أربعون عامًا مع القرضاوي
بقلم: د. عبد السلام البسيوني
رحم الله شيخي، وأبي، وموجهي، وملهمي، العلامة النقي، يوسف بن عبد الله القرضاوي! أحسبه، كما أظن؛ ولا أزكيه على الله تبارك وتعالى، ولا أزكي غيره.
عبر أربعين سنة، عايشت العلامة القرضاوي، معايشة على كل أحيانه: جالسته وحدي، ومع آخرين، سافرت معه، وآكلته وشاربته، وساررته وواجهته، ووافقته وخالفته، ومازحته وجاملني، وغضبت منه وأغضبته. وراقبته طويلا، في رضاه وغضبه، وفي عمله وعبادته، وفي تركيزه وانشغاله. فلم أجد إلا قلبًا مخمومًا، ونفسًا نقية، ورأيًا سديدًا، فلا يجامل لدنيا، ولا يعنو لتهديد، ولا يختار إلا ما رآه عدلًا، ورحمة، وفقهًا على الحقيقة، واستقامة على الطريقة.
رأيته أول ما رأيته، مطلع خمسينيّاته -عام 1977- أسود اللحية، طليّ الوجه، كما رأيته في تسعينياته -أغسطس/آب 2022- محنيًّا ضعيفًا، قد قعدت به جوارحه، وخانه السن والجسم، وآده النكران والظلم.
رأيته على المنصة، وفي قاعة التدريس، وعلى المنبر، وفي المسجد، وفي بيته بين محبيه! ورأيته في مواقف الفخر، وفي مواقف الضعف، ومواقف الخطر، والهرج، والمرْج.
عرفت رأيه في نفسه، وسمعت آراء العلماء والمحبين فيه، وسماع العامة الذين أحبوه بظهر الغيب، في دول العالم البعيدة، كما سمعت آراء الجفاة، غلاظ الأكباد والعقول فيه.
وفي الأحوال كلها بقي رأيي فيه واحدًا، فلم يتغير طوال هذه العقود الأربعة، ولم يتغير ظاهره عن باطنه، ولا صريح قوله عن لحن قوله، ولم أر طوال هذه السنين غير يوسف واحدٍ، هو هو، بلا أقنعة، ولا ألوان.
ظل الفلاح التلقائي البسيط، ابن صفط تراب، المعجون بالصدق، والعطاء، والخير، وحرارة أرض لم تكن ملوثة، ولا مدنسة، ولا تعرف المهادنة، ولا الموازنة.
الرجل طيب القلب، المتسامح، الهين، اللين، الودود، المجامل، الفاعل اجتماعيًّا، وإنسانيًّا، وأكاديميًّا، ودعويًّا، وإعلاميًّا، وأدبيًّا، الموسوعي، الجمّاعة، العلامة.
من اقترب من الشيخ فسيرى في حياته مسارات رئيسية ثلاثة: مسار الدعوة، والمسار الأكاديمي، والمسار الإنساني! وينسرب منها تشعباته الموسوعية، في الفقه، والحديث، والتفسير، والفتوى، وامتلاك أدوات الاجتهاد، واللغة، وعلوم الأصول، والبحث والمناظرة، وعلوم الأدب، وفنون الخطابة والدعوة، والإبداع في الإعلام، وفي احتواء من أمامه، وقدرته على الترقي والتعامل مع السلم الاجتماعي، من أبسط وأفقر أحد فيه إلى أعلى، وأغنى، وأقوى، وأمكنِ ذوي المال، والجاه، والتأثير.
من اقترب من الشيخ فسيعرف أنه قريب الدمعة، شديد الرقة، له حال مع ربه، أحسبه والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا.
صليت بجواره مرات عديدة، وسمعته، وهو يقرأ في صلاته، أو يسبح، أو يدعو، فأحسست أن الرجل عميق الفكرة، شديد التركيز -طبيعة واستغراقًا- وكم غبطته على بعض تعبيراته، أو ردود أفعاله، وودت أن لي مثلها.
ورأيته مرات كثيرة -في عافيته وسطوته- باكيًا، غزير الدمعة، واضح اللوعة، يجتهد في أن يكتم بكاءه فلا يستطيع! ورأيته -في ضعفه- يبكي بكاء طفل يتيم كسير حسير.
رأيته ولا نجرؤ في عملنا الصحفي الضخم –في زمانه- أن نغير فاصلة، أو فاصلة منقوطة، في مقالته، فضلًا عن تغيير كلمة، أو تصحيح جملة! ثم رأيته -بعد- لا يبالي أن ينظر أو ننظر في أعماله، ويقول في انزعاج: دونكم المادة؛ فاعملوا ما شئتم، فقد أديت دوري.
من اقترب من الشيخ فسيجد له تعابير وجملًا لا تخرج -فيما أزعم- إلا من نفس صافية، واستبصار نوراني أخاذ! وكم يستشهد برقائق حكم الحسن البصري، وابن عطاء السكندري، والجنيد البغدادي، وغيرهم، لو جُمعت لكانت توقيعات، ودررًا يعز نظيرها! وليت أحد أخصائه يجمع ذلك في كتيب، يسميه الحكم اليوسفية، فمن لها؟!
وهو الذي كتب: العبادة في الإسلام، والإيمان والحياة؛ بما فيهما من رقة وذوق وروحانية.
وقد شهد له تلاميذه والمحيطون به بذلك، كما شهد له بذلك أساتذته منذ زمن بعيد.
قال في مذكراته "سيرة ومسيرة" عن شيخه البهي الخولي: ".. كنت -على فطرتي وطريقتي- أناقش، وأسأل في كل ما لا يقتنع به عقلي، أو يطمئن إليه قلبي: فطرة فطرني الله عليها، وأعتقد أنها نعمة من الله عليّ، بجوار نعمه التي لا تعد ولا تحصى.
وقد ظن الشيخ البهي رحمه الله أن لي موقفًا مضادًّا من التصوف وأهله، ثم فوجئ بكتابيّ: العبادة في الإسلام، والإيمان والحياة، فوجد فيهما نزعة ربانية أصيلة، وقال لي بعد أن أهديتهما له: كيف خبأت عنا هذه الروحانية العميقة، بمناقشاتك القديمة، التي جعلتنا نفهمك على غير حقيقتك؟
قلت له: يا فضيلة الأستاذ، المناقشة جزء من كياني، وربما يضيق بها الصوفية، الذين يقولون: من قال لشيخه: لِم؟ لم يفلح! ويقولون: المريد بين يد الشيخ كالميت بين يد الغاسل.
ولكني تلميذك الأمين؛ فيما قررته في كتابك الفريد تذكرة الدعاة عن (الروحانية الاجتماعية)، فأنا مع الربانية ولست مع الرهبانية؛ كما قال الشيخ أبو الحسن الندوي.
ثم قلت له: هذه الروح يا أستاذ، لا شك أنك أحد مصادرها الأساسية؛ فمنك اقتبسنا، وعليك تتلمذنا! ولا أرى تعارضًا بين التوجه الرباني والنقاش العقلاني.
قال: هذا صحيح، إذا وضع كل منهما في موضعه.
ومن اقترب من الشيخ فسيجد فيه شفافية بالغة، تنعكس في شعره ونثره، فانظر إلى تأوهه حين فاته رمضان، طريح فراش المرض، فصاغها شعرًا، ليجمع بين رقة المبنى وسمو المعنى! قال رحمه الله تعالى في مذكراته: لم أتخلف عن صلاة التراويح منذ ذهبت إلى قطر، إلا ذاك الرمضان، الذي قضيته في علاج آلام الظهر بألمانيا.
والحق أني حينما أقبل شهر رمضان، وكنت على سرير مرضي، لا أستطيع التحرك منه، شعرت بحنين عجيب، وشوق حار إلى مسجدي بالدوحة، وإلى صلاة التراويح، وتلاوة القرآن، ودرس الترويحة، ودعاء القنوت، وتأمين المصلين، الذي يكاد يهز أركان المسجد، وفاضت دموعي، واضطرب قلبي بين ضلوعي، وانساب ذلك في شعر رقيق، كتبته وأنا على سريري، وبعثت به إلى الإخوة في قطر (إلى مجلة الأمة، وكنت تقريبًا أول من قرأه) في قصيدة نشرت في ديواني (نفحات ولفحات) ومنها:
يا إخوةً في رضا ربي عرفتهمُ ** في دوحةِ الخير، يا حياكم الله
هلا بعثتم شعاعًا من مساجدكم ** تلوح منه لنا في بونَ أضواه؟
فلا أذانَ ولا قرآنَ نسمعه ** ولا تراويحنا! وَاحرَّ قلباه
إنّي لأذكركم في كل أمسية ** ذكرَ الغريب بعيد الدارِ مأواه
كم التقينا على ذكر وموعظة ** وأفضلُ الذكر قرآن تلوناه
في موسم الطهر في رمضان تجمعنا ** محبَّةُ الله.. لا مالٌ ولا جاه
من كل ذي خشية لله.. ذي ولع ** بالخير تعرفُه دَوْمًا.. بسيماه
جيلٌ على الحبِّ والإيمان مرتبطٌ ** قد عبَّرت عنه أرواحٌ وأفواه
إن أنْسَ أوجُهَهُم لم أنس رُوحَهمُ ** وكلُّهم في نَقاءِ الروح أشباه
أحببتهم وأحبوني بلا غرض ** إلا لقاءً على ربي وتقواه
ما كان لله يبقى دائمًا أبدًا ** رغم الشدائدِ يلقاها وتلقاه
وما يقوم على دنيا ومنفعةٍ ** فسوف ينهارُ ما لم تبقَ دنياه