مونديال قطر ومحاولات طمس هوية المضيف
بقلم: ياسين أقطاي
إنها كرة القدم اللعبة الأكثر شعبية في العالم. ترتكز أساسًا على الأداء والمهارة والفنيات، لكن أثرها لا يقف عند حدود الملعب وتمريرات اللاعبين، فكل ما يحدث خارج المستطيل الأخضر له انعكاس تلقائي على ما يقع داخله. هل تعلم أننا حين نتفق على قبول قاعدة “الفوز للأفضل”، فإننا بذلك نعترف ضمنيًا بتفوق اللعبة نفسها بجمالياتها وفنياتها وقواعدها المنظمة لسلوكيات الجميع؟! لكن عندما تخرج كرة القدم عن حدود تلك القواعد، فإن اللعبة كلها تتجاوز كونها مجرد لعبة.
في هذا الصدد لا يمكن بقاء كرة القدم بعيدًا عن دائرة الفكر والسياسة، فهي تجذب عقول فئات المجتمع كله في مختلف مناطق العالم، وتشغل حيزًا كبيرًا من تفكيرهم على مدار الساعة، فهل هذه ميزة في كرة القدم وفرصة رائعة في طريق الوحدة والتضامن والروح الرياضية في النظر إلى الآخرين، أم أنها سلاح لنشر البغضاء والعداوة بين الناس؟!
إن تأثير لعبة كرة القدم بأساليبها المختلفة على مستويات المجتمع كله، حقيقة لا تخفى على أحد في القرن العشرين، وقد تسببت في تقسيم العالم الذي نعيش فيه إلى طبقات متوازية ومتصارعة تبعًا لما يصيبها من فرح وحزن وما يتأسس من علاقات الصداقة والعداء، ومع ذلك، من المهم ألا ننسى الأسباب السياسية التي كانت وراء ظهور هذا العالم المصنوع بتأثير كرة القدم. أراد بعضهم استخدامها لإلهاء الجماهير، وبعض آخر وظفها لتوحيد المجتمع، وفريق ثالث انطلق من حدود الهوية ووظفها لفصل أنفسهم عن الآخرين تحت زعم التفوق والتميز. مهما كان الغرض فإن كرة القدم قد حافظت على مكانتها، واكتسبت استقلالية أكبر ميزتها عن الألعاب الأخرى. إنها بالطبع قصة طويلة ومعقدة.
مؤسسة عملاقة
إن مسابقة كأس العالم والمونديال الذي تتهافت كل دول العالم للمشاركة فيه، مؤسسة عملاقة تتجاوز حدود الدول والقارات، ويمكن توظيفها لخدمة الإنسانية ونشر التعارف والسلام في أرجاء العالم كله الذي يئن تحت وطأة المصالح المتضاربة وما ينتج عنها من صراعات خفية تصل في أحيان كثيرة لمستوى الحروب الفعلية التي تخلف وراءها جراحات وخرابًا، ورغم ذلك فإننا هذه الأيام نرى صورة من صور التوظيف السياسي لكرة القدم في مباريات كأس العالم الذي ستنظمه قطر، بدلًا عن الاستفادة مما توفره هذه المسابقة من فرصة لكل شعوب العالم للقاء والتواصل عن قرب بشكل لا يتوافر في أي مناسبة أخرى، وبالطبع في ذلك المهرجان يكون لديهم كذلك الفرصة لإظهار علاقاتهم الإيجابية والسلبية تجاه الآخرين، في حدود الأدب والتفاهم، وكرة القدم وسيلة مهذبة للقيام بذلك إلى جانب كونها مناسبة للسلام واللقاء والتواصل الاجتماعي في الأحوال جميعها، ولا شك أن إحدى السمات المميزة لهذه النسخة من كأس العالم 2022، التي ستنطلق فعالياتها في الثلث الأخير من شهر نوفمبر/تشرين الثاني، هي أنها لأول مرة ستنظمها وتضيفها دولة إسلامية.
عام 2010 وقع الاختيار على قطر لتنظيم مباريات كأس العالم، ومنذ ذلك الحين عملت قطر على قدم وساق وقامت باستعدادات غير مسبوقة على مدى 12 عامًا لتنظيم نسخة مميزة لكأس العالم، فأعادت تأسيس البنية التحتية في البلاد، ونجحت في تنفيذ أعمال في غاية الدقة للظهور بالمنظر اللائق بها أمام العالم، ولتكشف أن قطر حكومة ومؤسسات وشعبًا على قدر المسؤولية. قال أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني: إنهم يرون في كأس العالم فرصة عظيمة لكل العالم للتعرف على قطر عن قرب بطريقة عملية وإدراك قدراتها على المستوى الدولي. ولكن يبدو أن هناك معارضة كبيرة ترفض الاعتراف بقطر رغم هذا الجهد الكبير الذي بذلته ولا تزال لإثبات نفسها. فإنها لا تزال تواجه هجومًا يفوق ما يحدث في الحملات الانتخابية، وهو هجوم وانتقاد لم تتعرض له أي دولة نظمت أي نسخة سابقة لكأس العالم من قبل. وقد انطلقت تلك الانتقادات في البداية بدعوى صعوبة استضافة قطر للكأس بسبب الحرارة الشديدة والمناخ والجغرافيا الوعرة ونشر معلومات كاذبة ومغلوطة حول الحياة في قطر وقوانينها. ولما كانت هذه الدعوى غير منطقية، فقد بدأ في الآونة الأخيرة انكشاف النية الحقيقية وراءها ووراء كل الانتقادات غير المبررة، ويكمن المقصد الرئيسي خلف ذلك الهجوم في الاعتقاد بأنه ليس من المناسب إقامة كأس العالم في بلد مسلم. ومن الواضح، وفقًا لأصحاب هذا الاعتقاد، أن الدول الإسلامية يمكنها فقط المشاركة في الكأس، لكنها لا يحق لها استضافته أو تنظيم أي نسخة منه.
القشة
ولعل المنتقدين لتنظيم قطر مونديال 2022 قد ظنوا أنهم وجدوا القشة التي سيقصمون بها ظهر قطر وسينهون بها المونديال قبل انطلاقه، وذلك حين وصف اللاعب القطري السابق وسفير نسخة 2022 من كأس العالم خالد سلمان، المثلية الجنسية بأنها “اضطراب في العقل”، تلقف المنتقدون لقطر هذا التصريح وبدأوا زيادة مستوى الهجوم كثور هائج نشط من عقال، وجعلوا المونديال ليس مجرد بطولة كرة قدم، فأصبح أيضًا مهرجانًا ضخمًا تتنافس فيه السياسات والهويات والأفكار المختلفة ولا يتعلق فقط بكرة القدم، وهكذا وجدنا مزيدًا من الظهور والتأثير الوقح لمسألة المثليين وتجاوزه مستويات لم نكن نتوقع وصوله إليها، وقد استخدم أصحاب هذه الأفكار في حملتهم الموجهة ضد استضافة قطر لفعاليات المسابقة، كلمات وعبارات هي نموذج لخطاب استشراقي متعمَّد يهدم كل الشعارات التي تم وضعها والاتفاق عليها منذ البداية كونها أهدافًا سامية للمونديال، وهي أن يؤدي وظيفته المتمثلة في تعريف شعوب العالم بعضها ببعض، وليس من المتوقع أن يؤديها من خلال فرض الإمبريالية المتشددة نمطًا معينًا وأسلوبًا خاصًا للحياة على البلدان التي ستقام فيها المسابقة.
الوعي بأن تكون ضيفًا
أليس من الأولى بدلًا من أسلوب الغزو أو الاحتلال للبلد المستضيف للمونديال، أن نكون على وعي بمعنى أن تكون ضيفًا، والتصرف تجاه ثقافة البلد بمنطقية أكثر، فمن يرغب أن يفرض نمط حياته على كل مكان يذهب إليه ليقضي فيه بعض الوقت، ويصبغه بطريقة حياته الخاصة، ليس لديه أي استيعاب لمعنى الثقافة، بل هو بكل تأكيد فرض إمبريالي متشدد لثقافته على الآخرين، وربما بطريقة ودية عفوية قد يود شخص ما الاستمتاع بفرصة وجود شيء متعلق بثقافته في ذلك المهرجان الكروي، لكن هذا بالطبع ليس حقًا مكتسبًا بمعنى أنه ليس منصوصًا عليه في بنود تذاكر حضور المونديال، فكرة القدم ليست مقتصرة على اللعبة بالطبع، لكنها في الوقت نفسه ليست ساحة فيها كل شيء ممكن ومباح، فلديها قواعد واضحة ومحددة وصارمة للغاية لكل من يلعب داخل المستطيل الأخضر ومن هم خارجه من المشاهدين والمشجعين الذين لا يُسمح لهم مثلًا بإلقاء أي أجسام غريبة في الملعب.
إنها اليوم قطر صاحبة الأرض والإمكانيات والضيافة، ألا يجب أن يكون المجتمع العالمي لكرة القدم على استعداد لرؤية هذا البلد المستضيف والتعرف إليه والتعلم منه، بدلًا من قدومه محملًا بأفكار مسبقة بأن هذه النسخة من كأس العالم ستفرض ثقافة معينة، لأنها ستقام في بلد إسلامي هو دولة قطر التي لها ثقافتها وتقاليدها الخاصة، وذلك بدلًا من التوظيف العقيم للثقافة الأحادية التي يتبناها من يوجهون الانتقادات لقطر ويعملون وكلاء لأفكار الغاب.
مَن سيسافر إلى قطر سيتمكن من رؤية دولة حقيقية هناك، ويجب أن تتاح له الفرصة كاملة للتعرف إلى نموذج لبلد إسلامي بكل ثقافته وقيَمِه وعاداته، ولا يجب أن يبقى كل من يذهب إلى هناك متقوقعًا داخل نفسه وثقافته التي ينتمي إليها، بل من المفيد للجميع أن يكونوا منفتحين على الآخر والتعرف إليه، وإلا فلن يكون هناك أمل في الاستفادة من تنظيم هذه المسابقات الدولية لكرة القدم وغيرها، ولا شك أن أولئك الذين يحضرون إلى قطر للاستمتاع بكرة القدم سوف يصادفون حولهم رسائل أخلاقية دقيقة في ألفاظ الأحاديث النبوية مثل: “كل معروف صدقة”، “اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة”، “من لا يَرحم لا يُرحم”.
بالطبع، من حق قطر الدولة المستضيفة أن تستفيد من هذه الفرصة في التعريف بنفسها والترويج لثقافتها وعاداتها بدلًا من الانسياق خلف القوى العالمية دائمًا والتلون بصبغة لا تتلاءم معها، ولكن في النهاية ينبغي تأكيد عدم القدرة التامة على استيعاب الجميع لمثل هذا اللقاء الثقافي من ناحية، وما يحيط به من مشكلات فردية أو مجتمعية، دون أن نتغافل عما يصاحب صناعة كرة القدم، من تأثير كبير في العلاقات وإدارة القوة وأزمات المديونيات العامة ومقدرات الشعوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ياسين أقطاي؛ أكاديمي، وسياسي، وكاتب تركي
* (ملحوظة: جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)