﷽
فتاوى الأمين العام للاتحاد بشأن "الأدوية الطبية وما يتعلق بها"
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد
فقد وردتني مجموعة من الأسئلة، أثارها بعض الأحبة من الأطباء والصيادلة وأصحاب مصانع وشركات الأدوية والمستحضرات الطبية، ومندوبيها:
السؤال الأول: مدى أهمية الأدوية في الشريعة الإسلامية، وهل تم تخصصيها بأحكام كما هو الحال في النظم المعاصرة؟
الجواب:
أولى الإسلام العناية القصوى بصحة الإنسان ظاهره وباطنه، وجعلها من أعظم مقاصد الشريعة، وذلك لأن معظم مقاصد الشريعة مرتبطة بها ، كما أن العقل السليم في الجسم السليم، وأن الحضارة لا تُبنى بالمرضى، وكذلك لا يُنشر الإسلام بالعجزة، ولا يُحمى الوطن بذوي الأسقام والعاهات، وإنما الحضارة تُبنى بالعقل المبدع، والجسم القادر على العمل، قال رسول الله ﷺ : ( والمؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله الله من المؤمن الضعيف) ([1]).
كما أمر الرسول ﷺ أمراً واضحاً بالتداوي حين سأله بعض الصحابة رضي الله عنهم عن التداوي : (قالوا : يا رسول الله! أفنتَداوى؟ قال: (نعَم، يا عباد الله! تداوَوا، فإنّ اللهَ لم يضَعْ داءً، إلّا وضعَ لهُ شفاءً غير داءٍ واحدٍ، وهو الهرَمُ) ([2]) ، ففي هذا الحديث أمل كبير بإمكانية الوصول إلى الدواء لكل مرض مهما كان مستعصياً وخطيراً، ولكن يجب الأخذ بالأسباب.
وقد بيّن ﷺ أهمية التخصص والدقة في تشخيص الداء ، وتحديد الدواء المناسب له([3])، فقال ﷺ: (لكل داءٍ دواء، فإذا أصيب دواءٌ الداءِ برئ بإذن الله تعالى) ([4]).
عناية الإسلام بالدواء:
لذلك أولى الإسلام عناية بالدواء من النواحي الآتية:
1- وجوب السعي للوصول إلى الدواء الناجع لكل مرض ولو كان معضلاً، من خلال الأخذ بالأسباب، وبذل الجهود الكبيرة للوصول إلى ذلك.
2- وجوب العناية بإعداد الدواء الناجع من خلال الإتقان فيه ، بل الإبداع فيه ، فالإتقان في الشريعة الإسلامية فريضة شرعية فقال ﷺ: (إن الله يُحِبُّ إذا عَمِلَ أحدكم عملًا أن يُتقنه)([5]) ، (إن الله يحب من العامل إذا ما عمل أن يحسن)([6]) ،بل إن الله تعالى أمر بالإحسان ، وهو الإتقان مع الزيادة الكبيرة في الجودة فقال تعالى: (وَأَحۡسِنُوٓاْۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُحۡسِنِينَ) ([7]) وقال تعالى: (ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ)([8]) ، وكذلك يجب على المسلمين -أفراداً وشركات وحكومات- أن يلتزموا بقواعد الجودة والإتقان والإحسان.
3- حرمة صناعة ، أو بيع ، أو ترخيص أو استخدام أي أدوية فيها غش في صناعتها ونوعيتها وصلاحيتها وتأريخ انتهائها ونحو ذلك، أو مخالفتها للمعايير والمقاييس الطبية والصحية المنظمة لصناعة الأدوية، فمن المعلوم أن الغش من المحرمات الكبائر، وأن الغش في الأدوية أكثر حرمة وأكبر جريمة؛ لأنها تتعلق بصحة الإنسان.
4- حرمة الاستغلال لحاجة الناس ، وحرمة الاحتكار، حتى لعن رسول الله المحتكر ، وبخاصة في مجال صحة الإنسان ودوائه وغذائه.
5- وجوب البيان في كل ما يتعلق بالدواء بمنتهى الصدق والشفافية .
6- حرمة صناعة أو ترخيص أو بيع أي دواء فيه ضرر ، أو أي شيئ يتسبب في إحداث الضرر، فمن المعلوم أن الشيء إذا أصابه عيب فيكتفى بإظهار العيب ، وعندئذ يكون الشخص الراغب في شرائه أو نحوه بالخيار، أما الشيء الذي فيه ضرر فلا يجوز بيعه ، كما هو الحال في الخمور، وكذلك ولو وجد دواء فيه ضرر بصحة الإنسان، فلا يكتفى فيه البيان ، وذلك لأن الضرر لا يجوز بيعه، كما أن الرسول ﷺ قال: ( لا ضرر ولا ضرار ) ([9]).
7- أن من المتفق عليه أن بيع أو صناعة الأدوية المغشوشة بالإضافة إلى حرمتهما فإنه يترتب عليهما الضمان والتعويض من الديات ونحوها، فلنتق الله تعالى، ولنترك الجشع والطمع القاتل والإضرار بالناس وصحتهم.
8- إن من أهم واجبات الدولة الحفاظ على سلامة الأدوية من كل غش، أو استغلال، أو إضرار بالناس، فإذا حدث بأن قصرت الدولة في واجباتها، فلا يعفى المجتمع من القيام بهذا الواجب ، وهنا يبرز دور العلماء والأطباء والصيادلة وأصحاب مصانع وشركات الأدوية في هذا المجال لإصلاح فساد صناعة الأدوية ودرء ضررها وشرورها.
السؤال الثاني: حول التعامل مع المندوبين العاملين في مجال الأدوية ؟
أولاً: يوجد نوعان من الوظائف للمندوبين في مجال الأدوية، الأول: مندوبين للتعريف بالأدوية ، والثاني: مندوبين للقيام بأعمال وأنشطة تسويق وبيع الأدوية،
فالأول مسؤول عن توصيل المعلومات الدقيقة حول الأدوية إلى الأطباء، وبالتالي فعلاقته المباشرة مع الأطباء، وفي الغالب هذا النوع من المندوبين إما طبيب صيدلاني ، أو صيدلاني فقط، حيث يقوم بشرح وطرح مواصفات الدواء، وقيمته، وجودته وما يتعلق به من الناحية الطبية، ومنهم مَنْ لا يطرح ذلك على الطبيب ويلح عليه الاقتناع بجودة الدواء للوصول إلى الاتفاق معه لترخيص الدواء وتشخصيه لحالات المرض المناسبة.
وأما النوع الثاني وهم مندوبي التسويق والبيع، فعلاقتهم المباشرة مع الصيدليات لبيع منتجاتهم من الأدوية الموكلة إليهم تسويقها والترويج لها وبيعها.
ثانياً: الأسئلة الواردة هنا هي حسب الواقع الموجود في بعض البلاد، وفقاً للحالات الآتية:
الحالة الأولى : حالة الاتفاق بين الطبيب وشركة الدواء، فإذا قام الطبيب بتشخيص الأدوية المنتجة من الشركة ، للمرضى ، بما يعادل قيمة عشرة آلاف دولار -مثلاً- في فترة ستة أشهر، فإن الشركة ستمنحه جهاز هاتف أو خمسمائة دولار ، أو تدفع له مبلغاً بنسبة 10% من القيمة المحددة للمبيعات خلال الفترة المتفق عليها، أو أن توفده لحضور مؤتمر علمي على نفقة الشركة، أو تعطيه كمية من الأدوية مجاناً لبيعها لصالحه ، أو تمنحه قرضاً مالياً جيداً بدون فائدة أو غير ذلك من المغريات، أو أي اتفاق آخر بينهما يحصل الطبيب على مكافآت وهدايات مقابل قيامه بكتابة روشتات وصفات طبية لمرضاه لاستخدام الأدوية المنتجة من الشركة.
الجواب:
تمهيد في المبادئ الأساسية الحاكمة في هذا المجال:
قبل أن أبدأ بالإجابة الخاصة عن الحالة المذكورة هنا ، أود أن أوضح في هذا التمهيد مجموعة من المبادئ الأساسية الحاكمة في هذا المجال ، وفي غيره ، منها:
المبدأ الأول: وجوب البيان والإفصاح والشفافية ، وحرمة الإخفاء والغش والتدليس والتغرير ، وهو مبدأ شامل لكل نشاط، وفي مجال الأدوية والطب هو أشد وأقوى.
المبدأ الثاني: حرمة الاحتكار والاستغلال لحاجات الناس.
المبدأ الثالث: حرمة الإضرار بأي شخص مهما كان ، فلا ضرر ولا ضرار في شريعة الإسلام.
المبدأ الرابع: وجوب الحفاظ على أمانة العمل الطبي ومبادئه، والحفاظ على أخلاقياته ([10]).
المبدأ الخامس: حرمة أكل أموال الناس بالباطل ، وحرمة الرشوة ، حيث روي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو، قال: (لعن رسول الله ﷺ الراشي والمرتشي) ([11]).
المبدأ السادس: لا يجوز للطبيب – لا بمال أو بغيره- كتابة وصفة طبية تتضمن دواءً فاسداً ، أو مغشوشاً ، أو ضاراً ، أو أنه لا تتوافر فيه الشروط المطلوبة لحالة المريض حسب الضوابط والإرشادات الطبية، فهذه من المحرمات المهلكات على الشركة الصانعة ، أو المستوردة، أو الطبيب ، أو أي شخص ،أو جهة له مساهمة في ترويج ذلك، فالنصوص الشرعية على حرمة ذلك كثيرة ، لا يمكن حصرها في هذه الفتوى الموجزة.
ولمن شارك أو يشارك في ترويج مثل هذا ، فقد ارتكب كبيرة من الكبائر ، فإن كان ذلك مقابل مال فإثمه أكبر وأعظم، وعقوبته أشد عند الله تعالى.
المبدأ السابع: ضرورة التزام الطبيب بالسلوكيات والقيم السامية والأمانة العظيمة ، والمبادئ الأخلاقية الخاصة بعمل الطبيب ، والقَسَم الطبي الذي أقسم فيه أن يحافظ على هذه الأخلاق العظيمة والقيم الإنسانية العليا، والتي يجب أن تُعلى على الطمع والجشع والمكاسب المادية المجردة عن القيم ، والحفاظ على مزاولة مهنة الطب القائمة على الجانب الإنساني النبيل([12]).
الجواب عن الحالة الأولى:
وللإجابة عما ذكر في الحالة الأولى المعروضة، نقول : إن هذا الاتفاق بجميع تفاصيله غير جائز شرعاً؛ لأنه يؤدي إلى مفاسد كبيرة،
- منها إخراج مهنة الطب من مقاصدها النبيلة إلى الجشع والطمع ، والسمسرة للشركات الرأسمالية.
- ومنها أن أي زيادة ستعود -إن عاجلاً أو آجلاً- بالضرر على المرضى والإضرار بهم ، فهم يتحملونها ، بالإضافة إلى أن الطبيب قد يكتب وصفات أدوية كثيرة ، أو نحوها لأجل الزيادة المالية ونفعه في نصيبه هو، فيؤدي ذلك إلى استغلال المريض، واستنزافه مالياً بل وربما صحياً إن لم يكن بحاجة إلى تلك الأدوية.
- ومنها أن الطبيب مستشار مؤتمن للمريض، فلا يجوز له أن يغفل عن ذلك لأجل مكسب مالي سوى حقه الطبي.
- ومنها الإضرار بالشركات الأخرى التي تزاول أنشطتها دون الدخول في هذه السلوكيات لصرف أدويتها، وقد قال رسول الله ﷺ : ( لا ضرر ولا ضرار ) ([13]).
- ومنها أن ذلك أكل لأموال الناس بالباطل، وذلك بقيام الطبيب بالحصول على مكسب مالي دون جهد مشروع ، بقيامه بترويج أدوية شركة معينة على حساب الشركات الأخرى التي قد تكون أدويتها أرخص ثمناً وأنفع وأكثر فعالية ومصلحة للمريض.
نعم إن كانت تلك الأدوية جيدة ، وأسعارها مناسبة، فيجوز للطبيب ان يفضلها على غيرها لمصلحة المريض فقط، ولا يجوز أخذ الأجر على ذلك.
والخلاصة أن هذا المنع الشرعي يعود إلى هذه الأضرار الجسيمة الناجمة عن الاتفاق المذكور بين الشركة والطبيب، كما أنه من باب سدّ الذرائع المفضية إلى المفاسد ، حتى ولو كان الموضوع في أصله مشروعاً ، فقال تعالى: (وَلَا تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدۡوَۢا بِغَيۡرِ عِلۡمٍ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمۡ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرۡجِعُهُمۡ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ)([14]).
وعلى هذا صدرت فتاوى جماعية ،
- منها الفتوى رقم (12/570 ، 571) لهيئة كبار العلماء بالسعودية بحرمة هذه الاتفاقيات بين الطبيب ، والمختبرات الطبية.
- ومنها فتوى دار الإفتاء المصرية ، حيث جاء فيها: (لا يجوز للطبيب أن يخالف آداب مهنته، وعليه أن يضع نصب عينيه الأمانة في نصحه للمريض ومشورته له، وأن يدله على ما هو أنفع له في علاجه، وأحفظ له في ماله، ولا يجوز له أن يقدم مصلحته في ذلك على حساب مصلحة المريض، فإن خالف ذلك فهو آثم شرعاً، لأنه مستشار في ذلك ، وقد قال النبي ﷺ (المستشار مؤتمن) ([15]).
- وقد جاء في المادة (8) من لائحة آداب المهنة الصادرة من وزارة الصحة المصري ، رقم 238 لسنة 2003م: (ولا يجوز للطبيب أن يأتي عملاً من الأعمال الآتية: ...
طلب ، أو قبول مكافأة ، أو أجر من أي نوع كان نظير التعهد أو القيام بوصف أدوية ، أو أجهزة معينة للمرضى ، أو إرسالهم إلى مستشفى ، أو مصح علاجي ، أو دور للتمريض، أو صيدلية ، أو أي مكان محدد لإجراء الفحوص والتحاليل الطبية، أو لبيع المستلزمات أو العينات الطبية).
- وصدرت فتوى مماثلة (رقمها 147،12/210م) من مجلس الإفتاء في الأردن ، فقررت حرمة ذلك بناء على أنه أكل لأموال الناس بالباطل، لأن الطبيب يأخذ مالاً في غير مقابل مشروع، كما أنه يؤدي إلى إفساد ذمة الطبيب.
ووصيتنا الدائمة للجميع ، وبخاصة للأطباء أصحاب هذه المهنة الشريفة هي التقوى والورع، والتناصح ، والنصيحة للمرضى بالحق والوقوف معهم بمنتهى اللطف والإحسان.
الحالة الثانية : أن تقوم الشركة ودون اتفاق مسبق ، بإرسال هدايا عينية أو مكافآت نقدية للطبيب، نهاية كل سنة -مثلاً- أو أي فترة أخرى.
الجواب:
هذه المسألة تدخل في باب الهدايا التي تعود في جوهرها ، ومآلها إلى الرشوة، ولذلك لا يجوز للطبيب المسلم أن يقبلها في البداية، لأن هذه الهدايا لم تقدم لله تعالى ، أو لأجل محبة ، وإنما لغرض مالي معروف ، في الإسلام قاعدة رائعة ورائدة في هذا المجال عبّر عنها الحديث الصحيح المتفق عليها ، حيث (استعمل النبي ﷺ رجلاً من بني أسد يقال له ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ ، على صدقة ، فلمّا قدم قال : هذا لَكُمْ، وهذا أُهْدِيَ لِي. فقام النبي ﷺ على المنبر، فَحَمِدَ الله، وأَثْنى عليه، وقالَ: (ما بالُ العامِل تبْعَثُهُ، فيأتي يَقولُ: هذا لَك، وهذا لِي، فهّلا جلس في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ، فيَنْظُرَ أيُهْدى لهُ أمْ لا؟ والَّذِي نَفْسي بيَدِهِ، لا يأتي بشيءٍ إلّا جاءَ به يَومَ القِيامَةِ يَحْمِلُهُ على رقبتهِ ...) ([16]) .
والقاعدة هي أن كل شيء يُعطى للإنسان بسبب مهنته ووظيفته محاباةً وطمعاً في خدمة المُهدِي ومصالحه فهو من المحرمات ، وقد ورد حديث صحيح آخر بلفظ (هدايا العمال غلول) ([17]) أي الهدايا لأصحاب الوظائف خيانة.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة لهيئة كبار العلماء (23/570، 571) : (نظراً للتنافس الشديد بين شركات الأدوية المختلفة يأتي ممثلها ، ويوزع بعض الهدايا على الأطباء ، مثل قلم مكتوب عليه اسم المنتج، أو ساعة ، أو مسجل أو تنحو ذلك ، ويقصد بذلك أن يكتب الطبيب ذلك الدواء ، أو المنتج للمريض، فما حكم هذه الهدية للطبيب؟ فهل هي هدية أم رشوة ، وبخاصة إذا كان هناك بند في الشركة مخصص للدعاية؟
وأحيانا تعد الشركة الطبيب بهدية معينة مقابل كتابته لكمية محددة، فهل هذه رشوة أم لا ؟ وفي أحيان أخرى تعد الشركة الطبيب بهدية مقابل كتابته الدواء دون تحديد كمية، فهل لهو كتب الطبيب الدواء في موضعه الصحيح يأثم لذلك ، أم لا وما الدليل؟.
وأحيانا تكون الماد الفعالة واحدة، ولكن تنتج الدواء عدة شركات بأسماء تجارية مختلفة -أي : لها جميعا نفس التأثير -، فيزور مندوب بعض هذه الشركات الطبيب في عيادته بصفة دورية ويعطيه هدية من الشركة، وبالتالي يكتب الطبيب دواء المندوب الذي يزوره بصفة دورية ويحضر له الهدايا. فما الحكم ؟ وهل الدعاية بهذه الصورة حلال أم حرام ، وما الدليل ؟.
الجواب:
لا يجوز للطبيب أن يقبل الهدايا من شركات الأدوية ، لأن ذلك رشوة محرمة ، ولو سميت بهدية ، أو غير ذلك من الأسماء).
وذلك لأن العبرة بالحقائق والآثار والمآلات ، وأن هذه الهدايا تفتح أبواب الشياطين بالشرور والمفاسد، والظلم والحيف ، والإضرار بالشركات الأخرى التي لا تدفع مثل هذه الرشاوى تحت غطاء الهدايا، كما أنها تؤدي إلى الإضرار بالمرضى إن عاجلاً أو آجلاً، لذلك يجب غلق هذا الباب ، وسدّ هذه الذريعة سداً محكماً ، لوضوح الرشوة في كل ما سبق.
ويجب على الدولة منع هذه الهدايا أو تنظيمها لمنع الرشاوى، ووضع الضوابط الشرعية والقانونية لها.
الحالة الثالثة : أن تقوم الشركة مسبقاً بتقديم مساعدة مالية للطبيب، قبل إرسال مندوبها إليه لحثه على كتابة الوصفات الطبية للمرضى لاستخدام أدوية الشركة، سواء كانت تلك الأدوية مناسبة من حيث الجودة ، والسعر أم ليست كذلك.
الجواب:
فإذا عرف الطبيب من خلال السوابق أن الشركة سوف تطلب منه كتاب الوصفات الطبية بأدويتها ، فهنا يجب عليه عدم قبول هذه الهدايا المقدمة التي هي في حقيقتها رشوة مُقَدَمة.
ولكن إذا لم يعلم بذلك ، وقبلها بحسن نية، ثم جاء مندوب الشركة، فهنا يجب عليه أن يُخبر المندوب بعدم قبوله لأي إيثار أو أولوية ، ويجب على الطبيب أن يلجأ إلى ضميره وتقواه ، فإن كانت الأدوية جيدة بكون حالها حال الأدوية الأخرى المعروضة في السوق فيكتب الوصفات الطبية ، وإلاّ فلا ، ودون تأثر بما قدمته أو تقدمه الشركة، ثم يُخيّر المندوب باسترداد الهدية ، فإذا أصرّ المندوب على بقائها دون ردّها، فلا مانع شرعاً من أن يأخذها ، ولكن الأفضل أن يتصدق بها على المحتاجين درءاً للشبهات، وحسماً للفساد.
الحالة الرابعة: أن تطلب الشركة من الطبيب كتابة الوصفات الطبية بكمية أكثر مما يحتاجه المريض لزيادة بيع الأدوية وزيادة أرباح الشركة.
الجواب:
هذا غير جائز شرعاً، ومحرّم للأسباب التي ذكرناها في الحالة الأولى، بالإضافة إلى الإضرار بالمريض.
الحالة الخامسة: يتم عرض الخدمات السابقة من الطبيب للشركة أو مندوبها في مقابل مال نقدي ، أو عيني ، أو هدايا ، أو حضور مؤتمر ، أو ترتيب دراسة أو نحو ذلك.
الجواب:
حكمها الشرعي هو الحكم السابق المذكور للحالة الأولى من التحريم.
الحالة السادسة: أن يقوم الطبيب بكتابة الوصفات لشركة أدوية معينة لجودة الأدوية التي تتنجها، وسعرها المناسب، ولكن بعد ذلك يطلب الطبيب من الشركة مقابلاً لذلك بأن تساعده، كما هو قد ساعدها.
الجواب:
هذا التصّرف من الطبيب غير جائز شرعاً ؛ لأنه لا يستحق أجراً على أداء واجبه، فلو كان معيناً من قبل المستشفى فهو موظف يجب عليه أداء وظيفته، فلا يجوز له أخذ الأجر عليها من شخص آخر، وإن لم يكن الطبيب موظفاً فهو يأخذ أجره من المريض أو ممن يضمنه من شركات التأمين والضمان الصحي، فلا يجوز له أن يأخذ أجراً آخر فهو داخل في أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه -كما سبق- بيانه وتفصيله.
الحالة السابعة: أن تكون هناك شركتان لإنتاج الأدوية، إحداهما ( شركة أ) تتوافر فيها الشروط والسعر المناسب -مثلاً 10 دولارات- ، ولكنها لا تعطي أو تمنح أي مساعدات للأطباء، والثانية ( شركة ب) وتتوافر فيها الشروط السابقة، ولكن بسعر أعلى من سعر (شركة أ) -مثلاً 10.3 دولار- ولكنها تدعم الأطباء، فيقوم الطبيب بكتابة الوصفات الطبية للمرضى بأدوية (شركة ب) لكي يستفيد هو من الشركة.
الجواب:
هذا العمل غير جائز شرعاً، ومحرّم لما ذكرناه في الحالة الأولى، بل فيه الرشوة الواضحة ، والضرر البيّن على المرضى، حيث إن هذه الزيادة لأجل التعويض عما تدفعه الشركة من الرشاوى، فهي محرمة.
الحالة الثامنة: أن تكون هناك ثلاثة أسعار مثبتة من قبل الدولة ، أحدهما (10 دولارات) لشركة لا تمنح المساعدة للطبيب، والثاني (20 دولار) لشركة تمنح المساعدة، والثالث (30 دولار) وتمنح المساعدة أفضل من الثانية، وحتى ينال الطبيب تلك المساعدات سيقوم بكتابة الوصفات الطبية للشركة الثانية والثالثة.
الجواب:
هذه الحالة أيضاً محرمة لما ذكرناه وبيناه في الحالة السابقة.
الحالة التاسعة: أن تخصص شركة الأدوية جزءاً من أرباحها مثل 10% -مثلاً- لصرفها للأطباء الذي يقومون بمساعدتها في صرف أدويتها ، فتمنحهم هذه النسبة من الأرباح أو جزءاً منها.
الجواب:
الحكم في هذه الحالة لا يختلف عن الحالة السابقة؛ لأن النتيجة واحدة، ولأنها لا تنطبق على المشاركات الشرعية ، بل هل من الرشاوى.
الحالة التاسعة: أن تتفق الشركة مع الطبيب لإلزام المرضى بشراء الأدوية المنتجة من الشركة ، في مقابل حصول الطبيب على مقابل نقدي أو عيني ، أو نحو ذلك.
الجواب:
الحكم في هذه الحالة لا يختلف عن الحالة السابقة؛ لأن النتيجة واحدة.
الحالة العاشرة: أن تتفق الشركة مع الطبيب بإلزام المرضى بشراء الأدوية من صيدلياتها في مقابل حصول الطبيب على ما نقدي أو عيني أو نحو ذلك.
الجواب:
وهذه الحالة أيضاً محرمة لما ذكرناه في الحالة الأولى.
الحالة الحادية عشرة: أن تتفق الشركة مع الصيدليات التابعة لها، أنه في حال طلب الطبيب المساعدة يتم زيادة سعر الأدوية بنسبة 30% ، وإلاّ فيتم بيعها بسعرها الحقيقي دون زيادة عليها.
الجواب:
وهذا أيضاً غير جائز شرعاً ، ومحرم مطلقاً للشركة ، وللطبيب إذا أخذ مالاً مقابل ذلك.
الحالة الثانية عشرة: قيام الأطباء الذين يتعاونون مع الشركة بالمال بالاجتماع مع أطباء آخرين، لتسويق أدوية الشركة لهم، أو أن يقوم كل طبيب ببيان الأدوية التي يكتبها لمرضاه.
الجواب:
إذا كان الطبيب يتحدث عن جودة دواء، أو مواصفاته لأجل العلم والتعليم والتعلّم فهذا جائز شرعاً، وإذا كان في مقابل مال فلا يجوز.
الحالة الثالثة عشرة: قيام الشركة بتقديم الهدايا للأطباء في المناسبات السعيدة العامة، أو الخاصة مثل عيد الميلاد ونحوها من المناسبات الشخصية.
الجواب:
هذه الحالة أيضاً غير جائزة شرعاً؛ لأن النتيجة واحدة.
الحالة الرابعة عشرة: قيام الشركة بإرسال هدايا للطبيب لتقوية العلاقة معه، أملاً في كسبه لصالحها.
الجواب:
حكم هذه الحالة هو التحريم لما ذكرناه سابقاً.
الحالة الخامسة عشرة: أن يطلب الطبيب من الشركة مساعدته للحصول على بعض الاحتياجات الشخصية لنفسه أو لمن له علاقه به، مثل طلبه توفير البترول لسيارته أو نحو ذلك.
الجواب:
حكم هذه الحالة هو التحريم لما ذكرناه سابقاً.
الحالة السادسة عشرة: أن يطلب الطبيب من الشركة بناء نافورة في منزله أو موقف للسيارة ونحو ذلك.
الجواب:
أيضاً حكمها هو التحريم لما ذكرناه سابقاً.
الحالة السابعة عشرة: أن يطلب الطبيب من الشركة إرسال المرضى إليه في مقابل قيامه بكتابة الوصفات الطبية للمرضى لشراء أدوية الشركة.
الجواب:
الحكم الشرعي هو التحريم لما ذكرناه سابقاً.
الحالة الثامنة عشرة: أن تكون شركة الأدوية من الشركات المتميزة، وتسعى للاتفاق مع الأطباء ودفع الأموال إليهم في مقابل قيامهم بكتابة روشتات الوصفات الطبية للمرضى لشراء أدوية الشركة للمحافظة على إنتاجيتها بالسعر المناسب، ومنع انتشار الأدوية الغالية أو الفاسدة أو قليلة الجودة، وفي سبيل ذلك تصرف الأموال للأطباء.
الجواب:
إن هذا القصد شريف، ولكنه وحده لا يكفي ، فيجب أن تكون الوسيلة أيضاً مشروعة، فالغاية الشريفة لا تبرر الوسيلة غير الشريفة.
وفي هذه المسألة صورتان:
الصورة الأولى: أن توجد شركات متميزة أخرى وأسعارها جيدة مثل الشركة التي تدفع المال، ففي هذه الحالة لم تكن الوسيلة شريفة ، وبالتالي فيكون حكم دفع الأموال للطبيب هو الحرمة كحكم الحالات السابقة.
الصورة الثانية: أن تعمّ الأدوية الفاسدة، والمغشوشة البلاد، مع ارتفاع الأسعار ، فتأتي شركة متميزة بأدوية جيدة ، وأسعار مناسبة لكسر هذه الفساد، وفضح هؤلاء المتاجرين بصحة الناس ، وفي سبيل ذلك تدفع أموالاً للدعاية والإعلام ، والأطباء ، ولا يقصد بذلك الاحتكار ، وإنما خدمة أهل البلد .... ،
ففي هذه الحالة فإن تصرفات الشركة مشروعة ومقبولة، بل مستحبة ، وأما ما يأخذه الأطباء حتى في هذه الحالة فهو محرّم ؛ لأن واجبهم أداء هذا الواجب بحكم مهنتهم ووظيفتهم دون مقابل ورشوة ، بل إن الواجب الديني هو محاربة الفساد والمضار والخبائث دون مقابل.
الحالة التاسعة عشرة: أن تكون الأدوية غير جيدة ، أو فاسدة، أو أسعارها باهضة أيضاً، ولذلك تحتاج إلى دعم من الأطباء لمساعدتها في تسويق أدويتها وحصولهم على المال مقابل ذلك.
الجواب:
فالحُرمة في هذه الحالة أشدّ ، والجريمة أكبر، والأضرار أكثر، لما فيها من الرشوة ، والإضرار ، وترويج الفاسد الضار.
الحالة العشرون: أن تكون لدى الشركة أدوية جيدة ، وبأسعار مناسبة أيضاً، وتسعى لإثبات ذلك وزيادة مبيعاتها من الأدوية، فتطلب من الأطباء دعمهم حتى تمنع الأدوية الفاسدة وغلاء الأسعار في السوق.
الجواب:
حكمها هو ما ذكرناه للحالة الثامنة عشرة.
الحالة الواحدة والعشرون: من الأعراف أن المندوب التعليمي لشركة الأدوية يترك نماذج من الأدوية لدى الطبيب للاستشهاد بها وللتذكير، وقد يقوم الطبيب باستعمالهما لنفسه، أو لأقاربه أو أصدقائه.
الجواب:
لا مانع شرعاً من استعمال هذه الأدوية للمرضى المحتاجين، حتى للطبيب نفسه، أو أقاربه ، ولكن بشرط أن تبقى الأدوية لفترة مناسبة لدى الطبيب ، لأن إرادة المندوب هي أن تبقى عنده فترة لتتحقق مقاصد التبرع بها للطبيب، ولكن مع ملاحظة ما ذكرناه من حالات التحريم السابقة.
أما إذا قرب موعد انتهاء صلاحيتها ، فيجوز دون الحاجة إلى الانتظار ، بل المفروض شرعاً استعمالها قبل انتهاء صلاحيتها وفوات نفعها ، حتى لا يترتب عليه ضياع المال المنهي عنه.
الحالة الثانية والعشرون: أن تبقى لدى الصيدليات بعض الأدوية زمناً يتجاوز تأريخ صلاحية استخدامها المقبول وفق الإرشادات الصحية، وعندئذ يطلبون التعويض عنها، وفي هذه الحالة تقوم شركة الأدوية بتعويضهم كلياً أو جزئياً باستبدالها بدواء آخر من جنسه، أو بغيره.
الجواب:
إذا وجد تعهد مكتوب ، أو شفهي بتعويض الصيدلية عن الأدوية التي تنتهي صلاحيتها بمثلها، أو بدواء آخر ، فهذا العهد أو الوعد نافذٌ شرعاً، ثم إن كان العهد بتعويضه كلياً فيجب التعويض الكلي، وإن كان جزئياً مثل 50% ، فيجب على الشركة تنفيذ ما وعدت به وعدم النكول عن تعهدها.
وإن لم يكن هناك تعهد فحينئذ يتم الرجوع إلى العُرف ، فإن كان الُعرف المتعارف عليه هو التعويض قائماً فيلجاً إليه ، وإلاّ فلا يجوز التعويض إلاّ برضا الشركة بذلك.
ثم في الحالات السابقة إن كانت الصيدلية قد قصّرت في بيع الأدوية عمداً فلا تستحق التعويض.
الحالة الثالثة والعشرون: أن تمنح الشركة لبعض الصيدليات الناجحة زيادة سنوية ( بونس).
الجواب:
فميزان الصيدلية هو التجارة والاستثمار، في حين أن ميزان الأطباء هو الأمانة ، ولذلك قد تختلف بعض الشيء أحكام ممارسة أعمال الصيدلة، عن أحكام الأطباء ومزاولة مهنة الطب.
ففي الحالة المذكورة ، يكون الحكم الشرعي وفقاً للصورة الآتية:
الصورة الأولى : أن تكون الأدوية جيدة جداً وبأسعار مناسبة ، وليس بينها وبين الشركة اتفاق حول الزيادة السنوية (البونس)، فنجحت الصيدلية ببيع كميات كبيرة من الأدوية وبشكل طبيعي ، وبالتالي قامت الشركة بتكريم الصيدلية بمنحها تخفيضاً خاصاً ، أو بتقديم هدايا عينية ، أو منحها مبلغاً من المال كزيادة سنوية وهو ( البونس)، ففي هذه الصورة لا حرج فيه ، وأنها مشروعة إلاّ إذا أدى لك إلى إيثار منتجات هذه الشركة على غيرها مطلقاً، وإهمال منتجات شركات أخرى، ففي هذه الحالة ظلم وتعسف فلا يجوز ذلك شرعاً .
كما أن من الشروط العامة عدم الضرر والإضرار ، وكون الأدوية متوافرة فيها الشروط والمعايير والمقاييس الصحية ، وأن لا تكون أقل من غيرها من حيث الجودة.
الصورة الثانية: بنفس الصورة الأولى ، ولكن يكون هناك اتفاق مسبق بين الشركة والصيدلية بدفع مال مقطوع ، أو نسبة من الربح.
فهذه الصورة أيضاً جائزة شرعاً ، ولكن بالشروط الآتية:
1- أن لا يكون في الاتفاق إجحاف بحقوق الشركات الأخرى التي تتعامل معها الصيدلية.
2– أن تتعامل الصيدلية بعين العدل والإنصاف مع منتجات الشركات الأخرى، فلا تهملها، أو تضرّ بأصحابها؛ لأن الضرر والغش محرمان في جميع الأحوال.
3- أن لا تكون أدوية هذه الشركة فاسدة أو مغشوشة ، أو حتى أقل جودة من أدوية شركات أخرى.
4- أن لا يؤثر هذا الاتفاق في الصيدلية لاختيار منتجات الشركة فقط ، وإهمال المنتجات الأخرى التي في الدرجة نفسها، أو الأفضل منها.
الصورة الثالثة: أن يكون الاتفاق على أساس ترويج أدوية فاسدة، أو مغشوشة ، أو أنها لا تتوافر فيها الشروط والمعايير والمقاييس الطبية، أو أنها أعلى سعراً من غيرها.
ففي هذه الصورة يكون الاتفاق في هذه الحالة فاسداً محرماً على الطرفين.
الصورة الرابعة: أن يكون الاتفاق بين الطرفين ، أن تقوم الصيدلية بترويج وبيع أدوية الشركة وذلك بصرف الوصفات الطبية من نفسها – كما هو الحال في بعض الدول- ففي هذه الحالة تطبق عليها جميع الحالات السابقة نفسها.
ملحوظتان:
الملحوظة الأولى:
لاحظنا في مسألة الاتفاق بين الشركة والصيدلية ، إجازة بعض صورها بضوابط ، في حين بيّنا حرمة أي مال يعطى من الشركة للطبيب – كما سبق-.
والسبب هو أن مهنة الطبيب وخطورتها ، وضرورة التزامه بالأخلاق الطبية الإسلامية([18])، حيث تختلف في أساسها عن عمل الصيدلية التي تقوم بممارسة البيع والشراء ، ولذلك إذا قامت بعمل الطبيب -كما سبق- تطبق وتنطبق عليها الأحكام السابقة: حِلاًّ وحُرمةً.
الملحوظة الثانية:
كلامنا السابق حول الصيدلية التي لا تملكها الشركة المروّجة لأدويتها، أما إذا كانت تابعة لها، فلا مانع شرعاً من بيع أدويتها فقط بشرط توافر الشروط الصحية فيها.
درجة الحُرمة في هذه المسائل وفق فقه الميزان:
إن مما لا شك فيه أن المحرمات في الإسلام درجات، فأعلاها أكبر الكبائر الشرك فقال تعالى: ( إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٌ)([19]) وبعده قتل النفس البريئة، وهكذا إلى أن تصل إلى الصغائر.
ومن هذا الباب فإن درجات الحرمة في المسائل والحالات السابقة المعروضة والمذكورة، هي كالآتي:
أولاً: أشدّ الدرجات حُرمة هنا ، هي الاتفاق على ترويج دواء فاسد أو مغشوش ، أو لا تتوافر فيه الشروط والمعايير والمقاييس الطبية والصحية ، عن طريق رشوة صريحة ، أو رشوة مغطاة بمسميات مثل الهدية ونحوها.
فهذه جريمة تعدّ من الكبائر الموبقات ، ويشترك فيها الشركة المسوقة ، والطبيب ، فكلاهما آثمان إثماً كبيراً يتعلق بحقوق العباد التي لن يغفر الله لهما إلاّ بالتعويض ، أو العفو في حقوق العباد ، مع توافر شروطها، وبحق الله تعالى أيضاً.
ويشترك كذلك في هذا الإثم: الوسيط أو المندوب؛ لأنه تعاون على الإثم والعدوان فقال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ)([20]) ، وقال الحبيب المصطفى ﷺ : (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش) ([21]) والرائش هو الوسيط بينهما.
ثانياً: الحالة السابقة ، ولكن دون رشوة ، فحكمها من حيث الحرمة واحدة ولكن أقل منه بدرجة واحدة.
ثالثاً: ثم تأتي بعدها حالة ما إذا كانت الأدوية سليمة ولكن يتم الاتفاق بين الشركة أو الصيدلية والطبيب على ترويجها وكتابتها دون غيرها، فهذه الحالة أيضاً محرمة ، ولكنها لا تصل إلى الدرجة السابقة.
رابعاً: ثم تأتي حالة ما إذا كانت الشركة تمنح الهدايا العينية دون اشتراط على الطبيب ، وهنا أيضاً درجتان:
أ- حالة ما إذا تأثر الطبيب بهذه الهدايا ، فآثر منتجات الشركة المهدية على غيرها أملاً في منحه هدايا أخرى، فهذه أيضاً محرمة ، ولكنها أقل من السابقة.
ب- حالة ما لم يتأثر الطبيب ، ولم يفرق بين أدوية هذه الشركة وغيرها من الشركات ؛ لأنه لا يطمع في تكرار هذه الهدايا، فهذه الحالة تدخل في باب الكراهة ، ولا تدخل في الحرمة في نظري ، ولكن الأَولى والورع هو عدم قبولها.
خامساً: حالة ما إذا كانت الهدايا رمزية وتعطى لمن يتعامل مع الشركة ، وجرى بها العرف ، فهذه لا تدخل في الحرمة من حيث هي ، وإنما مباحة ، ويكون من باب الورع عدم قبولها.
السؤال الثالث: ما حكم شراء أو بيع الأدوية بالتقسيط ؟
الجواب:
لا مانع شرعاً من بيع الأدوية أو شراؤها بالتقسيط في حال عدم المقدرة على الدفع بشكل كامل للثمن، ويمكن أن يتم ذلك عن طريق البيع بالتقسيط أو المرابحة العادية، فيكون أطرافها اثنان بائع ومشتري، وهي عبارة عن بيع من بيوع الأمانة التي يجب على البائع أن يبين للمشتري ثمن السلعة أو كلفتها عليه، ويبيعها للمشتري بربح معلوم ينص عليه في العقد وتحديد طريقة السداد، أو من يتم ذلك خلال المرابحة المصرفية (المرابحة للآمر بالشراء) بشرط تحقق الخطوات المطلوبة، وهي باختصار شديد:
المرحلة الأولى: تقديم العميل/المريض طلب الشراء، وأوصاف الأدوية المطلوبة، وبعد إتمام دراسة طلبه من قبل المؤسسة المالية، يتم توقيع اتفاقية التمويل التي تتضمن وعداً من العميل / المريض بالشراء.
المرحلة الثانية: قيام المؤسسة المالية بالتعاقد مع بائع الأدوية ، ثم تسلمها وحيازتها الحيازة الشرعية.
المرحلة الثالثة: قيام المؤسسة المالية ببيع الأدوية إلى العميل/المريض من خلال توقيع عقد المرابحة بالثمن المتفق عليه حيث يتضمن ثمن المبيع (مبلغ المرابحة، أي تكلفة الشراء + ربح المرابحة) مرفقاً مع جدول الأقساط المتفق عليه.
المرحلة الرابعة :مرحلة تسليم المعقود عليه (الأدوية الممولة ) إلى العميل / المريض وتحرير إذن التسليم.
السؤال الرابع: ما حكم المتاجرة في الأدوية الطبية المهربة ؟
الجواب:
من الناحية الشرعية يجب إدخال الأدوية بطريقة قانونية حتى يتم فحصها من قبل الأجهزة الصحية للدولة، ولذلك فإن تهريبها غير جائز شرعاً.
وكذلك لا يجوز للشركة دفع الرشاوى لموظفي الجمارك لغضّ الطرف عن الشروط المطلوبة صحياً، فهي من المحرمات الكبائر أيضاً.
وصيتي
الالتزام بتقوى الله بالحفاظ على حدود الله تعالى وعدم تجاوزهما مهما كانت المغريات كبيرة ، فأمامنا القبر والوقوف أمام الله تعالى.
هذا والله أعلمُ بالصواب، وآخَرُ دعوانا أن الحَمْدُ لله ربّ العالمين
وصلَّى الله على خاتَم الأَنبياء والمرسلين سَيّدنا وحبيبنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلّم
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د. علي محيي الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
([1]) رواه مسلم في صحيحه (2664) وأحمد (8777) وغيرهما.
([2]) رواه أبو داود (3855) والترمذي (2038) والنسائي في السنن الكبرى (7553) وابن ماجه (3436) وأحمد (18454) وصححه الألباني في صحيح الجامع (7934) وغيره.
([3]) يراجع كتابنا : فقه القضايا الطبية المعاصرة ط.دار البشائر الإسلامية / بيروت 2005م، ص 188-202
([4]) رواه مسلم في صحيحه (2204) والنسائي في السنن الكبرى (7556) وأحمد (1597)
([5]) رواه البيهقي في شُعب الإيمان عن عائشة، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير 1880.
([6]) رواه البيهقي أيضًا عن كليب، وحسنه في صحيح الجامع 1891.
([7]) سورة البقرة / الآية 195
([8]) سورة الزمر / الآية 18
([9]) رواه مالك في الموطأ كتاب الأقضية ص 464 وجزم بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحمد في مسنده (1/313 ، 5/327) وابن ماجه في سننه ، كتاب الأحكام (2/784) والحديث صححه لكثرة طرقه المناوي في فيض القدير ، والألباني في الارواء (3/413) وحسنه النووي ، واحتج به محمد بن الحسن الشيباني ، وهذا الحديث يعتبر قاعدة عامة من أهم قواعد الشريعة الاسلامية ومبدءاً عاماً من أهم مبادئ التشريع في الاسلام
([10]) يراجع للمزيد من التفصيل والتأصيل، كتابنا: المبادئ الأخلاقية الجامعة لأخلاقيات الطب الحيوي في الاسلام- دراسة مقاصدية تأصيلية – ونقد لنظرية أخلاق الطب الغربية ، ط. دار جامعة حمد بن خليفة للنشر ٢٠١٩م.
([11]) رواه أحمد (11/47) الحديث رقم (6532 ، 6778، 6984) وقال محققه الشيخ أحمد شاكر : (إسناده صحيح) ، وأبو داود (3580) والترمذي (1337) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2211).
([12]) يراجع للمزيد من التفصيل والتأصيل، كتابنا: المبادئ الأخلاقية الجامعة لأخلاقيات الطب الحيوي في الاسلام- دراسة مقاصدية تأصيلية – ونقد لنظرية أخلاق الطب الغربية ، ط. دار جامعة حمد بن خليفة للنشر ٢٠١٩م.
([14]) سورة الأنعام / الآية 108
([15]) رواه أبو داود وسكت عنه (5128) والترمذي (2822) والطبراني في الكبير (23/376) وابن ماجه (3745) والبزار (2195) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (8/100) : (رجاله رجال الصحيح ) والحديث بمجموعه طرقه ، وشواهده صحيح لغيره ، أو حسن.
([16]) رواه البخاري في صحيحه (7174) ومسلم في صحيحه (1832)
([17]) رواه أحمد (23601) والبزار (3723) وحسنه ابن الملقن في تحفة المحتاج (2/572) وصححه الألباني في إرواء الغليل (2622)
([18]) يراجع للمزيد من التفصيل والتأصيل، كتابنا: المبادئ الأخلاقية الجامعة لأخلاقيات الطب الحيوي في الاسلام- دراسة مقاصدية تأصيلية – ونقد لنظرية أخلاق الطب الغربية ، ط. دار جامعة حمد بن خليفة للنشر ٢٠١٩م.
([19]) سورة لقمان / الآية 13
([20]) سورة المائدة / الآية 2
([21]) الحديث بدون لفظ (الرائش) صحيح -كما سبق- وبهذا اللفظ حسنه العجلوني في كشف الخفاء (2/182) ، وضعفه الكثيرون ، ولكن تشهد له أدلة كثيرة بصحة معناه ، كما قال ابن باز في حاشية بلوغ المرام (750).