بالنص الصحيح الصريح المجمع على العمل به.
فالأصل الإباحة الأصلية العامة زمانا ومكانا، وأشخاصا في العمل في أي مكان على وجه الأرض.
ومن ادعى المنع من أخذ الجنسية من أي دولة كافرة فعليه بالدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة
وأنى له ذلك
فالحرام منصوص مفصل وتوسعته بلا حجج مخالف لمقصود الشرع في حصره إما تفصيلا أو على جهة العلة
وأخذ الجنسية أمر عادي لا علاقة له بتعبد ولا دين فهو أمر من العاديات وهي مباحة في الأصل بلا خلاف كما قدمنا.
وقد أخذ الكثير من أهل الإسلام هذه الجنسيات فكانت لهم مصالح وملاذات.
كما أنه يلزم أن نقول لمن أسلم من مواطني هذه البلاد أن يتخلى عن جنسيته وهذا من الباطل ولا يقوله عالم.
فإن لم نقل بهذا فما هو الحامل على القول بعدم جوازه لغيرهم من أهل الإسلام
والحاصل أن القول بعدم جواز التجنس بجنسية بلد غير مسلم لا دليل عليه من كتاب ولا سنة صحيحة ولا ضعيفة ولا إجماع ولا قياس صحيح. فهو قول بين الضعف
وأما من منع الإقامة لمن فتن في دينه فهذه مسألة أخرى ولها محلها.
وبالله التوفيق والله أعلم.
كتبه
فضل بن عبد الله مراد
عضو ومقرر لجنة الاجتهاد والفتوى بالاتحاد العالمي
تاريخ 22 محرم 1444 ه
الموافق 20 أغسطس 2022 م