البحث

التفاصيل

اقتحامات المسجد الأقصى المبارك من قبل المستوطنين هي استمرار لجريمة إحراقه  

الرابط المختصر :

اقتحامات المسجد الأقصى المبارك من قبل المستوطنين هي استمرار لجريمة إحراقه  

بقلم: الشيخ د. تيسير رجب التميمي

 

أكثر من خمسة عقود مرت على ذكرى أليمة ما زالت ماثلة أمام نواظر المقدسيين ، يستحضرون مشاهد النيران وألسنة اللهب التي أشعلتها يد الحقد المسعور والتطرّف الممقوت في المسجد الأقصى المبارك فأتت على ما يقارب ألفاً وخمسمائة متر مربع من سقف المسجد القبلي ذي القبة الرمادية ، وعلى منبر البطل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله رمز تحرير بيت المقدس من دنس الاحتلال الإفرنجي ، ورمز ارتباط قادة الأمة بمدينة القدس وبالمسجد الأقصى المبارك.

ففي صباح يوم الخميس 7/6/1389هـ الموافق 21/8/1969م استيقظ المسلمون على نكبة جديدة حاول إيقاعها مجرم إرهابي امتدت يده الغادرة إلى قبلتهم الأولى فأضرم فيها النيران، لقد تخطَّى السائح اليهودي المتعصّب مايكل دينيس كل الحدود، وتجاوز كل القوانين والمواثيق والقيم، وأحرق بِلَظَى كراهيته وسواد فعلته مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكعادتها سارعت سلطات الاحتلال الإسرائيلية إلى التنصل من المسؤولية فنسبت مرتكبها إلى الجنون وادعت إصابته بالعَتَه واختلال القوى العقلية لتغطي على الحرائق الفعلية المبرمجة والخطط التآمرية المنظمة التي يقوم بها دهاقين ساستها ، فمنذ خضوع مدينة القدس للاحتلال أصبحت عرضة للاعتداء اليومي تعيث فيها يد الغاصب الصهيوني تهويداً وتبديلاً للمعالم الحضارية والتاريخية ، حتى جاءت هذه الجريمة الماكرة التي استفزت مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، ومهما أنكرت فالأدلة على تورطها ومشاركة المستوى السياسي في التخطيط لهذه الجريمة حاضرة:

1- المحاولة الأولى لحريق المسجد الأقصى المبارك كانت بتاريخ 11/8/1968م، وقام بها دنيس روهان نفسه الذي جاء إلى فلسطين محملاً بكل الأحقاد اليهودية على الإسلام والمسلمين ، وبكل الأطماع الصهيونية في فلسطين أولاً ثم العالم الإسلامي كله ثانياً ، فدخل المسجد بصفة سائح استرالي ، ولكن يقظة الحراس واكتشافهم الجريمة قبل وقوعها أفشل هذه المحاولة ، ألْقي القبض على هذا المجرم وحوكم محاكمة صورية وعوقب بإبعاده إلى بلاده ، لكنه عاد ثانية ونفذ جريمته النكراء بتاريخ 21/8/1969م، فمجرد السماح بعودته إلى القدس يعتبر تواطؤاً معه في تنفيذ الجريمة.

2- اكتشاف خندق سري محفور تحت المسجد الأقصى المبارك أثناء إعمار المسجد من آثار الحريق يبدأ من وسط السور الجنوبي إلى داخل المسجد . وقد حفر من الجهة التي يسيطر عليها جيش الاحتلال قبل ارتكاب الجريمة ، ووجدت نقاط من الشمع جديدة العهد سقطت على الأرضية الترابية للخندق مما يدل على أنهم دخلوه منذ فترة قريبة.

3- لم تسمح السلطات الإسرائيلية لوكالات الأنباء بإذاعة نبأ الحريق إلا بعد أكثر من ساعة ونصف وبدون تفاصيل.

4- النافذة العلوية الواقعة في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد القبلي ترتفع عن أرضية المسجد عشرة أمتار تقريباً فيصعب الوصول إليها من الداخل بدون استخدام سلم مرتفع ، يضاف إلى ذلك أن حريق هذه النافذة كان من الخارج وليس من الداخل مما يدل على وجود أفراد ساعدوا مرتكب الجريمة من الخارج ؛ حيث كانت تحت إشراف سلطات الاحتلال منذ هدم حارة المغاربة وسيطرتها على باب المغاربة وساحة البراق والجهة الجنوبية الغربية للمسجد.

5- تأخّر سيارات الإطفاء التابعة لما يسمى ببلدية القدس في الحضور؛ حيث وصلت بعد إخماد جميع النيران من قبل سيارات الإطفاء العربية التي وصلت قبلها من الخليل ورام الله ، لم تفعل تلك الإطفائيات شيئاً بل جاءت حتى تصورها وسائل الإعلام ووكالات الأنباء والصحافة العالمية لإيهام المجتمع الدولي أنها أدت واجبها.

6- قطعت إسرائيل المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى المبارك الحريق ، فاستعان المقدسيون بالبراميل ونقلوا المياه من الآبار الموجودة في ساحات المسجد فاستغرق إخماد الحريق خمس ساعات ، وكشف الشهود الذين أدلوا بشهاداتهم أمام اللجنة الإسرائيلية المكلفة بالتحقيق أن أجهزة الإطفاء في المسجد الأقصى المبارك لم تكن صالحة.

وما أن سمع أبناء شعبنا المجاهد بالكارثة حتى هبوا من كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية رجالاً ونساء ، شيوخاً وأطفالاً لنجدة مسجدهم والدفاع عنه على الرغم من العراقيل التي وضعتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في طريقهم ، وانطلقت سيارات الإطفاء من مدن نابلس وبيت لحم والخليل وغيرها ، وهرع أهل البلدة القديمة في مدينة القدس إليه سراعاً يحملون الماء بأيديهم يخمدون به النيران ، وفي اليوم التالي للحريق أدى آلاف المسلمين صلاة الجمعة في الساحة الخارجية للمسجد الأقصى المبارك وعمت المظاهرات الغاضبة مدينة القدس وسائر المدن الفلسطينية احتجاجاً على هذا التعدي السافر على مسجدهم ومسرى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وعمت موجات الغضب جماهير الأمة وثارت لانتهاك حرمة مقدساتها والمساس بأماكن عبادتها والاعتداء على كرامتها وعقيدتها ، فانطلقت المسيرات والمظاهرات في أرجاء العالم الإسلامي.

أما ردود الفعل العربية والإسلامية السياسية فقد جاءت باهتة ضعيفة مخيبة للآمال ، فقد تداعى زعماؤها وحكامها خلال شهر من الكارثة إلى مؤتمر قمة لهم في المغرب ، وقرروا فيه تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضمَّن ميثاقها العهد على السعي بكل الوسائل السياسية والعسكرية لتحرير القدس الشريف من الاحتلال الصهيوني.

ثم أنشئت لجنة القدس عام 1975م بهدف متابعة تنفيذ القرارات التي تتخذها منظمة المؤتمر الإسلامي والهيئات الدولية الأخرى التي تؤيدها أو تتماشى معها ، وبهدف الاتصال مع أية هيئات أخرى واقتراح المناسب على الدول الأعضاء لتنفيذ المقررات وتحقيق الأهداف واتخاذ ما تراه من إجراءات ، ويهدف إنشاؤها أيضاً  إلى تنفيذ جميع قرارات المنظمة المتعلقة بمواضيع الصراع العربي الإسرائيلي نظراً للترابط الجذري بينه وبين قضية القدس وفلسطين.

ثم توالى عقد المؤتمرات العربية والإسلامية من أجل القدس ومن أجل المسجد الأقصى المبارك ، لكن لم تصدر عنها أية خطوة عملية لتحريره وإنقاذه من الأسر ، فتجرأ الغاصبون المعتدون يوماً بعد يوم على مواصلة اعتداءاتهم المتسارعة ضده وضد مدينة القدس المباركة حتى أصبح الوضع فيه اليوم كما تراه أعيننا.

أما على المستوى العالمي فقد كان من المنتظر أن تحدث هذه الجريمة الحاقدة دوياً في أرجائه ، وأن يكون لمنظماته موقف واضح يسهم في الحفاظ على المسجد الأقصى المبارك وحمايته من أي مساس بحرمته أو عدوان على بنيانه ، ليس فقط لكونه دار عبادة تمنع القوانين والتشريعات الدولية التدخل في شؤونه أو انتهاك قدسيته أو ازدواجية العبادة فيه ؛ بل بوصفه أيضاً صرحاً معمارياً وأثراً حضارياً وتراثاً إنسانياً يجب على منظمة اليونسكو الحفاظ عليه.

أما المجتمع الدولي الذي اعتدنا على تعبيره عن قلقه جراء ما يحصل في الأراضي المحتلة فقد اكتفى يومها بإدانة هذا العدوان الصارخ واستنكاره والامتعاض منه ، ولكنه لم يعمل أبداً على تطبيق قراراته الهزيلة التي أصدرها على استحياء ضد إسرائيل ، وهذا نهجه على مدار العقود الماضية في قضايا الأمة الإسلامية والعربية ، ولسنا مجحفين في تقرير هذه الحقيقة السلبية الواضحة ، فقد رأى الجميع مثلاً موقف المجتمع الدولي من تحطيم تماثيل بوذا في أفغانستان ، إننا نشهد وقوفه إلى جانب المحتل الغاصب وتبرير أفعاله الهمجية على المدنيين العُزَّل بوصفها "استخداماً مفرطاً للقوة"، ونشهد سكوته على انتهاكات سلطات الاحتلال الإسرائيلية لحقوق الإنسان، ونشهد عجزه الدائم عن منع أو انتقاد جرائمها الإرهابية ومجازرها التي لا تحصى ضد الشعب الفلسطيني.

لم تكن هذه الجريمة الصهيونية الأولى ضد المسجد الأقصى المبارك ولم تكن الأخيرة، ونوقن بذلك لأن الأمة ما زالت تعاني التفكك والتشرذم والضعف ، فمنذ زمن بعيد بيّتت سلطات الاحتلال الإسرائيلية نواياها للنيل من مدينة القدس ومقدساتها وبالأخص المسجد الأقصى المبارك ، ولكنها اليوم تنفذ ذلك جهاراً نهاراً ، فعدوانها عليه متواصل لا يتوقف  كما هو في الحقيقة والواقع، فهو يتعرض باستمرار لمخاطر جدية تتهدد هويته بل وتتهدد بنيانه.

ودليل جدية هذه المخاطر استمرار اعتداءات الجماعات الدينية المتطرفة على المسجد الأقصى المبارك، وكثرة مخططات نسفه ومحاولات اقتحامه وارتكاب المجازر فيه. وفي كل مرة يدافع عنه الفلسطينيون وحدهم، يحمونه بصدورهم العارية وبالمواظبة على الحضور الدائم في ساحاته ، وبتحدي جميع الإجراءات القمعية والممارسات الاحتلالية التي تعيق الوصول إليه ، وبالوقوف إلى جانب حراسه وسدنته العزّل من السلاح في مواجهة الاحتلال المدجج.

والآن وبعد مرور هذه العقود على الجريمة النكراء فللشعب الفلسطيني أن يتساءل:

هل كانت أمته على مستوى الحدث؟ هل كانت على مستوى المسؤولية؟

هل كانت على قدر أحكام ودلالات قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الإسراء 1.

إننا على يقين بأن لمسجدنا الأقصى المبارك رباً يحميه وللقدس رباً يرعاها ، وأن لها أبناء مرابطين وحرائر مرابطات وسدنة مخلصين شرفهم الله بأرفع وسام ، فها هم حاضرون في الخندق الأول يفتدونها بالمهج والأرواح ، لكن هذا لا يعفي الأمة أبداً من مسؤولية الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك وعن مدينة القدس العربية المحتلة وحمايتها ومؤازرة أهلها الثابتين فيها ثبات الشجر على الرغم من التضييق عليهم لتهجيرهم منها ، ولكن هيهات هيهات ، فجذورهم ضاربة في أعماقها التاريخية العريقة ولا يمكن اقتلاعهم منها ، وعيونهم ترنو بأمل عريض إلى الأفق الذي تلوح منه بشائر النصر ، لكنهم يفتقرون إلى الدعم والمناصرة والإسناد والمساندة من أبناء أمتهم ، فهذا من أوجب واجبات الأمة ، قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} الأنفال 72.

ذاك كان الحريق الآني الذي بذلت جهود شعبية جماعية فورية لإخماده  والدمار الواسع الذي استغرق أكثر من ثلاثة عقود لإعادة إعماره ، أما الحريق المستمر الذي ما زال مشتعلاً في مدينة القدس منذ احتلالها فيتمثل في حرق تاريخها الإنساني وتغيير مشهدها التاريخي واستبدال هويتها العربية الإسلامية بهوية المحتلين الغاصبين ، وبطمس معالمها الحضارية لتهويدها ، وأدواتها في ذلك متنوعة متعددة غير مسبوقة ، ولعل أبسط دليل على سوء نوايا سلطات الاحتلال الإسرائيلية تجاه المسجد الأقصى المبارك واستهدافه ومحاولة الاستفراد به وتهويده هو دعمها المتواصل وحمايتها الكاملة لعمليات الاقتحام اليومية المتزايدة لساحاته ومعظم مساجده ومصلياته من قبل الجنود والشرطة والمستوطنين والسياسيين والبرلمانيين والوزراء ، وهذا بحد ذاته يعتبر امتداداً عدوانياً لجريمة إحراقه قبل ثلاث وخمسين عاماً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقاضي قضاة فلسطين، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس.





التالي
تونس.. القضاء يلاحق عشرات القضاة بتهم "الإرهاب والفساد المالي"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع