البحث

التفاصيل

بالدموع غسلوه وبالأعلام كفنوه

الرابط المختصر :

بالدموع غسلوه وبالأعلام كفنوه

بقلم: أ.د. عبد الرزاق قسوم

 

ذلك هو فقيد الأمة الإسلامية، وعالِـمها الموسوعي العلاّمة يوسف عبد الله القرضاوي، الذي ودعته جماهير الأمة الإسلامية بعيون باكية غزيرة الدموع، وبقلوب مؤمنة يملؤها الخشوع. حملت أكتاف الأمة الإسلامية يوم الاثنين 29 صفر 1444هـ الموافق لـ 26 سبتمبر 2022م، جبلا من العلم ذوى، ونجما من المعرفة هوى، فكان الوفاء لمن أفنى عمره في البناء، بناء المجتمع الإسلامي الأفضل، يصارع أمواج الاستبداد، ويقاوم عتاة الإلحاد، ويتصدى للإسلاموفوبيين في كل بلاد.

إنه شخصية متعددة الجوانب من حيث العظمة وإنك مهما أوتيت، من فصاحة ونبوغ، ومن بلاغة وذيوع، فلن تستطيع الإحاطة بمقومات العالِم العلاّمة يوسف القرضاوي.

ذلك أن شمولية علمه، تجعل من الصعب إنصاف كل جانب من جوانب تخصصه، فأنت تلتقي بعلمه وجهده في كل مجالات الحياة الإنسانية، والإسلامية منها بوجه أخص.

فمما يطبع نبوغه العلمي، التيسير في الأحكام، والفتوى في جل المعضلات، والدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، وكل ذلك بمنهج الوسطية والاعتدال وأدب الاختلاف الذي هو أدب العلماء، خصوصا عند بحث قضايا الأمة.

ولو حاولتَ أن تجد ناظما دقيقا لكل معالم فكره، لقلت إنه الإيمان، الذي اتضحت وجهته في نفسه، واستبانت معالمه في منهجه.

إن الإيمان عند العلاّمة القرضاوي هو مفتاح ما يدعو إليه من قيم، كالاستقامة والإخاء، والتماسك الاجتماعي، والنصر على الأعداء، والتقدم العلمي، والاختراع التكنولوجي، والإصلاح الشمولي، والعدل في الحكم وإصدار الأحكام.

هكذا –كما نرى- أن مجالات جهده وجهاده واجتهاده، في خدمة الإسلام لا يمكن حصرها، فهي تتعدد بتعدد قضايا أمته الإسلامية، ويمكننا بإيجاز شديد الاقتصار على نماذج من مجالات إبداعه ونبوغه، وهي كالتالي:

1- مجال التأليف العلمي:

لقد أبدع فقيدنا في هذا المجال أيما إبداع فأثرى المكتبة العربية الإسلامية، في شتى الميادين بما فاق من حيث العدد سنوات عمره الست والتسعين، فمؤلفاته فاقت المائة بكثير.

2- مجال الدعوة إلى الله:

يمكن القول إن العلاّمة القرضاوي قد أصبح صاحب منهجية خاصة في الدعوة إلى الله، وهي الدعوة بالتي هي أحسن، القائمة على الأسلوب الشيّق، والحجة العقلية، والإقناع البرهاني، وكم يحتاج العقل المسلم اليوم إلى مثل هذا المنهج، في الدعوة إلى الله.

3- مجال الفقه والفتوى:

تعمق عالِمنا الفقيد في ما يسميه عالِمنا الجزائري محمد البشير الإبراهيمي، بفقه الفقه، فتناول فقه السنن، وفقه المقاصد، وفقه المآلات، وفقد الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه العصر، وكل ذلك يتطلب التشخيص الموضوعي للواقع وتنزيل الأحكام الفقهية على هذا الواقع.

4- مجال الندوات والملتقيات:

كان نجم الملتقيات سواء العربية أو الإسلامية أو الغربية، وأخص بالذكر هنا ملتقى الفكر الإسلامي الذي كان يعقد بالجزائر في الثمانينات، والذي هو تاج تعلقه الجزائر على جبينها.

فقد كان الفقيد لامعا فيه إلى جانب كوكبة من نجوم العلم والمعرفة، سواء في وطننا أو خارج وطننا كالدكتور أبي القاسم سعد الله، والشيخ عبد الرحمان شيبان، والشيخ أحمد حماني، والدكتور عمار طالبي، والأستاذ محمد الأكحل شرفاء، والدكتور بن نعمان، وغيرهم من علماء الجزائر، إلى جانب العلماء الإسلاميين من أمثال الدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وحجة الإسلام آية الله التسخيري، والدكتور محمد عزيز الحبابي، والدكتور عبد المحسن التركي، والدكتور محمد أركون، وغيرهم من كل أقطار الأمة الإسلامية.

لقد ترك هؤلاء العلماء بصماتهم في مسيرة الشباب الجامعي الجزائري، والباحثين، إذ طبعوا ملتقى الفكر الإسلامي بطابع حرية الفكر وموضوعية النقد مع أدب الاختلاف، بخطاب إسلامي معتدل ومتوازن، مدعم بالأدلة العقلية والحجة الإسلامية.

5- مجال الاقتصاد الإسلامي:

برز العلاّمة القرضاوي في مجال معالجة مشكلة الفقر، والتخلف الاقتصادي، وسوء التنمية، فقدم لنا العلاج من خلال تأليفه لفقه الزكاة ومقاصدها الدقيقة والعميقة، وانعكاساتها على واقع الأمة.

6- مجال ترشيد الصحوة الإسلامية:

وذلك بالتكفل بشباب الصحوة الإسلامية، والنأي به عن كل أنواع الغلو، والتطرف، والتعصب، فصحح مفهوم الجهاد، وخلصه من المفاهيم المظلومة والملغومة.

ومن المفاهيم الخطيرة التي أصل لها، وصححها بمنهجه العلمي، مفهوم الأصولية، ومفهومي الحجاب والنقاب، ورسالة العلماء في المجتمع، وعلاقة المسجد بالسياسة، الخ.

وقد كلفه هذا الجهد والجهاد، والثبات على المواقف، كلفه من المعاناة، والسجون، والتعذيب، والتهجير، ما كلفه، وخير شاهد على ذلك نونيته الخالدة، التي كتبها وعليها آثار السجن.

وما أبرع الرسم بالكلمات الحزينة يتخذها السجين العالِم يوسف القرضاوي فتشم منها، في براعة، رائحة أبشع أنواع التعذيب، ونقتطف منها هذه العينة البليغة:

قل للعواذل إن رميتم مصرنا   بتخلف التصنيع والتعدين

مصر الحديثة قد علت وتقدمت   في صنعة التعذيب والتقرين

وتفننت –كي لا يمل معذب-   في العرض والإخراج والتلوين

أسمعت بالإنسان ينفخ بطنه   حتى يرى في هيئة البالون؟!

أسمعت بالإنسان يضغط رأسه   بالطوق حتى ينتهي لجنون؟!

أسمعت بالإنسان يشعل جسمه   ناراً وقد صبغوه (بالفزلين)؟!

أسمعت ما يلقى البريء ويصطلي   حتى يقول أنا المسيء خذوني؟!

فإذا عدنا إلى تأصيل المفاهيم، برز لنا العلاّمة الفقيد، بأدبه البارع في تقديم تصحيح دقيق لمفهوم الأصولية والأصولي، فيقدم لنا الصورة الشعرية التالية:

أصـــوليٌّ، أصـــــولي ** أجل، أنا لا وُصولي

وأصل أصولي القرآن ** دستوري الإلهي

وسنة أحمد المختار ** لــي زاد ولي ريّ

وقانوني شــــــرع الله ** لا الشرع الفرنسي

***

أصــــولي أصولي ** فدعني يا ضلالي

إلى التوحيد أدعو ** لا لما يدعو الخرافي

وأعلي راية الإسلام ** مهما قيــل رجعي

وألزم هدي أحمدنا ** وإن جافـــاه بدعي

ولا يثني زنادي عنه ** سفــــاح تتـــاري

ولا وغـــــــد عميل ** إلهــــه المعبود كرسي

يحركـه يهــــودي ** ويأمــــره صليــبي

ومفتيــه مسيلمة ** وخازنـــه حرامي

ولا قلم خؤون الفكر ** بالــــدولار مشري

يساري إذا شـاؤوا ** وإن شـاؤوا يميني

أصولي أصــــــــولي ** ولكن بالعِلم عصري

هذه يا قارئي العزيز، زفرات قلب مقروح كتبت بقلم مجروح، وكل العزاء فيما فقدنا، أن الفقيد خلف لنا مدرسة فكرية فقهية متكاملة الفصول، والمطلوب هو أن نحسن قراءة دروسها، والإصغاء لمقاصدها ومعانيها، إن العين لتدمع، وإن القلب ليخشع، ولا نقول إلا ما يرضي الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أ.د. عبد الرزاق قسوم؛ عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين





التالي
"كبلت أيديهم على عمود إنارة".. الشرطة الهندية تجلد مسلمين في ساحة عامة بتهمة "الشغب"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع