البحث

التفاصيل

التدين الاصطناعي والتدين الحقيقي

الرابط المختصر :

التدين الاصطناعي والتدين الحقيقي

بقلم: شعيب الحسيني الندوي – عضو الاتحاد

 

أكبر دين في العالم اليوم المادية وعبادة المال ، يسجد الناس لزخارف الحياة ويسعون وراء الدنيا كأنهم على نصب يوفضون ، للإنسان حاجة لا يغفل عنها ، وللمال قدر لا ينكر ، وللدنيا حساب لا يبخس منه ، وضغث على إبالة أن لها جاذبية مغناطيسية تخمر العقول وتبهر الأعين وتمتلك مجامع الأفئدة ، قليل من الناس من يسلم من خديعتها ويأمن من تلبيسها ، فإنها خداعة غرارة ، تأتيك شاخبة الوجه مرة ، وناضرة الوجه أخرى ، تتلون كل لحظة تلونا ، وتقتحم سويداء نفسك وتتمكن منها ، وتعاديك في وجه الصديق ، إذا التقمت منها لقمة وقعت في نهامة لا تشبع منها.

ترى الزاهد الناسك في عريشه ينأى عن ملذات الحياة ويرغب عن مرافق العيش ، ولكنه يسعى يطلب الجاه والمنصب والصيت خفية لا يبوح به ، ويصيد أصوات الناس بفخامة شأنه ، ويرهب العامة من الناس بكراماته ويكسب حب الجهال بشتى حيله ، يأتيه الناس ويخضعون له فيرى نفسه كبرت وعظمت ، فتبختر واختال وزاد سعيا في طلب هذا المنال ، يريد أن يعرفه الناس بزهده وورعه وتدينه ، ويستخلص لنفسه من يروّج له سلعته من الدين ، ويطري في مدحه وتفخيم شأنه وكشف كراماته أمام الجماهير ، كأنه التاجر الذي اتخذ متناجشين إغراء وتمويها ، فإن زهده سلعته الرابحة التي نفقت في متاجر المتدينين .

ترى الخطيب الداعية يفرغ فرص حياته لسبيل الدعوة إلى الله ، ويجوب خلال الديار ، ولا يلقي عصا الترحال في بلد ، يؤثر على مرافقة ذوي القربى ، ويضحي براحته وسباته ، ويُشعر أنه خلق على متن الدابة ، ولكنه يناطح الخطباء على المنصة في تفخيم الأمر وتعظيم الشأن وتكبير الاسم ، ويبارز أقرانه في مضمار العلم ، ليجاري به العلماء ويماري به السفهاء ويصرف وجوه الناس إليه ، ويستبق إلى مقعد الرئاسة حتى يُسفّ ويطلب الدني من الأمور في الخصام ، ويضيق صدره إذا رأى قرينه يبرّز ، وصاحبه في سبيله يتقدم ، ورفيقه في دعوته يعلو شأنه ، فإنه عدو لدود ينافق في عداءه ، ويطعن في ظهر زميله ، ولا يتنكب عن مدّ يده إلى الأثرياء ويوافق هواهم ، ليرضيهم ويكسب حبهم ومودتهم.

ترى العالم الكاتب يعتكف في مكتبته ، وينحني على طاولته يتصفح أوراق الكتب ويسود بياض الصفحات بقلمه ، كأنه منشغل عن الدنيا كلها ، وليست له من الدنيا إلا قلمه وقرطاسه ومجلس درسه ، عاش عزوفا متبتلا لا يرغب في النساء ولا يضيع وقته في إشباع الشهوات ، بل أصبحت كتبه ومجالسه شهوته ، ولكنك تجد وراء الحجاب يكتسب بكتبه الدنيا ، ويبيع قلمه في سوق العلماء ، ويظلم العلم في تمويه الحقائق وتلبيس الحق بالباطل ، لأنه يخشى عليه ضياع المنفعة وفوات الخير ، ويعلم أصحابه مكايد الشيطان كي يزرع في أنفسهم بغض العالم الآخر لأنه هو يحسده ويبغضه ، ويحتال حيلا خسيسة لإزاحة زميله عن سدة المنصب والمكانة حتى تتفرغ له ، ولكنه يدعي لنفسه أنه حامل الدين ورافع لواء العلم وخادم الإسلام.

ترى الثري السخي المنفق يبسط يده ينفق يمينا وشمالا ، ولا يتخلف عن تلبية نداء رفع لذوي الحاجات ، وما من مكان فيه خير إلا ويتقدم إليه بماله ، وله يد طولى في كل مشاريع الخير ، ولكنه ما ظفر منه بشيئ ، يغضب إذا لم يكتب اسمه على مشاريعه أو لم يذكر بالجميل ذكرا كما يليق على قدر نفقته ، ويقبض يده يمنع من لا يرد إليه ثناء يرجى أو لا ينفعه في شهرته المزعومة ، ويريد أن يشتري بماله الأقلام والأصوات ، فما برح الحق ما قاله ، والقول قوله ، وما انفك الخير ما عمل به.

الناس عبيد أنفسهم ، يعملون ليرجع الفضل إليهم ، ويحسنون ليعود الثناء إليهم ، لا يقبلون اقتحاما في عقبة من غير نجعة عاجلة ، ولا يرضون سلوك طريق من غير جدوى قريبة ، هذا هو الشيطان الذي يستتر في النفس ويسرب في الأحشاء ويعبث بالغرائز ، ويحرض على حب الذات ، ويثير الأنانية من حيث لا يشعرون ، وهذا هو تلبس إبليس الذي يستفززهم بصوته ويجلب عليهم بخيله ورجله ويشاركهم في الأموال والأولاد ويعدهم ويمنيهم ، ويأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائله فلن يسلم إلا من رحم ربي.

اعلم يا رعاك الله أن الدنيا الدنية ليست النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، ولكنها الإرادة والنية والحالة في تصرفها وإدارتها ، وترقب المآل بعد بذلها وإنفاقها ، والاكتساب النفسي المذموم إثر مشاكلات للتدين ، وممارسات للعبودية.

ثم اعقل وافهم أن التدين في المرء ليس بقدر ما يتكبده في وجه التعبد ، وما يرميه من قوس رياضته الروحية ، وما يَعدّه من السهام في جعبته الدينية ، ولكن التدين مثال نفسي راسخ في قوة التفكير ، وعقلية قائمة على ثوابت الدين ، وثقافة صارمة في السلوك والحياة ، واجتماع رشيد على أسس متينة ، ومعاشرة الناس بالمعروف ، والتحلي بالأخلاق الكريمة من غير تكلف أو مراءاة ، والاتصاف بالشيم الفاضلة من غير كبر وخيلاء ، والصلة الروحية القوية مع الرب قلبا وقالبا ، معنى وتلفظا ، باطنا وظاهرا ، والوعي المرهف نحو المسؤوليات ، والإدراك البالغ لمهمات الحياة ، والمخافة من القيام أمام الرب تعالى ، والخشية من فوات أوان القرب إلى الله جل وعلا ، والأنس بالملأ الأعلى ، والشعور الحي النابض بإنجاز عهدة الدين ، والصدق والوفاء في مخالطة الناس ، والإيثار والكرم في المعايشة مع الأصحاب ، والصفاء الطبعي والنقاء الروحي والزكاء الثقافي والأدب الحيوي ، والنبو عن الختل والغش والمكر ، ونفض اليد عن هتك الأعراض، والتخلي عن البغضاء والشحناء ، والاجتناب عن المحرمات والمكروهات.

لعلك بلغت مرادي من الكلام ، فلا يغرنك الكلام المنمق ، ولا يخدعنك القشر الخلاب والمنظر الفاتن لمظاهر الكرامات ، ناهيك من رجل يصدق مع الله ثم معك في المنشط والمكره ، ويختبئ في أماكن الشهرة ويبرز في مواضع الخمول ، فهو وفيّ متدين بكل معنى الكلمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* شعيب الحسيني الندوي منغالور ، كرناتكا ، الهند، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
اسم "محمد" هو الأول بين الأسماء الأكثر شيوعا من عام 1948 حتى 2021 في الداخل الفلسطيني المحتل
السابق
إسطنبول: رئيس مؤسسة بصائر المعرفة القرآنية يقوم بزيارة ميدانية لعدد من المخيمات القرآنية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع