البحث

التفاصيل

في ذكرى المولد النبوي الشريف

الرابط المختصر :

في ذكرى المولد النبوي الشريف

بقلم: الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي

 

يصادف اليوم السبت الثاني عشر من ربيع الأول من هذا العالم 1444 للهجرة، وفي هذا اليوم تحل بنا ذكرى مولد رسول الله المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحيي المسلمون في هذا اليوم من كل عام وفي كل بقاع الأرض هذه الذكرى في البلاد العربية والإسلامية ، واعتادوا أن ترافق إحياءها غالباً فعاليات مظهرية كالاستعراضات الكشفية والمحاضرات الدينية والندوات التاريخية والأعمال الأدبية وغيرها من المظاهر الاحتفالية ، فهل هذا هو المطلوب من أمتنا لإرضاء الله عز وجلَّ ونيل شفاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؟

إن الاحتفال الحقيقي بهذه المناسبة العزيزة يكون بأن يتأسّى أبناء الأمة بنبيهم صلى الله عليه وسلم صاحب الذكرى وبأن يقتدوا به ويهتدوا بهديه من خلال فقه سيرته العطرة وفهم مسيرته بدءاً من المولد حتى الوفاة وتطبيقها في حياتهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، فالاقتداء به أكمل ما يكون الاقتداء ليس فقط من المندوبات أو النوافل التي يؤجرون عليها ، بل هو فريضة من فرائض الدين وأصوله التي يحاسبون على التقصير فيها  لأن السيرة تشتمل على أحاديثه وسنته وهما مصدران من مصادر التشريع ومن مصادر الأحكام الشرعية ، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} الأحزاب 21، لذا وجب علينا معرفة سيرته وتدبرها والتفكر فيها والوقوف عند محطاتها الفاصلة اعتباراً بدروسها واستشرافاً لدورها في مستقبلنا:

ففي مكة المكرمة، وفي رحاب البيت العتيق انصرف زعيم قريش عبد المطلب بن هاشم آخذاً بيد ابنه عبد الله حتى أتى به وهباً بن عبد مناف وهو سيد بني زهرة نسباً وشرفاً ، فخطب إليه ابنته آمنة وهي يومئذ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً ، فكان الزواج المبارك ، ثم إن آمنة حملت ، روى ابن إسحق حديثها عن حملها بأنها ما حملت حملاً قط أخف منه ، وأنها أُتِيَتْ فقيل لها: [إنكِ قد حملتِ بسيد هذه الأمة ، وآية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بُصْرى من أرض الشام فإذا وقع فسميه محمداً، فإن اسمه في التوراة أحمد ، يحمده أهل السماء وأهل الأرض ، واسمه في الفرقان محمد فسميه بذلك] ، وفي يوم الإثنين الذي وافق الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل كان الميلاد المبارك ، فوضعت آمنة مولودها معتمداً على يديه رافعاً رأسه إلى السماء ، فأخذه جده عبد المطلب فأدخله في جوف الكعبة ، وجعل يدعو الله ويشكره أن أعطاه محمداً بعد وفاة أبيه عبد الله ، ثم أعاده إلى أمه آمنة ، والْتمس له المراضع ، فاسترضع له حليمة السعدية التي حكت عما رأت فيه وفي مَقْدَمِهِ من الخيرات والبركات عليها.

ومن أول يوم تولى الله عز وجل بذاته رعاية هذا اليتيم وإنشاءه ، فجعله في عين كلاءته وحفظه وأنبته نباتاً حسناً ، قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُوم} الطور 48 ، فهيأه بذلك لما أعده له من كرامة ورسالة وشفاعة ، فقد أظلَّته صلى الله عليه وسلم في طفولته إيحاءات نفسية شفافة مستوحاة من إيقاعات الأسماء التي تتردد من حوله ، فأمه آمنة ، وقابلته الشفاء ، وحاضنته بركة ، ومرضعته حليمة ، وأبوه من الرضاعة الحارث ، وأخوته من الرضاعة عبد الله وأنيسة والشيماء التي كانت تحضنه مع أمه حليمة إذ كان عندهم.

ونُسِبَ لأمه آمنة قولها عنه: [والله ما للشيطان عليه سبيل ، وإنه لكائِنٌ لابني هذا شأن] ، وقد صدقت بذلك ، فقد كان لابنها محمد صلى الله عليه وسلم بالفعل شأن عظيم ، فهو البشير الهادي والرحمة المهداة للعالمين ، قال تعالى: {...قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} المائدة 15-16.

سأله أصحابه فقالوا: {يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؛ فقال: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى ، وبصرى من أرض الشام} رواه الحاكم وصححه الذهبي، وتأويل دعوة إبراهيم عليه السلام قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} البقرة 129، أما تأويل بشارة عيسى عليه السلام فهي قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} الصف 6.

ولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في وقت ساد فيه الظلم ولم يُعرف فيه العدل، وكانت الإنسانية وبالأخص العرب في مرحلةً من أحطِّ مراحل تاريخها، حتى لقد صار الجهل والتعسُّف والاستبداد من أبرز ملامحها ، ولا مكان للخير فيها. فكان أعظم مولد على ظهر الأرض ، فتهاوت به أركان الظلم من عليائها ، وانتشر العدل في أرجائها.

تستذكر الإنسانية في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام نعمة الله تعالى عليها بمولده صلى الله عليه وسلم ، والمسلمون خاصة يستذكرون هذا المربي والمعلم الذي رفع برسالته ذكرهم في الكون ، وقد أتى عليهم زمان لم يكونوا شيئاً مذكوراً في عالم الفكر والحضارة ، بدليل الدرجات العُلاَ التي استحقتها أمته ، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} آل عمران 110. فهي التي رسخت قواعد الإسلام في الأرض وكتبت تاريخه المجيد، وهي التي صاغت مستقبله ورسمت صورته المشرقة في ذاكرة الإنسانية.

ابتدأ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بناء أمته في مكة المكرمة ثم في المدينة المنورة بالصفوة التي صنعها على عينه وأحاطها بالعناية والرعاية والتوجيه، حتى غدت نموذجاً فريداً يكاد لا يتكرر في البشرية. إنها الثمرة الجَنِيَّةُ للتربية النبوية التي تستمد مبادئها وأصولها من القرآن الكريم، وتأخذ دقائقها وتفاصيلها من السيرة النبوية الصادقة، فأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وكل ما يصدر عنه كان تطبيقاً كاملاً وتبياناً مفصلاً للقرآن الكريم ، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل 44.

يتميز المنهج التربوي الذي انتهجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكامل والشمول والتوازن ، فهو يتناول الإنسان بكيانه كله ويتولى جوانب شخصيته جميعها ، الجسم والعقل والروح ، وكذلك الوجدان والمشاعر والعواطف ، ولا يهمل شيئاً منها لأنها تمتزج معاً وترتبط في كائن واحد اسمه الإنسان دون أن تنفصل عنه أو ينسلخ منها ، فأشرف لحظة أشرقت لها روحه صلى الله عليه وسلم هي لحظة الوحي ، وقد رافقها إحساس جسدي وتفكير عقلي في آن واحد ، قال تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} القيامة 16- 18.

ومن معالم المنهج التربوي النبوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى صياغة الروح في أصحابه ، وهي طاقة في الإنسان لا حدود لها ، محجوبة عنه مع أنها أقرب ما تكون إليه ، لتصبح وسيلة اتصاله الدائم بربه سبحانه في كل وقت وكل حين ، مما يوقظ في قلبه الوازع الداخلي والشعور بمراقبة الله تعالى وخشيته ، قال صلى الله عليه وسلم يبين معنى الإحسان {أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} رواه البخاري، ونتيجة ذلك الاستقامة في الأقوال والأفعال والنوايا، ورضا النفس والإخلاص في العمل ، فالله سبحانه لا يقبل من الأعمال إلاَ الخالصة له سبحانه ولو كانت صالحة ، قال صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى} رواه البخاري. وبذلك تربى وجدان المؤمن وضميره حتى صار منبعاً للخير ومصدراً للعطاء.

وأما العقل الإنساني وهو الطاقة الواعية في الإنسان والقوة المدركة للحقائق ، فقد كانت طريقته صلى الله عليه وسلم تدريبها على التفكر والتدبر للوصول إلى الحق ، فهي طريقة تبدأ بالفكر وتنتهي بالعمل ، ولضمان ذلك فلا بد من طلب العلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {طلب العلم فريضة على كل مسلم} رواه ابن ماجة، وفي مجال الإيمان رفض التقليد الأعمى واتباع الآخرين على غير بصيرة فقال: {لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا} رواه الترمذي.

والتشريعات القرآنية التي أنزلها الله تعالى تحتاج إلى فهم ووعي حتى يمكن تطبيقها ، بل إن بعضها استدعى من المسلمين التفكر وإعمال العقل وفهم المقاصد لمعرفة الحكم الشرعي فيها بالاجتهاد ، وقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى في التشريعات القابلة للتغير والتجدد أن تأتي في القرآن الكريم أو السنة النبوية بإطارها العام وحدودها الإجمالية دون تفصيل ، وترك للعقل البشري أن يستنتج هذه التفاصيل ويبينها حتى تكون موضع التنفيذ ، فلو نظرنا إلى الفقه الإسلامي وغيره من العلوم لوجدنا تراثاً إنسانياً خالداً وثروة علمية هائلة دلت على نضج العقل وانطلاق الفكر عند المسلمين ، وأسهمت في تقدم المعارف الإنسانية والمناهج العلمية.

أما الجسم والجوارح والدوافع والغرائز فقد رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتوصل الإنسان إلى غاية عظمى ، وإلاَّ فهي شيءٌ ليس له قيمة ما دامت لا تؤدي وظيفتها التي خلقت من أجلها ، فحرصاً على حفظ الجسم وتوفير طاقاته التي تحقق أهداف الحياة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن لجسدك عليك حقا وإن لعينك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه} رواه البخاري. ومما يدل على اهتمامه بحسن المظهر أنه لما {رأى صلى الله عليه وسلم يوماً رجلاً شعثاً قد تفرق شعره فقال: أما كان يجد هذا ما يسكن به شعره، ورأى رجلاً آخر وعليه ثياب وسخة فقال: أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه} رواه أبو داود.

ولتقوية الجسم بالرياضة البدنية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آية (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) الأنفال60. {ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي} رواه مسلم، وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: {خرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فقال للناس تقدموا ، فتقدموا ، ثم قال لي تعالَيْ حتى أسابقك فسابقتُه فسبقتُه ، فسكت عني حتى إذا خرجتُ معه في بعض أسفاره فقال للناس تقدموا ، فتقدموا ، ثم قال تعالَيْ حتى أسابقك فسابقته فسبقني ، فجعل يضحك وهو يقول هذه بتلك} رواه أحمد. وحرصاً على سلامة هذا الجسد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاعتدال في الأكل والشرب فقال: {ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه فإن غلبت الآدمي نفسه فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنَّفَس} رواه أحمد ، وحث على الوقاية والتداوي من الأمراض، فقد {قيل له: يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال نعم، يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء إلا داء واحداً ، قالوا يا رسول الله وما هو؟ قال الهرم} رواه الترمذي. وفي الاستجابة لدوافع الفطرة وتلبية الاحتياجات الغريزية وفق شرع الله قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: {قد جعل الله لكم ما تصَّدّقون إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة... وفي بُضْعِ أحدكم صدقة "قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجراً} رواه مسلم.

وهكذا كانت التربية النبوية الممنهجة للإنسان شاملة متوازنة متكاملة، فأثمرت إنساناً متوازناً بضمير حي ووجدان متيقظ ، بعيداً عن أمراض النفس أو القلب ، فنشأ المجتمع المسلم المتوازن الذي ساد الدنيا فملأها عدلاً وسلاماً وتسامحاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً ، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيم} التوبة 128.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقاضي قضاة فلسطين، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً، وأمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس.





التالي
الشيخ القرضاوي عطاء متواصل
السابق
الشيخ عكرمة صبري: تربطني بالعلاَّمة القرضاوي علاقة منذ 50 عاماً.. ورحيله خسارة لـ”الأقصى”

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع