في ظلال القرآن.. وأهمية نشر طبعته الأولى النادرة
بقلم: عصام تليمة
كتاب “في ظلال القرآن” للأستاذ الكبير سيد قطب رحمه الله، كتاب شأنه شأن صاحبه، يصح أن يقال إنه ملأ الدنيا وشغل الناس، بين من يتحدث عن براعة أسلوبه، وروعة بيانه المشرق، وعمق تناوله لفلسفة القرآن الكريم، ويرى أن المؤلف من عباقرة الإسلام، وبين من يراه سببا لكل فكر تكفيري في هذا الزمن، ومرجعا لكل جماعة اتجهت إلى العنف في النصف الثاني من القرن العشرين وما تلاه، وبين منصف يرى لسيد مزايا وفضلا، ولكنه ينتقد أخطاء علمية وقع فيها. وسيد في ذلك شأنه شأن ابن تيمية وفكره، الذي يُنظر إليه بنفس النظرة من حيث تعدد أطرافها واختلاف مشاربهم.
قليل من يعرف مراحل فكر سيد قطب
قلة من أهل العلم والفكر المنصفين، هي التي قرأت سيد قطب في مراحله الفكرية كلها، فأدركت أن فكره مر بمراحل متعددة، وامتلكت المادة العلمية التي تثبت ذلك. وهذا شأن المفكر في كل مكان وزمان، فقليل من العلماء من يموت ويحيا على فكر ورأي واحد، لا يغير ولا يجدد فيه، سواء بالصواب أو الخطأ، وسيد قطب واحد من هؤلاء الذين مر فكرهم بمراحل، ولذا يثور الجدل كثيرا حول فكره، وبخاصة فكرة اتهام سيد قطب بوصم المجتمع الإسلامي بالجاهلية، والحكم بتكفيره، وهي قضية تنسب إليه كلما ورد ذكره، أو عند نقاش فكره، وهي قضية قديمة حديثة، سواء صحت هذه النسبة له أم لم تصح.
ومن يُلِمّ من المفكرين والعلماء بالتطور الزمني لفكر سيد قطب، يتحدث عن أن كتابه الأشهر “في ظلال القرآن” كُتب على مراحل، فمرحلة ما كتبه منه قبل السجن تختلف عما كتبه في السجن، وظل كلام الباحثين عن طبعة الظلال الأولى التي لم يودعها أفكاره الأخيرة حديثا تاريخيا، يذكر دون وجود لها بين يدي القراء أو الباحثين أنفسهم، حتى يتسنى لهم الحكم الحقيقي بوجود خلاف بين الطبعتين، وبحدوث تغير في فكر الرجل.
لقائي بمحمد قطب لنشر الأعمال الكاملة لسيد
وظل الأمر يشغلني فترة، خاصة بعد أن عكفت فترة على جمع تراث حسن البنا، وسيد قطب، لأجمعهما في أعمال كاملة لكل منهما. وبدأت بالفعل نشر ما تيسر لي من تراث الشيخ حسن البنا، ولم أكمل بعد صدور أربعة أعمال، وكنت قد قابلت الأستاذ محمد قطب رحمه الله سنة 1998م في قطر، وطلبت منه الإذن لي بنشر ما جمعته من أعمال كاملة لسيد قطب مما لم يجمع من قبل، فرفض الرجل. وظلت تراودوني فكرة البحث عن الطبعة الأولى من الظلال، وما تلاها من طبعات.
عثوري على الطبعة الأولى من الظلال
ومرت سنوات على بحثي عن هذه الطبعة، حتى توفرت لديّ بحمد الله الطبعة الأولى من الظلال كاملة، وما تلاها من طبعات، لتكتمل عندي مراحل الظلال بكل ما مرت به من تطورات فكرية لصاحبه، فقررت نشر الطبعة الأولى منه، التي يكثر عنها حديث الكتاب والمفكرين دون استشهاد منها، أو وجود لها، وانتهيت إلى قراري بنشرها، وعكفت على كتابة دراسة مفصلة عنها في مقدمتها.
فقررت أن أجمع الكتاب كما هو، دون وضع رأيي، ليترك الكتاب مادة أصلية تكون مثار بحث للجميع، مشيرا فقط إلى مواضع في الهوامش للمقارنة بينها وبين الطبعة الأخيرة، ليستفيد منها كل باحث، مع مقارنتها بما صدر عنه بعد ذلك في طبعات الظلال الأخيرة، وما كتبه الرجل في كتاباته الأخرى مثل “العدالة الاجتماعية في الإسلام” و”معالم في الطريق”، وليكوِّن كل باحث رأيه كما يراه بإنصاف وحياد.
أهمية نشر الطبعة الأولى للظلال
وقد فضلت عند نشر هذه الطبعة، أن أسميها “الطبعة الأولى”، وذلك تمييزًا لها عن الطبعة الأخيرة، ولتدل قارئها على أنها ليست آخر ما انتهى إليه سيد، بل هي المرحلة الأولى. وأقصد بذلك النسخة الأولى التي صدرت من الظلال، وهي تمثل الأصل الأول للظلال، قبل توسعات سيد قطب وزياداته، وبنشر هذه الطبعة تتحقق عدة أمور:
أولا: يقف الباحثون والدارسون على المسار الفكري لسيد قطب، ومراحله الفكرية، ومدى تأثره بالبيئة التي عاش فيها، وإلى أي مدى تطور فكره وتغير.
ثانيا: أنها تميز بين أفكار سيد التي ثار حولها الجدل، وفسرها كل كاتب بما يرى، أو بحسب تحيزه أو تعصبه ضد سيد قطب، وبين رأيه الحقيقي، دون تشنج، أو تنزيه.
ثالثا: أنها تقدم “في ظلال القرآن” حسب مستهدف مؤلفه أولا، قبل رحلته الفكرية الأخيرة، فقد أراد سيد قطب من الظلال أن يكون تأملات أديب ومفكر مؤمن مع كتاب الله، ولم يستهدف منه تناول القضايا الفقهية والعقدية، أو القضايا الشائكة التي تحتاج إلى مؤهلات خاصة.
رابعا: أنها تدعو كثيرا من الباحثين المنصفين المتابعين لمسيرة الفكر الإسلامي المعاصر، في عطاء واحد من أشهرهم، وهو سيد قطب، إلى إعادة النظر في التعرف على الأسباب التي دفعت به إلى أفكاره الأخيرة.
خامسا: أنها تحول دفة الحديث البحثي جديا في اتجاه جديد عند تناول مرحلة سيد قطب الفكرية الأخيرة، فقبل السجن كان الظلال كتاب تفسير مبدعا، لا توجد عليه ملاحظات، ثم أصبح الظلال في الطبعة الأخيرة مثار جدل كبير، فهل التغير هنا سببه السجن، أم التعذيب، أم فكر الرجل نفسه؟ وما السبب الحقيقي لتغيره؟
سادسا: أنها تفتح باب النقاش في الاجتماع السياسي، في أثر السجون في أفكار المفكرين، سواء بالسلب أو الإيجاب، وتجربة السجون للمفكرين ليست في مستوى واحد، بل مستويات متعددة، وتحتاج بلا شك إلى أطروحة تناقش الموضوع نقاشا معمقا من جميع جوانبه.
سابعا: أن نشر هذه الطبعة، هو إنقاذ للظلال الذي كان تفسيرا للقرآن من باب البيان، وجمال العرض، من الظلال التفسير الذي تحول إلى سياق فكري وتنظيري، يخرج به من النفع للجميع، إلى انتفاع طائفة معينة منه. كما يخرج نشر هذه الطبعة الكتاب من دائرة الظلال المثير للجدل، إلى الظلال المتفق عليه، دون إشكال، مع وجود الطبعة الأخرى وهي الأكثر انتشارا بلا شك حتى الآن.
أهمية التتبع التاريخي لتطور الأفكار
وللتتبع التاريخي للأفكار أهمية للباحث، فبعض المفكرين ممن أثاروا بأفكارهم المجتمع العلمي والبحثي، مرت أفكارهم بمراحل، ومرت كتبهم كذلك بأطوار مختلفة، شأنهم في ذلك شأن كل الفقهاء والعلماء والفلاسفة القدامى والمحدثين، ففي تراثنا الفقهي يعرف للإمام الشافعي مذهبه القديم والجديد، وكذلك هناك أئمة غيروا أفكارهم من رأي إلى رأي آخر، بل رأينا علماء كبارا غيروا مذهبهم الفقهي، ومنهم من غير مذهبه العلمي فيما سمي في تراثنا “علم الكلام”، وغيره من العلوم.
قصة تطور كتاب من هنا نبدأ
وهذا ما حدث لمفكرين في العصر الحديث كذلك، فهناك عدد من الكتب صدر في طبعته الأولى بشكل، وبعد ذلك بعد ضجة فكرية أو صخب تغير شكل الكتاب، سواء بالإضافة أو الحذف، فمثلا كتاب “من هنا نبدأ” للمفكر الكبير خالد محمد خالد، هذا الكتاب الذي أثار ضجة كبرى في الأزهر والأوساط الإسلامية والفكرية، وقد صدر سنة 1950م، عن دار النيل بمصر، صدر دون ضجة، اللهم إلا من بعض الضجيج السياسي، وقد كان عنوان الكتاب “بلاد من؟”، ثم غير خالد محمد خالد عنوانه إلى “من هنا نبدأ”، ولم يكن بحجمه الذي نشر به في الطبعة الأولى، لأن الفصل الأهم الذي أنكر فيه خالد محمد خالد الدولة في الإسلام، لم يكن في الكتاب، فقد حذفه قبل الطبع، لأن من كتب لهم الفصل كانوا في السجون، وهم الإخوان المسلمون، وقد كان يوجه لهم الفصل، ويخاطبهم به، وقد كانوا في المعتقلات، وقد رأى المفكر الكبير أنه ليس من المروءة أن يهاجم أناسا في السجون، ولما خرج الإخوان من السجون، زاد الفصل المحذوف ووضعه في الكتاب، وهنا ثارت ثائرة المشايخ، وحدثت القصة الكبرى للكتاب، التي يعرف تفاصيلها الباحثون.
وقد حدث من قبل الأمر نفسه مع الدكتور طه حسين في كتابه “في الشعر الجاهلي”، فالطبعة الأولى منه تختلف عما بعدها، وكذلك كتاب “القصص الفني في القرآن” لمحمد خلف الله، فمادة الرسالة التي نوقشت ثم رفضت، وثار حولها الجدل، غير ما نشر فيما بعد.
كتب لسيد قطب مرت بتطورات
وكذلك سيد قطب مرت بعض كتبه بمراحل، وتطورت إضافة وحذفا، فلم يكن “في ظلال القرآن” فقط هو الذي مر عليه قلم سيد بالإضافة والحذف، بل كذلك كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” الطبعة الأولى منه تختلف اختلافا كبيرا عن الأخيرة، والثانية والثالثة تختلفان عن الرابعة (الأخيرة) التي صدرت سنة 1964م عن مطبعة الحلبي بالقاهرة قبل وفاته بعامين.
فصل محذوف من كتاب لقطب
وكذلك كتابه “السلام العالمي والإسلام” الذي صدرت طبعته الأولى عن مكتبة وهبة سنة 1951م وبقيت طبعاته كذلك، حتى وفاة سيد قطب، ثم بعد وفاته صدر الكتاب عن دار الشروق بالقاهرة، ولكن الفصل الأخير منه قد حذف وقد كان بعنوان “والآن…”، ويقع في حوالي ثلاث وعشرين صفحة، وما في تلك الصفحات له دلالة مهمة لمن يريد مقارنة أفكار سيد بما يقوله عنه بعض العلماء من أنه حكم في الظلال بانتهاء الأمة الإسلامية، وقد سألت الناشر المهندس إبراهيم المعلم (صاحب دار الشروق)، فقال: نحن لم نحذف شيئا، نشرنا كتبه كما أعطاها لنا شقيقه الأستاذ محمد قطب، ولا أعلم هل فعل ذلك الأستاذ محمد بتوصية من أخيه قبل وفاته، أم لا؟
أما المراحل التي مر بها كتاب “في ظلال القرآن”، فهي تحتاج إلى تفصيل آخر، سنبينه في مقالنا القادم إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عصام تليمة، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وأحد علماء الأزهر الشريف
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
* المصدر: الجزيرة