الدعامة الأولى لبناء الحياة الصالحة المطلوبة
بقلم: محمد وثيق الندوي
إن النتائج والآثار تدل على أفكار أصحابها، وإن المواقف البناءة أو الهدامة تنبئ عن صلاح الباطن، أو خبث الداخل، لأن قيمة العمل؛ بل قيمة صاحب العمل ترتبط ـ كما كتب محمد الغزالي ـ ارتبطاً وثيقاً بحقيقة الأفكار التي تدور في الذهن، والمشاعر التي تعتمل في النفس، قال "ديل كارنيجي": إن أفكارنا هي التي تصنعنا، واتجاهنا الذهني هو العامل الأول في تقرير مصائرنا، ولذلك يتساءل إيمسون: نبئني ما يدور في ذهن الرجل أنبئك أيّ رجل هو، نعم، فكيف يكون الرجل شيئًا آخر غير ما يدل عليه تفكيره، واعتقادي الجازم أن المشكلة التي تواجهنا هي: كيف نختار الأفكار الصائبة السديدة؟ فإذا انحلت هذه المشكلة انحلت بعدها سائر مشكلاتنا واحدة إثر واحدة، قال الإمبرطور الروماني ماكوس أورليوس: "إن حياتنا من صنع أفكارنا".
فإذا كانت الأفكار الدائرة في الأذهان سديدة صائبة وسليمة مستقيمة، كانت النتائج والآثار صالحة طيبة، وإذا كانت المشاعر المفتعلة في النفوس صادقة وإيجابية، كانت المواقف والاتجاهات بناءة خيرة، وإذا نحن ساورتنا أفكار سعيدة، كنا سعداء، وإذا تملكتنا أفكار شقية، غدونا أشقياء، وإذا خامرتنا أفكار مزعجة، تحولنا خائفين جبناء، وإذا تغلبت علينا هواجس السقم والمرض فالأغلب أن نبيت مرضى سقماء، وهكذا.
وإن الأفكار الصالحة والاتجاهات السليمة مؤسسة على تهذيب النفس الإنسانية وتزكيتها، وإنشاء الفكر السليم في الأذهان وتربيتها على العقيدة المستقيمة والتصور السليم عن الحياة والكون والإنسان، فالروح المعنوية لها أثر باهر لدى الأفراد والجماعات، وذخيرة الخلق المتين والمسلك المستقيم العالي، أجدى على أصحابها وأكسب من أي شيء آخر، وإن النفس هي مصدر التزكية والتربية، والتوجيه والتهذيب.
وقد كان تهذيب النفس وتربية الذهن موضوع رسالات الأنبياء ودعواتهم، ومحور نشاطهم، فلم تكن تعاليمهم قشورًا ملصقة، فتسقط في مضطرب الحياة المتحركة، ولا ألوانًا مفتعلة تبهت على مرِّ الأيام، لقد خلطوا مبادئهم بطوايا النفس، فأصبحت هذه المبادئ قوة تهيمن على وساوس الطبيعة البشرية، وتتحكم في اتجاهاتها.
وإن الحضارة التي أنشأها الأنبياء المرسلون، هي- كما كتب الشيخ أبو الحسن غلي الحسني الندوي في مقال له- "حضارة تعرف في العقيدة بالتوحيد، وفي الاجتماع باحترام الإنسانية والمساواة بين أفرادها، وفي دائرة الأخلاق والمنهج بتقوى الله والحياء والتواضع، وفي ميدان الكفاح بالسعي للآخرة والجهاد لله، وفي ساحة الحرب بالرحمة والعاطفة الإنسانية، وفي أنواع الحكومات بترجيح جانب الهداية على جانب الجباية، والخدمة على الاستخدام، تعرف في التاريخ بخدمة الإنسانية المخلصة، وإنقاذها من براثن الجاهلية، والدعوات المضلة الطاغية وفي العالم بآثارها الزاهرة الزاهية وخيراتها المنتشرة الباقية. إنها حضارة عجنت مع اسم الله ومراقبته، وصبغت بضبغة الله، وقامت على أساس الإيمان فلا يمكن تجريدها عن الطابع الديني واللون الرباني والروح الإيماني".
فإن الإسلام يعتمد ويركز في إصلاحه العام على تهذيب النفس الإنسانية قبل كل شيء، فهو يصرف جهودًا ضخمة للتغلغل في أعماقها، وغرس تعاليمه في جوهرها.
وخير مثال لذلك ما قام به سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من تنقية نفوس أصحابه من العقيدة الفاسدة، والفكر المادي، والتصور الخاطئ للحياة، وتهذيب نفوسهم وتنشئتها وتحليتها بالتقوى والهدى، والصلاح والرشاد، والسلوك الحسن، وتربيتهم على القيم الإسلامية والمثل الإنسانية العليا من الصبر والتحمل، والحلم والعفو عمن ظلم، وحب الخير والفضيلة، ونصرة الحق، ونجدة الملهوفين، وتحمل الكَلّ، وإكرام الضيف، واحترام الإنسان، وصيانة كرامته وشرفه، واحتمال الأذى، والابتعاد عن الشر والرذيلة، والنفور من الظلم والبغي، وتجنُّب العداوة والبغضاء، والحسد والضغينة، وقد ركز الرسول صلى الله عليه وسلم عنايته على هذه التزكية والتربية الدينية وتهذيب النفوس: " هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ". (الجمعة: 2)
فأتت النتائج المرجوة باهرة، ووجد مجتمع مثالي صالح كان باقة زهور، ووجد جيل ظهرت منه روائع الإيمان واليقين، والصبر والشجاعة، ومن خوارق الأخلاق والأفعال، ما حيَّر العقل والفلسفة، وتاريخ الأخلاق، ولا يزال موضع حيرة ودهشة منه إلى الأبد، وعجز العلم عن تعليليه، بشيء غير هذه التزكية والتربية الصالحة الدقيقة الحكيمة.(ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، للشيخ أبي الحسن الندوي)
فإن التربية الصالحة الدقيقة الحكيمة هي التي تهدي المرء إلى الخير والرشاد بدل الشر والضلال، وإلى الفضيلة والسعادة بدل الرذيلة والشقاء، وإلى الطمأنينة والبناء والتعمير بدل الاضطراب والهدم والتدمير، وإلى الاحترام والإحسان بدل الإهانة والإساءة.
وإننا نرى في هذا العصر أصحاب الخبرات والكفاءات العلمية في مختلف مجالات الحياة منحرفين عن الصواب والسداد في كتاباتهم ومؤلفاتهم، وفي انتاجاتهم واتجاهاتهم الفكرية، وفي أعمالهم ومناهجهم حتى سلوكهم وتعاملهم، لأنهم تلقوا العلم المجرد الذي لم يرافقه التوجيه السماوي والهداية الربانية، وإن العلم المجرد عن الاتصال باسم الربّ سبحانه وتعالى، يجرّ صاحبه إلى الزيغ والضلال، والانحراف، وكذلك الذين يتلقون التعليم بدون التربية الدينية الصالحة الراسخة ليسوا بنجاة من هذا المرض، فيسببون البلبلة الفكرية والتشكيك في المسلمات، والآداب الدينية، والاستخفاف بالتقاليد والعادات التي فيها الكثير من القوة والصلاح، ويتطاولون على المرجعيات الدينية، ويسيئون إلى الشخصيات والمؤسسات الدينية.
فإن إصلاح القلب وتزكية النفس وصياغة الذهن في القالب الإسلامي الصحيح السليم، هي الدعامة الأولى لبناء الحياة الصالحة المطلوبة، فإذا لم تصلح النفوس أظلمت الآفاق، وسادت الفتن حاضر الناس ومستقبلهم، وقد أشار إلى ذلك رسولنا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله:" ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمد وثيق الندوي، مدير التحرير بمجلة الرائد.
* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
* المصدر: الاتحاد