البحث

التفاصيل

الشيخ الألباني ومنهج نقد الحديث

الرابط المختصر :

الشيخ الألباني ومنهج نقد الحديث

بقلم: معتز الخطيب

 

تعرضتُ -سابقًا على سبيل الإجمال- لمنهج الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى- في نقد الحديث، وذلك بمناسبة وفاة الشيخ نور الدين عتر ثم الشيخ محمود الطحان رحمهما الله تعالى. بل إنني خصصت حينئذ مقالًا للخلاف المنهجي في الحديث بين الشيخين عتر والألباني، لخصت فيه مسلك الشيخ الألباني بأنه يقوم على الانتقاء والاستبعاد من مدونة الحديث الواسعة، وهو مسلكٌ يَضيق بالاختلاف والتنوع الذي هو خَصِيصة مركزية في التراث الإسلامي عامة والحديثي والفقهي خاصة. وقد توسل الألباني بفكرتين مركزيتين هما:

1. ردّ العمل بالحديث الضعيف مطلقًا، وخاصة الحديث الذي يرى هو باجتهاده أنه ضعيف ويحاول أن يُلزم الآخرين به.

2. استبعاد هذا الحديث المعدود -باجتهاده- ضعيفًا من دواوين السنة، ولهذا فصَل الألباني بين الصحيح والضعيف فصلاً تامًّا؛ ليقدم للناس ما يسميه بـ"الفقه المصفى".

وقد سمى الألباني مشروعه "تقريب السنة بين يدي الأمة"، وهو مشروع يقوم على أمرين: حذف الأسانيد، وتمييز صحيحها من ضعيفها وفق منهجه وقواعده التي لا يلتزم فيها بقواعد المحدثين النقاد (في عصر الرواية)، كما لا يلتزم فيها بعمل الفقهاء (المجتهدين).

وقد رأيت أن أستوفي نقدي المنهجي لمسلك الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- في هذا المقال الذي لعله يكون خاتمة المقالات السابقة التي تناولتْ جانبًا من التاريخ الفكري المعاصر. وسأتناول في هذا المقال مسألتين رئيستين: الإسهام الذي تميز به الألباني، والإشكالات المنهجية التي حفّت بممارسته لنقد الحديث، وهي من شأنها أن تفسر -جزئيًّا على الأقل- بعض أوجه النفرة والخصومة التي وقعت بينه وبين الجماعة العلمية من غير السلفيين.

أولًا: إسهام الشيخ الألباني في الحديث

يتلخص إسهام الشيخ الألباني في "تخريج الحديث"، رغم أنه لم يتقيد بذلك وتجاوزه أحيانًا إلى تناول مسائل كلامية وفقهية قوبلت بالنقد والإنكار، حتى إن الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله تعالى- أخبر أنه يرجع إليه في مسائل الحديث وقال: "أُنكر عليه إذا تفقه فخالف ما عليه الجمهور، لأنه ليس بفقيه".

و"تخريج الحديث" يعني عزو الحديث إلى المصادر التي روته مسنَدًا، أي بإسناد صاحب الكتاب إلى قائله أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتخريج الحديث يستلزم عند الألباني "دراسة إسناد الحديث أو الخبر، وتتبّع رجاله، وتَعَرف علله وأقوال أهل الاختصاص فيه، ثم الحكم عليه بما تقتضيه هذه الدراسة من صحة أو ضعف"، ولذلك كثيرًا ما عاب على من يكتفون فقط بعزو الحديث إلى بعض كتب الرواية دون دراسة الأسانيد والحكم عليها، وقد اعتبر -في مقدمة بعض كتبه- أن ميزته تتمثل في أنه يحكم على الحديث.

وقد اعتدّ الألباني -خاصة في أعماله المبكرة- بهذه الميزة كثيرًا، وسماها "المنهج العلمي"، وقال مرة: "واعلم أن تقويتنا لهذه الأحاديث… وتضعيفنا لغيرها إنما هو أمر بديهي ونتيجة طبيعية لاستسلامنا للمنهج العلمي في نقد الأحاديث على القواعد الحديثية المعروفة في علم المصطلح وتراجم الرواة". ويكرر تعبير "قواعد علم المصطلح" في كتبه، ويعني بها ما استقرت عليه قواعد مصطلح الحديث في كتب متأخري المحدثين كابن الصلاح (643هـ) وابن حجر العسقلاني (852هـ) ومن بعدهم. وقد صار هذا "المنهج العلمي" معيارًا لديه به يزن العلماء الآخرين وأعمالهم الحديثية؛ فبقدر قبولهم لتخريجه أحاديثَ كتبهم أو حتى طلبهم منه فعلَ ذلك يكونون أقرب إلى الحق وأَمْثلَ خُلقًا. وقد كان الألباني حريصًا على التواصل مع مؤلفي الكتب التي خرّج أحاديثها كما فعل -مثلًا- مع المشايخ سيد سابق ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي رحمهم الله تعالى.

ولكن الملاحظ أن تخريج الألباني لأحاديث تلك الكتب لم يُطبع مرفقًا بها وإنما طُبع مستقلًا عنها على خلاف ما كان يأمل، الأمر الذي دفعه إلى التساؤل عن ذلك أكثر من مرة، كما فعل مثلًا في تخريجه لأحاديث كتاب "الحلال والحرام" للقرضاوي، وتخريجه لأحاديث كتاب "فقه السنة" لسيد سابق. بل إنه رأى أن سيد سابق لم يستفد شيئا يُذكر من تخريجه لأحاديث كتابه، وقال: "لا أدري أذلك لعدم تفرغه لقراءة ذلك أم لعدم قناعته بما فيه من النقد العلمي الخالص؟". وقد رجح الألباني السبب الأول؛ بحجة أن القواعد التي ذكرها في تخريجه لأحاديث الكتاب "يجب على كل عالم التزامها"، وهو أمرٌ يعيدنا مجددًا إلى تصور الألباني عن "المنهج العلمي" الذي يُسفر في المحصلة عن طريقته واجتهاده لا غير! أما أنا فأرجح السبب الثاني الذي استبعده الألباني؛ فهؤلاء العلماء لم يتفاعلوا مع أحكام الألباني على الأحاديث، لعدم قناعتهم بطريقته ولاختلافهم معه في المنهج؛ خصوصًا أنه دأب على الغمز بمقلدة المذاهب واتهامهم بتهم مختلفة، ورأى أن الحل إنما يكون "بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون منها فقط ومن القرآن أمور دينهم ومسائل فقههم"، وسأناقش فيما يأتي هذا "المنهج العلمي" الذي يعتقده الألباني حاكمًا على المتقدمين والمتأخرين من العلماء؛ إذ لا يسع أحدًا إلا التسليم به!

أسهم الألباني في إشاعة "تخريج الحديث" بالمعنى المشار إليه سابقًا، وهذا أمرٌ يُحسب له وعليه في الوقت نفسه، وكان زهير الشاويش الذي نشر للألباني كثيرًا من كتبه ذكر أن "تخريج الحديث" صار منهجًا لمنشورات داره، فقال: "دأبنا في (المكتب الإسلامي) على تخريج الأحاديث في كل كتاب نطبعه ولو بصورة إجمالية أو تعليق بسيط يُظهر المعنى والدرجة، كما عمدنا إلى طبع الكثير من كتب السنة المطهرة مع بيان حكم كل حديث". وقد سلك هذه الطريقة أيضًا طائفة من أتباع الألباني والمتشبهين به على السواء، فنفخوا بها الكتب وخرجوا بها عن مقاصدها، فضلًا عن تسييل قواعد المحدثين ومنهجهم النقدي، وقد جعل ذلك الألباني يشكو مرّ الشكوى من بعضهم، حتى إنه خصص كتابا كاملا للرد على حسان عبد المنان الذي اتبع طريقته، وسمى كتابه "النصيحة بالتحذير من تخريب ابن عبد المنان لكتب الأئمة الرجيحة وتضعيفه لمئات الأحاديث الصحيحة"، وصفه فيه بقلة العلم والتعدي على الكتب والخروج على قواعد العلماء، ومن المفارقة أن الألباني نفسه قد اتُّهم بمثل ذلك، الأمر الذي يدفع المرء إلى التساؤل: هل مشكلة الألباني كانت مع المنهج المطبّق أم مع من يطبقه؟

ترك الألباني -رحمه الله- إرثا تخريجيًّا ضخمًا، وحكم على كثير من الأحاديث، سواءٌ مما حكم عليه الأئمة الكبار أم مما كان غُفلاً من الحكم النقدي، وقد تعجل في الحكم أحيانًا، وتَغيّر حكمه من كتاب إلى آخر أحيانًا أخرى، فمن أراد أن يعرف رأيه لا بد أن يتتبع كلامه في كتبه المختلفة وأن يعرف الأحدث منها، وأن يبحث عما إذا كان هذا الاختلاف في أحكامه ناتجًا عن تغير اجتهاد أم عن ذهول ونسيان، وقد نبه الألباني نفسه -في مقدمة "صحيح سنن النسائي"- إلى هذا الاختلاف الواقع في كلامه، وأنه قد "يُصَحّح الحديث أو الإسناد -مثلًا- في أحدها، ويضعفه في آخر"، وأن "ذلك مما لا بد أن يَصدر من الإنسان؛ لما فُطر عليه من الخطأ والنسيان".

وقد يرجع هذا الاختلاف في الحكم إلى طريقة تخريجه للحديث؛ فإذا لم يسبق له أن درس الحديث بتوسع من طرقه كافة، فإنه يحكم على الإسناد المعين باجتهاده إلى أن يتسنى له ما أسماه "التخريج العلمي". بل إن الألباني قد تغير رأيه في بعض المسائل النظرية التي ينبني عليها اختلاف أحكامه، وهو ما لم يُشر إليه فيما اطلعت عليه، وقد حاول أن يدفع التهمة عن نفسه في مثل هذا الاختلاف (وأحيانًا التناقض) بأن مثله واقعٌ من الأئمة في الفقه والحديث والجرح والتعديل، والمفارقة أنه طلب ممن وجد مثل ذلك الاختلاف في كلامه أن يلتمس له العذر ويوجه له التصحيح بالحجة والبرهان وباللفظ الطيب، رغم أنه هو نفسه لم يفعل ذلك مع خصومه، بل مع الأئمة السابقين أحيانًا!

ثانيًا: الإشكالات المنهجية في ممارسة الألباني النقدية

مشكلة الشيخ الألباني ترجع -في رأيي- إلى أمرين مركزيين:

* الأمر الأول: أنه تجاوز مسألة "تخريج الحديث" الذي هو عملٌ تقني الطابع إلى التفقه على أساس نقده هو للحديث وما يراه صحيحًا أو ضعيفًا، ثم قام بتقويم فقه الأئمة السابقين على أساس هذا الاجتهاد الخاص به. بل إن بعض تلامذته في اليمن كان يرى عدم أهمية علم أصول الفقه! وقد بيّن الألباني أن منهجه يقوم على "الاتباع"، أي اتباع الكتاب والسنة والتفقه المباشر منهما بفهمه هو، و"المتبع" وصفٌ استعمله صالح بن محمد الفُلّاني المالكي (1218هـ)؛ وقد ظنّ الشيخ -تقليدًا للفُلاني- أن هذه مرتبة مستقلة وسطٌ بين مرتبتي "المجتهد" و"المقلد".

أما كلام الأصوليين عامة وتاريخ الفقه وعمل الفقهاء فيدلّ على أن الناس أحد اثنين: إما مجتهد يتعامل مع الأدلة النصية وغير النصية مباشرة (أي يستقل بالاجتهاد وفق أصول وقواعد نظرية)، أو مقلّد يلتزم مذهبًا محددًا (أي يتمسك بمذهب معين أي غير مستقل لا بأصوله وقواعده ولا بفروعه)، ومن ثم فلا وجود لمرتبة وسطى بينهما. ثم إن الجميع -سواءٌ المجتهد أم المقلد- متبعٌ للكتاب والسنة إما بفهمه للأدلة استقلالًا أو بحسب تأويل الأئمة لها. فالسؤال المركزي الذي يتم تجاهله هنا عادة هو: كيف نفهم الدليل؟ وما المنهج في استعمال الأدلة وتأويلها؟ فلا يوجد مسلمٌ لا يقول باتباع الكتاب والسنة وأنهما المصدران الرئيسان للشريعة بالإجماع عبر القرون.

ولكن الألباني حين ينقل المسألة من السؤال حول المنهج إلى الاتهام بترك السنن ومحاربتها، يقوم بالتحريش ضد خصومه، فهو قد خالف الأئمة في حكمهم على الأحاديث، ثم أراد أن يَفهم الأدلة -استقلالًا- وأن يُلزم الآخرين بحكمه وفهمه لها وأن يحملهم على تجاهل التقليد الفقهي والإرث العلمي المتراكم عبر قرون وتقليده هو؛ بزعم أن فهمه هو الكتاب والسنة، وقد سمى ذلك "اتباعًا" ووصفه بأنه "المنهج العلمي"، ثم راح يغمز -على طول الخط- "مقلدة المذاهب" وخاصة من الحنفية، وقد اشتد غمزه بعلماء كبار أمثال المشايخ حبيب الرحمن الأعظمي وعبد الفتاح أبو غدة ومحمد عوامة، واتهمهم بأنهم أصحاب أهواء وأنهم أعداء السنن، بل وصف عوامة بالجهل والغباوة وبالهالك!

يعرف الألباني أن الصناعة الحديثية تختلف عن الاجتهاد الفقهي، وأن لكل منهما منهجيتَه الخاصة به، كما أن مسائل الفقه لا تُبنى على حديث مفرد أو دليل واحد، فضلًا عن أنه ليس كل حديث مقبولٍ يُعمل به عند الأئمة الفقهاء؛ لاحتمال وجود علة من العلل التي تُعرف في علم أصول الفقه وفيها خلاف بين المذاهب الفقهية الأربعة، وهذا يردّنا إلى منهجية فهم الأدلة والترجيح أو التوفيق بينها.

* الأمر الثاني: أن الألباني توسع في التطبيقات (التخريج والحكم على الأحاديث) من دون أساس نظري ومنهجي متين، وهذا ما جعل تطبيقاته محلًّا للنقد والإهمال في كثير من الأحيان من قبل محدّثين آخرين. وتتلخص الإشكالات المنهجية في ممارسة الألباني النقدية في عدة نقاط سأذكرها مجملة، لأن المقام لا يتسع للتفصيل فيها، وهي كالآتي:

1- النقطة الأولى: لا يميز الألباني في تطبيقاته وسجالاته مع خصومه بين أمرين: النظر في ثبوت الدليل والنظر في دلالة الدليل وفي استيعاب مختلف الأدلة أيضًا في الوقت نفسه، ومن ثم يبقى السؤال عن المنهج في النظرين معًا، أي في إثبات الدليل وفي فهمه وإعماله مع الأدلة الأخرى المتكاثرة في الشريعة. فهل يجري الألباني في الثبوت والاستدلال على قواعد المحدثين أم على قواعد الفقهاء؟ أم إنه يخترع لنفسه قواعد خاصة به ومن ثم لا يستطيع أن يُلزم بها خصومه لأنها مجرد اجتهاد شخصي؟ هذه مسألة مركزية في تصورات الألباني، لأنه كثيرًا ما يتحدث عن "المنهج العلمي" الذي يبدو كما لو كان مسألة عقدية على الجميع أن يُسلم بها، في حين أنه مسألة اجتهادية وتعددية في الوقت نفسه، ولذلك اختلفت المناهج والأنظار، سواء بين الأئمة النقاد والفقهاء المجتهدين من جهة، أو داخل كل فريق على حدة من جهة أخرى.

2- النقطة الثانية: أن الحكم على الحديث أمرٌ اجتهاديّ، فهو عملٌ بالظاهر لا في حقيقة الأمر؛ فقد يَصدق الكاذب وقد يَكذب الصادق، وقد يضبط ضعيفُ الضبط حديثًا بعينه، وقد يُخطئ الراوي الضابط في حديث بعينه، ولذلك إنما يكون العمل بحسب غالب الظن وبناء على القرائن، ومن ثم لا نقطع بأن هذا الحديث صحيح وذاك ضعيف. وقد تعددت مناهج المحدثين النقاد في نقد الحديث وإن اتفقوا على بعض الأسس النظرية، وقد تنوعوا أيضًا واختلفت أحكامهم على الحديث كاختلاف فقه الفقهاء سواءً بسواء، وهذا الاختلاف بعضه يرجع إلى أسس نظرية ومسائل خلافية ليست محسومة بينهم، فكلٌّ منهم يرجح خلاف الآخر، وبعض الخلاف يرجع إلى تفاوت تمكنهم من العلم، وتباين درجاتهم في تكوين المَلَكة الحديثية، وبعضه ناشئ عن تباين جهات كلامهم؛ فبعضهم يريد بحكمه إسنادًا بعينه لا مطلق الحديث، وبعضهم يريد الحكم على حديث بعينه على اختلاف أسانيده وطرقه، وبعضه يرجع إلى اختلافهم ما بين مشدّد ومتساهل ومتوسط في الجرح والتعديل الذي هو أساس الحكم على الحديث، وبعضه يرجع إلى زيادة علمٍ؛ فبعضهم قد يكون اطلع على علة خفية للحديث لم يطلع عليها الآخر، وقد يعلّل بعضهم الحديث بما ليس علة قادحة في صحة الحديث. وقد اختلف الإمام أحمد بن حنبل مع الإمام محمد بن إسماعيل البخاري وغيره في الحكم على العديد من الأحاديث؛ تبعا لتقويم الرواة وللقرائن، ومع ذلك صحح البخاري أحاديث ضعفها أحمد، وليس حكم أحدهما بمُلزمٍ للآخر.

3- النقطة الثالثة: بعض القواعد الحديثية -التي تبدو من خلال كلام الألباني كما لو كانت قواعد رياضية يجب على الجميع التسليم بها- هي محل خلاف بين المحدثين، فالحكم بالوضع على الحديث -مثلًا- هل يكون بمجرد وجود راو متهم بالكذب في إسناده أم لا بد من ثبوت كذب الراوي؟ فضلًا عن أن الحكم على الرجال مسألة لا سبيل إليها إلا بتقليد الأئمة المتقدمين الذين ورد كلامهم -في الغالب- مجملًا، ومن ثم فإن الاكتفاء بالخلاصات التي قدمها الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) لا يكفي لدراسة الحديث والحكم عليه كما يفعل الألباني كثيرًا. وبناء على هذا، لا يمكن إلزام البخاري وأصحاب السنن الأربعة بهذه الخلاصات المتأخرة التي يعتمدها الألباني؛ فالأئمة النقاد كانوا من أهل التعديل والتجريح ويحكمون بأنفسهم على الرواة، وقد استمر ذلك حتى الإمام الحاكم النيسابوري (405هـ) الذي هو متأخر نسبيًّا إذ كان من أهل التجريح والتعديل، فكيف نساوي بين خبر الرواة بنفسه ومن قلد كلام العلماء السابقين وفصل بينه وبين الرواة قرون؟ كما أن بعض قواعد التعديل والتجريح محل خلاف بين العلماء، فمثلًا الراوي الذي قيل فيه: صدوق، هل يُضعف حديثه أم يُحسّن أم يُتَوقف فيه ويُختبر؟ هذه مسألة اختلف فيها الألباني مع معاصريه من العلماء، ثم إن الراوي الضعيف قد يروي حديثا صحيحا، ومن ثم لا يجوز تعميم الحكم بالضعف على جميع أحاديث الراوي، ولذا كانت طريقة متقدمي المحدثين تقوم على النظر في أحاديث الراوي حديثًا حديثًا من دون تعميم والحكم عليه بالغالب، ولكن هذا الحكم الأغلبي لم يكن يعني تعميمه على كل حديث، وهذا وجهٌ من وجوه إبطال تحويل نقد الحديث إلى صنعة رياضية، وليس المقام مقام تفنيد هذه النقطة التي لجأ إليها بعض المهندسين المعاصرين! ولأجل هذا الخلاف في القواعد وتطبيقاتها -مثلًا- توارد المحدثون على انتقاد صنيع الإمام ابن الجوزي (597هـ) في "الموضوعات"، حتى قال فيه الإمام الناقد شمس الدين الذهبي (748هـ): كان "متوسطًا في الحديث، له اطلاع تام على متونه. وأما الكلام على صحيحه وسقيمه فما له فيه ذوق المحدثين، ولا نقدُ الحفاظ المبرّزين"، فإذا كان هذا حال ابن الجوزي الإمام فكيف يكون حال الألباني نفسه؟

4- النقطة الرابعة: ثبوت الحديث لم يكن مقيدًا بالقواعد التي سطرها متأخرو علماء مصطلح الحديث، بل كان مبنيًّا على اجتهاد الأئمة الكبار في ثبوت الحديث وفي دلالته أيضًا، وفي مدى العمل به من قبل الصحابة وتابعيهم أيضًا، لأن العمل وعدمه هنا هو جزء من منهج النقد نفسه، حتى قدّم أئمة كبار (سواء من الفقهاء أم من المحدثين النقاد) العملَ على الحديث، لأننا إنما نبحث عن "السنة النبوية" (التي هي عمل) من خلال الحديث (الذي هو جملة الأقوال المنقولة عن النبي وتحتمل تأويلات عدة كالنسخ كما تحتمل الضبط وعدمه). أي إن العمل ليس في مقابلة القواعد كما توهم الألباني والأثريون الجدد، بل هو جزء من القواعد النقدية، لأن المُجمَع عليه أن السنة النبوية إذا ثبتت لم يَسَع مسلمًا التنكّب عنها، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم ملزمٌ في أصله، وإنما الشبهة في النقل عنه وهو محل النقاش والبحث.

أما الألباني فيركن في غالب أحواله إلى ما يسميه "قواعد المصطلح" التي تبلورت لدى المتأخرين والتي سيطرت عليها الصناعة المنطقية خاصة مع ابن حجر وغيره، كما غلب عليها قواعد فقهاء الشافعية في نقد الحديث، في حين أن فقهاء المالكية والحنفية يخالفونهم في مسائل منهجية عديدة تتصل بنقد الحديث، ولذلك نهض الحنفية في الهند وغيرها في إحياء بعض قواعد الحنفية في مصطلح الحديث. فمدونات مصطلح الحديث المتأخرة تعكس فهم علماء مصطلح الحديث لممارسة المحدثين النقاد (في عصر الرواية) ومحاولة ضبطها وفق قوانين منتظمة، أكثر مما تعكس -في واقع الأمر- منهج المحدثين النقاد أو منهج الأئمة المجتهدين الفقهاء، فحين يجتهد الألباني في حديث ثم يبني عليه فقهه لا يستطيع أن يُلزم به الأئمة السابقين عليه تحت مسمى "قواعد المصطلح"، لأن ممارسة هؤلاء النقاد هي الحاكمة على كتب المصطلح لا العكس، فحكم الألباني إنما يمثل فهمه للأمر وقد يختلف معه فيه علماء آخرون.

ولأضرب مثلًا على ذلك، ذكر الألباني -مثلًا- في مقدمة "تمام المنة" قواعد عامة في الحديث رأى أنه لا يمكن لأحد أن يخالف فيها، في حين أن مصادره فيها هي مصادر متأخرة أقدمها مقدمة ابن الصلاح وأحدثها "قواعد التحديث" لجمال الدين القاسمي، فضلًا عن أن هناك مسائل ذكرها ضمن القواعد هي محل خلاف طويل بين المحدثين وقد اختار هو فيها قولا لا يَلزم العلماء الآخرين أن يختاروا اختياره، كتوثيق الحافظ ابن حبان للرواة، وردّ العمل بالحديث الضعيف مطلقًا، وسكوت أبي دواد عن الحديث، ووجوب العمل بالحديث وإن لم يعمل به أحد، بل قد عدّ هذا "شبهة المقلدين في رد السنن ومحاربتها"، وهو تحريش لا يليق بأهل العلم.

إن كل ما سبق يُظهر حجم الاجتزاء والتسطيح في تقليد الناس لتضعيف الألباني للأحاديث دون بحث أو تفصيل، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* معتز الخطيب؛ أستاذ فلسفة الأخلاق في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.





التالي
الاتحاد يهنئ أمير دولة قطر، بمناسبة اليوم الوطني وبـ"النجاح الباهر" في تنظيم بطولة كأس العالم FIFA قطر 2022م

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع