البحث

التفاصيل

(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)

الرابط المختصر :

(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)

بقلم: الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي

 

حرم الله سبحانه وتعالى الظلم لأنه أصل المفاسد والشرور ، ففيه تطاول وبغي على الناس ، وفيه اعتداء على حقوقهم التي هي قوام وجودهم في الحياة كاستباحة دمائهم وأعراضهم والتصرف في أموالهم وأملاكهم بغير ما يريدون ، وكإيذائهم وإزعاجهم بالكلام وإخراجهم من الأوطان ، لذا فقد نزه الله عز وجل نفسه عن الظلم فقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} الكهف 49 ، وقال سول الله صلى الله عليه وسلم يما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: {يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا..} رواه مسلم، وفي هذا الحديث النبوي الشريف حضٌّ واضح للناس على تجنب إيقاع الظلم مهما كان نوعه وشكله ، مما يدفعهم للمسارعة في العدول عنه والندم والتوبة منه فيما لو اقترفته أيديهم قبل أن يأتي يوم الحساب.

وحقيقة الظلم ومعناه هو الجور ومجاوزة الحد ووضع الشيء في غير موضعه، وله أنواع ثلاثة هي:

النوع الأول: ظلم الإنسان ربه ، ويكون ذلك بكفره بالله عز وجل ، قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} البقرة 254 ويكون أيضاً بأن يشرك معه غيره من الآلهة سواء في اعتقاده وفي أقواله وأفعاله ونواياه ، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لقمان 13 ، ومن صور الشرك ألاّ تكون عبادة المرء وأعماله الصالحة خالصة لله فهذه لا تقبل عند الله أبداً ولا يؤجر عليها ، قال صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيّات وإنما لكل إمريء ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه} رواه البخاري.

النوع الثاني: ظلم الإنسان نفسه باتباع الشهوات وإهمال الفرائض والواجبات، وبتلويث نفسه بأنواع الذنوب والسيئات من المعاصي لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: {...وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} النحل 33 ، وقال أيضاً: {..وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ..} الطلاق 1.

النوع الثالث: ظلم الإنسان لغيره من عباد الله ومخلوقاته وبالأخص الضعفاء الذين لا يقدرون على الانتصار، وتتعدد صور ظلم الإنسان لغيره ، وكل واحدة هي بذاتها ذنب عظيم أو كبيرة محرمة ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

* غصب الأرض: فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حقه إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة} رواه مسلم، ومعنى طوقه إلى سبع أرضين أي خسف به.

* مماطلة أصحاب الحقوق كالديون مع القدرة على أدائها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَطْلُ الغني ظلم..} رواه البخاري ، ومطلً الغني أي تأجيل دفع الحقوق بغير عذر ، والغني هو القادر على الأداء.

* منع أجر الأجير أو تأجيله وتأخيره: وهذا إثم عظيم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: {قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة...،...، ورجل أستأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره} رواه البخاري، فالأجير يستحق أجرته حال إنجازه العمل الذي استؤْجِر من أجله ، وفي الحديث الآخر المرويِّ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال صلى الله عليه وسلم: {أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه} رواه ابن ماجه وصححه الألباني.

* اليمين الغموس: وهي الحلف كذباً لاغتصاب حقوق العباد، وسميت هذه اليمين غموساً لأنها تغمس الحالف بالإثم ومن ثمَّ بالنار ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: {من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو عليها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان..} رواه البخاري.

* عدم العدل بين الأولاد: فالعدل والمساواة بينهم من أهم حقوقهم على والديهم ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه قال: {أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحةَ: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحةَ عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله ، قال: أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ قال لا ، قال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، قال فرجع فرد عطيته} رواه البخاري، فهذه العدالة بين الأولاد تشبه تطلَّع الوالدين إلى تساوي أولادهما في برهما.

* حبس الحيوانات حتى تموت جوعاً: فهي مخلوقات ذوات كبد وأرواح وفي إطعامها أجر وفي تجويعها وزر ، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: {عُذّبت امرأة في هرّة ، سجنتها حتى ماتت ، فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها، ولا سقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض} رواه البخاري، وبالمقابل فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن رجلاً رأى كلباً يأكل الثرى من العطش، فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له به حتى أرواه ، فشكر الله له فأدخله الجنة} رواه البخاري.

* شهادة الزور: وهي الشهادة بالباطل، وهي من صور الكذب أيضاً، فعن إبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا أنبئكم بأكبر الكبائر (ثلاثاً)؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وجلس وكان متكئاً فقال: ألا و قول الزور" قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت} رواه البخاري، وشهادة الزور سبب لزرع الأحقاد والضغائن في القلوب، لأن فيها ضياع حقوق الناس وظلمهم وطمس معالم العدل والإنصاف، وتعين الظالم على ظلمه ، وفيها تقوض لأركان الأمن وتدمير للمجتمع.

ومن الناس من يجاهر بالظلم ويفاخر به، وهذا من الطغيان الذي يهلك الظالم ويتلفه، وقد يكون من قوة الظالم وتطاول مدته أن يصير ظلمه مع تمكنه وقدرته فناءً له وقضاء عليه كالنار إذا وقعت في يابس الشجر فلا تبقي شيئاً حتى إذا أفنت ما وجدت أكلت نفسها ثم همدت وخمدت، أما إن واجهت أمامها شجراً حياً فهيهات أن تهزمه ما دام واقفاً، هكذا حال الظالم مهما أهلك فإنه حتماً سيهلك، فمن جار في حكمه أهلكه ظلمه، وويل للظالم من يوم المظالم وبالأخص إن دعا عليه المظلوم، فإن للمظلوم أن يدعو على ظالمه ، فدعوته مستجابة لا ترد ، فقد {روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن وقال له: اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب} رواه البخاري، وفي القرآن الكريم قال الله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} النساء 148.

والباعث على الظلم الجرأة على الله والاستعلاء على البشر والقسوة الناشئة عن ظلمة القلب، ولو استنار القلب بنور الهدى لكف صاحبه عن ظلمه ، أما الرحماء الذين يحترمون الإنسانية ويصونون حياتها لأنها صنع الله فلا يجرؤون على الظلم والعدوان ، فإن للظلم عاقبة وخيمة في الدنيا والآخرة ، قال تعالى عن الذين انتصروا بعد ما ظُلِمُوا: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} الشعراء 227، إنه الوعيد الشديد الذي تتزلزل له قلوب الظالمين وتهتز له نفوسهم ، فالله سبحانه ينبؤهم بما ينتظرهم من انهيار ودمار، وما ينتظرهم من ذلة الموقف بين يديه بعد عزة الجبروت المزيّفة التي خلعها عنهم ، قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} ابراهيم 42-43 ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن عز وجل الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} رواه مسلم ، إذن فما من يدٍ إلا يد الله فوقها وما من ظالم إلا سيبلى بأظلم.

أما المؤمن فيصد نفسه عن الظلم وإن امتلك أسباب القوة والعزة والتمكين ، فهو يرى آثار الله تعالى في الظالمين ورى فيهم عبراً ، وهو يتصور عواقب ظلمهم فإن فيها ردعاً له وزجراً  عنه ، فعادٌ قوم سيدنا هود طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد وتعالَوْا على العباد وتمادوا بقوتهم وجبروتهم ، لكنهم بادوا بعد أن سادوا وهيمنوا على الأرض فقال الله تعالى فيهم: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} فصلت 15، وهذا فرعون الذي طغى وبغى وعلا واستعلا فأهلكه الله  ليكون عبرة لكل جبابرة الأرض ، قال تعالى في عاقبته: {..حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} يونس 90-92.

ولكن باب التوبة مفتوح للظالم وغيره ، فإن شاء فليقْلعْ عن ظلمه تائباً نادماً ، وليتحلل من حقوق المظلومين ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فلْيتحلَّلْه منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه} رواه البخاري.

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقاضي قضاة فلسطين، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، وأمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس


: الأوسمة



التالي
الأمين العام يلتقى برئيس لجنة القدس بالاتحاد فرع قطروالوفد المرافق له
السابق
الاتحاد "فرع فلسطين" يشارك في المسير العلمائي استنكارا لانتهاكات العدو في القدس

مواضيع مرتبطة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع