البحث

التفاصيل

تسعة أعوام على الخروج من مصر.. ولطائف المنن الإلهية

الرابط المختصر :

تسعة أعوام على الخروج من مصر.. ولطائف المنن الإلهية

بقلم: د. وصفي عاشور أبو زيد

 

في مثل هذا اليوم 30 نوفمبر من عام 2013م، أي قبل تسع سنوات، خرجت من مصر عبر مطار القاهرة إلى مدينة اسطنبول، خرجت حين ضاقت الأجواء، وانغلقت السبل، ولم يعد من سبيل إلا الاعتقال أو القتل في ظل سلطة غاشمة طاغية مستبدة قاتلة، قتلت خيرة أبناء مصر، واعتقلت عظماءها، وجرفت منابع الخير فيها.

ولم يكن خروجي – علم الله - هروبا من مواجهة أو خشية من مصير، فقد ظللت في مصر بعد الانقلاب خمسة أشهر، أشهد المشاهد، وأقف الوقفات في الميادين حتى كان آخرها ما جرى في ميدان الدقي يوم 6 أكتوبر 2013م.

وإنما خرجت استبقاءً لصوت الحق، واستكمالا للرسالة، ووفاء بعهد الله وميثاقه في قول الحق والصدع به، والوقوف مواقف إغاظة الطغاة وأهل الباطل، ونصرة الحق وأهله، وعونا للمظلومين.

كنت في البداية متحسسا ومتحرجا من الهجرة، ولكن كان تقدير الله تعالى بالخروج والهجرة خيرا وبركة – وقدره كله خير – على المستوى الخاص وعلى المستوى العام؛ فقد عملنا مع أهل العلم والدعوة إلى الله تعالى من كل بلد على الإسهام في نصرة قضايا الأمة، والوقوف مواقف الحق مع كل قضية، هذه وقفة لأهلنا في سوريا، وهذا بيان لأهلنا في تركستان، وهذا مؤتمر عن أهلنا في العراق، وهذه وقفات لأهلنا في القدس والأقصى وفلسطين، وغيرها من بلاد المسلمين المنكوبة، وما أكثر نكبات المسلمين!.

ومما أفخر به تلك المواقف التي وقفتها – مع ثلة كريمة من أهل العلم - ضد الانقلاب العسكري وجرائمه في مصر: المواقف الشرعية والبيانات العلمائية – ومنها نداء الكنانة الأول والثاني – تلك المواقف والبيانات التي جعلت مؤسسات مصر الدينية تتسربل في الرد عليها والانشغال بها طوال هذه السنوات؛ حيث كانت تصرفات هذه المؤسسات القابعة تحت قدم الانقلاب ردَّ فعل على ما نقوم به من نشاط شرعي نبين به الموقف الشرعي الحق من هذه الجرائم، والواجبات العملية على كل جهة.

ولقد أكرمني الله تعالى بالمشاركة الواسعة بالحديث على الفضائيات بيانا وتفصيلا للأحكام الشرعية من النوازل المعاصرة، وبالحديث في المناسبات الإسلامية والقضايا الفكرية والفقهية، وبالكتابة في المواقع والبوابات المختلفة عن قضايا أمتنا ومشكلاتها ووصف الحلول المناسبة لها، بما بلغ مئات المشاركات المقروءة والمشاهدة، وهذا كله محض التوفيق الأعلى.

أما على المستوى الخاص - أي الشخصي - فكان فضلُ الله عليّ عظيمًا؛ حيث فسح الله لي من المساحات العلمية والدعوية والساحات التعليمية والتربوية ما لم يكن في الحسبان (ويرزقه من حيث لا يحتسب):

تدريسًا في الجامعات والأكاديميات، وعلاقاتٍ واسعةً بأهل العلم والفضل في العالم، وتوجيها لطلبة الدراسات العليا من بلاد الدنيا، وترقية إلى رتبة الأستاذية، وإشرافا على رسائل ومناقشات لرسائل أخرى، ومشاركة في ندوات ومؤتمرات بأوراق بحثية تعد بالعشرات، وسفرا لبلاد كثيرة دعوة إلى الله تعالى وحسبة له، وإصدارا لمؤلفات تُعبّر عن فضل الله تعالى وتوفيقه (وأما بنعمة ربك فحدث).

إن ما هو أعظم مما سبق جميعا هو الحياة في ظلال قول الله تعالى: ﴿۞ وَمَن یُهَاجِرۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یَجِدۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُرَ غَمࣰا كَثِیرࣰا وَسَعَةࣰۚ وَمَن یَخۡرُجۡ مِنۢ بَیۡتِهِۦ مُهَاجِرًا إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ یُدۡرِكۡهُ ٱلۡمَوۡتُ فَقَدۡ وَقَعَ أَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا﴾ [النساء: 100].

يقول العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية – وما أحسن ما قال -: "هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغما في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا. وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الألفة، وفقرًا بعد الغنى، وذلا بعد العز، وشدة بعد الرخاء، والأمر ليس كذلك ... فإذا هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله ومراغمتهم، فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله من قول وفعل، وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه".

إن ما وجدته في هجرتي من المراغَمِ الكثير ومن السعة الربانية لَحَقِيقٌ بتجديد الإيمان بالله تعالى وبكلامه العظيم، وجدير بتعزيز الإيمان بوعده الصادق الذي لا يتخلف أبدا – ومن أصدق من الله حديثا؟! – فكان الخروج من مصر والهجرة إلى اسطنبول كوة من نور وطاقة من أمل وساحة جديدة تتجلى فيها رحماتُ الله وفضله، ويتجسد فيها تحقيق موعود الله عز شأنه من وجود المراغم الكثير والسعة.

حتى إنه لو مات منا ميت، وشيعناه لمرقده في قبره تسلينا جميعا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنّ الرجلَ إذا ماتَ بغيرِ مولِدِه، قِيسَ لهُ مِن مولِدِه إلى مُنْقَطَعِ أثرِه في الجنةِ). فكان هذا الحديث يتنزل منزلا حسنا على قلوبنا عامة، وقلوب أهل الميت خاصة.

إن الإيمان بالله تعالى، وبكلامه الكريم، لهو مدخل عظيم بل أعظم مدخل للراحة النفسية، فما عليك أيها المؤمن - أيا ما كان مكانك- إلا أن تخلد إلى كلام الله، وتستروح مع وعد الله، وتعمل بمقتضى كلامه، وساعتها ستجد ما وعدك ربُّك حقا، وما قاله لك صدقا، فتزداد إيمانا على إيمان، ويقينا على يقين، وسعادة إلى سعادة، وإن الشقاء كل الشقاء في التلفت عن الله، أو في التشكيك بموعوده، أو استبعاد رحماته وعطفه وفضله ونعمه، كيف وهو أرحم بنا من أمهاتنا، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد؟

فاللهم لك الحمد - إلها عظيما، وربا كريما - على نعمة الإيمان، وعلى نعمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد، وعلى نعمة الهجرة في سبيلك، وعلى نعمة القرآن هدى ورحمةً للمؤمنين.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. وصفي عاشور أبو زيد، عضو مجلس الأمناء ورئيس لجنة التزكية والتعليم الشرعي بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورئيس ركز الشهود الحضاري والدراسات الشرعية والمستقبلية.

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.





التالي
يحمل 57 لاجئًا من مسلمي الروهينغيا.. مركب متهالك يصل الساحل الغربي لإندونيسيا
السابق
المغرب.. تزامنا مع مرور عامين مدن عدة تشهد وقفات احتجاجا على التطبيع مع الاحتلال

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع