البحث

التفاصيل

قانون الإحسان

الرابط المختصر :

قانون الإحسان

بقلم: د. جمال عبدالستار

 

إن الناظر في حال الأمة يمكنه أن يلحظ انتشار حالة من عدم الإتقان بين المسلمين، هذه الحالة منتشرة في كل مكان وكل مجال، حتى أصبح الاعتماد على كون الشخص مسلمًا غير كافٍ وحده لضمان الجودة والإتقان، بل أصبحت هناك أفكار سلبية حول اشتهار المسلمين بعدم إتقانهم للعمل.

لقد تعدت حالة عدم الإتقان من كونها سمة لفئة من الناس إلى كونها حالة عامة يمكن أن نلحظها في كل المهن، فهناك العامل الذي لا يتقن عمله فينتج عملًا يسرع فساده، وهناك التاجر الذي يبيع بضائع مغشوشة، وهناك المقاول الذي يغش في مواصفات العمل الذي يقوم به، وهناك الطبيب الذي لا يبذل جهده في دراسة الحالة الصحية للمريض ويصف العلاج دون تثبت، وهناك المعلم الذي لا يبذل وسعه في تعليم طلابه علمًا نافعًا، وهكذا نجد أن عدم الإتقان وإهمال الإحسان يُعَد سمة غالبة لم تَخلُ منها مهنة دون أخرى!

نتيجة لذلك، أصبح الإقبال كبيرًا على شراء المنتجات “المستوردة” أي التي يصنعها غير المسلمين، وذلك لأنها أكثر جودة، وأصبحت غالب المنتجات التي يصنعها المسلمون غير جديرة بالثقة بالمقارنة بالتي تصنعها الدول غير المسلمة!

لقد استمرت هذه الحالة المَرَضية في الانتشار حتى أصبحت سمة غالبة حتى في العلاقة مع الله، لقد أصبحت العبادات تؤدى دون إتقان، فالوضوء لا إسباغ فيه، والصلاة لا خشوع فيها ولا روح لها، والصيام صار امتناعًا عن المفطرات وفقد روح التعبد مثل غيره من العبادات التي تحولت إلى “شعائر” ظاهرية تؤدى دون إحسان ولا إتقان.

وفي خضم هذه الظروف المؤسفة، أصبح البعض يروّج لأفكار مفادها أن عدم الإتقان سمة طبيعية لهذا العصر، وأن الظروف تقتضي الإسراع في تنفيذ كل شيء، والسعي لتعظيم المكاسب والتعامل وفق مقتضيات السوق والمنافسة، وهو ما يؤدي إلى تخفيض الجودة والتنازل عن المعايير المتطلبة في كل شيء بدءًا من العبادة ووصولًا إلى المهن والوظائف.

وبداية أقول: هذه المظاهر ما هي إلا أعراض واضحة لمخالفة جسيمة لقانون قرآني راسخ، ألا وهو قانون الإحسان.

والإحسان قد يكون بمعنى العطاء والفضل، وقد يكون بمعنى الإتقان والإجادة وهو الأكثر في القرآن، وهو موضع حديثنا.

فالإحسان فريضة غائبة، بفقده حُرمت الأمة تأييد الرحمن، وتسلط عليها شياطين الإنس والجان، وهو رفيق الإخلاص، فإن اجتمعا في امرئ رزقه الله تعالى ضمان المثوبة وخلود الذكر.

وإذا كان الله تعالى يحب العبد الذي يتقن عمله، فإنه سبحانه يبغض الأمة التي تهدر الإمكانات وتبدد الطاقات وتسيء العمل.

وإن الله تعالى لا يقبل من الأمة أن تبذل جهدها في تسوية الصلاة في المسجد، وتخفق في تسويتها لمواجهة الباطل وإقامة الحق في ميدان الصراع.

وإني لأعجب من أمة تتقن حفظ مخططات الأعداء وعظيم مكرهم، ولا تتقن صناعة خطط المسلمين للنهضة وسبل مواجهة مخططات أعدائها.

الإحسان واجب شرعي وليس نافلة من القول

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتْلة، وإذا ذبحتُم فأحسِنوا الذِّبْحة، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفرتَه، ولْيُرِحْ ذبيحتَه” رواه مسلم.

وأثر الإحسان يعود على صاحبه في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}، وقال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسانِ إِلَّا الإِحْسانُ}.

والقرآن أمر المسلم بأن يكون محسنًا في دفعه الإساءة، وفي قوله وعمله، وفي طعامه وملبسه، وفي عبادته، وفي تلاوته، ومع زوجته وأهله، وفي كل شأن من شؤونه.

أحوال الناس مع الإحسان

المحسنون هم قوم علموا أن الإحسان أمر رباني وقانون قرآني لا يمكن مخالفته، وأن عاقبة الإحسان لا تكون إلا الحسنى، لهذا انتهجوا الإحسان في كل حياتهم، فأحسن الله إليهم بأنواع شتى من الفتح منها:

* معيّة الله تعالى: فما أجمل أن يكون الله مع عبده المحسن، فمن كان الله معه فلا يضره شيء، قال تعالى {وإنَّ اللهَ لمعَ المُحسنينَ}.

* ضمان الله لجهد العبد وحمايته من الضياع: فجهد المحسن لا يضيع في الدنيا ولا في الآخرة، قال تعالى {إنّا لا نُضيعُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملًا}.

* محبة الله: إن الله إذا أحب عبدًا حفظه ووفقه ويسّر أمره، والله يحب المحسنين، قال تعالى {وأحسِنوا إنَّ اللهَ يُحبُّ المُحسنينَ}.

وفي الحديث عن أم المؤمنين عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “إنَّ اللهَ يُحبُّ إذا عملَ أحدُكم عملًا أن يتقنَه” شعب الإيمان 4/1867

* رحمة الله ورضوانه: فأقرب الناس إلى رحمته هم المحسنون، قال تعالى {إنَّ رَحْمَتَ اللهِ قريبٌ مِن المُحسنينَ}.

المسيئون يعرّضون أنفسهم لعقوبات شتى

المسيئون هم قوم لم يتقنوا أمرًا من أمور الدنيا ولا الآخرة، فلم يكونوا من المحسنين في عبادتهم ولا في أعمالهم، ظنًّا منهم أن ترك الاتقان يجعلهم يفوزون في الدنيا، وبمخالفتهم لقانون الإحسان فإنهم يعرّضون أنفسهم لعقوبات شتى، أذكر منها:

* الوقوع في الكذب والتعرض لعقوبته: فالذي يترك طريق الاحسان يقع لا محالة في الكذب، فما ثمة أحد يقول على فعله أنه غير متقن ويعترف أنه سلك غير سبيل الإحسان، وهو ما يجعله لا محالة يقع في الكذب، وفي مثل هؤلاء قال تعالى {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}.

* عدم قبول الطاعات: فالإنسان قد يطيع ربه ورغم ذلك يُعذَّب في النار والعياذ بالله، فالذين يتوضؤون من دون إسباغ الوضوء تمس أعقابهم النار، ففي الحديث “ويلٌ للأعقابِ مِن النارِ، أسبِغُوا الوضوءَ”.

وبسبب ترك الإحسان قد لا يُكتب للإنسان من أجر صلاته شيء، فيصلي ولا يحصل على أجر ولا تُرفع له فيها دعوة، ففي الحديث “إنَّ العبدَ لَيصلِّي الصلاةَ ما يُكتَبُ لهُ منها إلَّا عُشرُها، تُسعُها، ثمنُها، سُبعُها، سُدسُها، خمسُها، ربعُها، ثلثُها نصفُها” أخرجه أبو داود والنسائي.

* ذهاب أجر العبادة: فالعبادة من دون إحسان لا نفع فيها ولا أجر عليها، لهذا يفوت المسيئين أجرُ العبادة، فيصيبهم نصبها ولا يحصلون على شيء من أجرها، ففي الحديث “رُبَّ صائمٍ حظُّهُ مِن صيامِهِ الجوعُ والعطشُ، ورُبَّ قائمٍ حظُّهُ من قيامِهِ السهرُ” رواه أحمد.

وعن أنس بن مالك “رُبَّ تالٍ للقرآنِ والقرآنُ يلعنُه”، فكل من لم يحسن في عبادة كانت عليه وبالًا وخسارًا.

وأخيرًا..

إن الأعمال المتقنة والنيات الصادقة هي فقط تلك التي تليق بشرف الوضع في الميزان، وما دون ذلك فالهبائية مصيره، وعدم القبول مآله. والأمة التي تغيب عن ميدان الإتقان لا تصلح لعبادة، ولا تستحق ريادة، وليست مؤهلة للتمكين. ومن لم يحسن العبادة فلن ينجح في العمارة، ومن لم ينجح في العمارة فقد فشل في الاستخلاف وصار من حزب الشيطان.





التالي
هل كان الشيخ القرضاوي النسخة التصحيحية لتجربة الإمام البنا؟
السابق
"مشهد يبعث بالأمل والتفاؤل".. تكريم 481 من حفظة القرآن الكريم في محافظة الجيزة المصرية

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع