البحث

التفاصيل

هل كتب سيد قطب الظلال متأثرًا بالتعذيب والسجن؟!

هل كتب سيد قطب الظلال متأثرًا بالتعذيب والسجن؟!

بقلم: عصام تليمة

 

ذكرت في مقالي السابق المراحل والتطورات التي مر بها كتاب (في ظلال القرآن)، للأستاذ سيد قطب، منذ كان فكرة على هيئة مقالات تكتب، ثم انتقاله إلى كتاب يكتبه مسلسلا في أجزاء، يصدر كل جزء من القرآن الكريم في عدد وحده، كان لا يصل إلى مائة صفحة من القطع المتوسط، ثم عاد على الظلال بالتنقيح والزيادة، وكانت في زيادته وتنقيحه أفكار أثارت الجدل، تتعلق بالحاكمية والجاهلية والنظرة للمجتمع، واختلفت الآراء في تفسير موقفه، وبنفس درجة الاختلاف في فهم موقفه، كان الاختلاف في فهم دوافع هذا الموقف، ودوافع التغير.

أهمية دراسة بيئة الكتابة للمفكرين:

ومما لا يخفى على الدارسين أن سيد أكمل الظلال في السجن، وأعاد تنقيحه في السجن كذلك، وألف كتبا أخرى في هذه الفترة، وأنه سجن من سنة 1954م، حتى سنة 1964م، أي عشر سنوات متواصلة، ثم أعيد اعتقاله في سنة 1965م حتى تم إعدامه سنة 1966م، ومن الأطروحات التي اشتهرت وذاعت: أن التعذيب والسجن هو الذي صنع هذه الأفكار التي تثير الجدل حول سيد، وموقفه من المجتمع والجاهلية والتكفير.

وهذا المقال ربما يختلف في بعض أفكار كانت شائعة عن سيد قطب، وعن الحركات الإسلامية وعلاقة السجون والتعذيب بأدبياتها، فهو وإن كان يحاول رصد تحولات قطب الفكرية، فهو رصد أيضا لمسار القيادة الفكرية والفقهية للحركات الإسلامية، ومحاولة الوقوف على أسباب تغيرها، وقد طرح المرحوم طه جابر العلواني سؤالا في أحد بحوثه، ولكنه للأسف لم يجب عنه، حيث رصد هذا المسار الفكري، عندما قاد الحركة فقيه داعية، وهو حسن البنا، ثم انتقل الأمر إلى أديب مفكر، وهو سيد قطب، ثم انتقل إلى الفقيه الداعية والمنظر وهو يوسف القرضاوي.

أدبيات المحنة بين إسلاميي المغرب والمشرق:

هناك فكرة أخرى شائعة لدى الدارسين لأثر السجون على المعتقلين، والمقارنة بين إسلاميي المشرق والمغرب في ذلك، فقد كنا نرى أن إسلاميي المغرب العربي، مثل تونس، كانت تجربتهم مختلفة عن المصريين والسوريين مثلا، فعندما حبس الشيخ راشد الغنوشي وإخوانه في تونس، لم ينشغلوا في السجن بفقه المحنة، بل انشغلوا بفقه الدولة، فكتب الغنوشي كتابين من أهم كتب الإسلاميين في الفقه السياسي، وهما: المواطنة، والحريات العامة في الدولة الإسلامية، فالأول كتبه كاملا في السجن، وكان في الأصل خطب جمعة، والثاني، كتب الخطوط العامة والرئيسية له في السجن.

وظلت الفكرة الشائعة عن إخوان مصر، الانشغال والكتابة عن فقه المحنة، وهي نظرة غير دقيقة مائة في المائة، ولا يمكن وصف تجربة الإسلاميين في مصر بها كلها، بل ربما حالات بسيطة، تتعلق بالوعاظ من المعتقلين في الإسلاميين، أما أهل الفكر فشغلتهم نفس الموضوعات وكتبوا لها، وكتاب: (الإسلام والاستبداد السياسي) للشيخ محمد الغزالي، ألقاه محاضرات في السجن، وكتب بعض مواده، ولما خرج أكمله، وكذلك كتب سيد قطب في السجن، ليس منها عن فقه المحنة، بل معظمها عن الدولة والمجتمع، والتصور الإسلامي للكون والحياة.

إلقاء الكرة في ملعب الظلمة:

كان من بين أهدافي لنشر الطبعة الأولى من كتاب (في ظلال القرآن)، أن يتحول الإسلاميون لأول مرة من مدافع إلى مهاجم ضد أقلام الظلمة المأجورة من الإعلاميين والمباحثيين، لا الباحثين، لكن للأسف ارتفعت أصوات الجهالة والتعصب على صوت العقل والعلم والمنهجية، فقد كنت أستهدف من ضمن الأهداف، أن كثيرين من هؤلاء يصمون سيد بالتكفير والعنف، وأن الجميع متفق على أن سيد بدأ الظلال قبل السجن، فنأتي بنسخته قبل السجن، ونسخته التي كتبت في السجن، ثم نضع السؤال للسجان والحكام الظلمة ولأعوانهم: ماذا تفعلون في المساجين فتتحول أفكارهم إلى هذا المستوى؟ هذا عند تسليمنا بأن سيدا فعلا فعل ذلك، وانتهى فكره على ذلك. ليتحول الحوار والنقاش بدلا من الدفاع، إلى رمي الكرة في ملعب الظلمة وأتباعهم، بدل أن يظل المظلوم مشغولا بالإجابة، ونفي التهمة، لماذا لا نرمي الكرة في ملعبها الصحيح، وهو ملعب السلطة، وما تمارسه من إجراءات تدفع الإنسان للتفكير والفعل عكس طبيعته وشخصيته؟!

السجن وأثره في الأديب والشاعر:

كان سيد أديبا وشاعرا، رغم أنه مفكر، لكن العاطفة الأدبية تغلب بحكم الجانب الأقوى، ولو فقد هذه العاطفة الأدبية لما كان هناك روح وحس لما يكتب، وهو أمر طبيعي، ونلاحظه في فروق واضحة بين الأديب حين يتناول موضوعا عن السجان والظالم وأعوانه، حين يكون الكاتب سجينا، وحين يكون الكاتب حرا طليقا.

ولدينا نموذجان لموضوع واحد، وهو الحديث عن السجن والسجان، عند شاعر لم يدخل السجن لحظة وهو هاشم الرفاعي، وشاعر فقيه سجن وهو الشيخ يوسف القرضاوي، كلاهما كتب عن السجن والسجان، شتان بين النظرتين، فهاشم وصف السجان بأنه طيب القلب، وأنه يذكره بأبيه، رغم أن قصيدة هاشم بعنوان: (رسالة في ليلة التنفيذ)، على لسان شخص محكوم عليه بالإعدام يكتب لأبيه آخر رسالة، ولكن لأن هاشم لم يسجن، فكانت لسجين متخيل، أما السجين الحقيقي فكان القرضاوي ولذلك في قصيدته: (ملحمة الابتلاء) وصف السجان بالمتبلد الحس، وأنه مثل السوط الذي في يده.

حسن حنفي وسيد قطب:

وهو ما قاله الدكتور حسن حنفي، حين قال: لو تبدلت حياتي مع حياة سيد قطب، فسافر سيد لفرنسا لكتب: من العقيدة إلى الثورة، ولو دخلت أنا السجن لكتبت (معالم في الطريق)، بل كتب حسن حنفي في كتابه: (الدين والثورة في مصر) يقول: (كان لسيد قطب أثر كبير علي بأسلوبه ووضوحه، وبساطته خاصة مقال: (الإسلام حركة إبداعية شاملة في الفن والحياة)، وحتى الآن أجد نفسي فيه، ولو أن الدعوة كانت قد تطورت تطورا طبيعيا دون هذا الصدام المشؤوم بينها وبين الثورة، لتطور سيد قطب أكثر فأكثر في طريق العدالة الاجتماعية في الإسلام، وأيضا معركة الإسلام والرأسمالية، ولما كتب (معالم في الطريق) التي يظهر فيها فكر الدعوة بين الجدران. ولو عاش سيد قطب لكنت خير تلميذ له، ولو استمرت الدعوة لكنت أحد مفكريها).

سيد لم يكتب حرفا في الظلال تحت التعذيب:

لا يشك أحد في أن سيد قطب تم تعذيبه في السجن في أول اعتقاله في سنة 1954م، شأنه شأن كل من سجنوا معه، وهو ما ثبت في تحقيقات السلطة نفسها، ولكن التعذيب لم يكن طوال فترة سجنه، لقد كان فترة ثم انتهى كما كتب بذلك كل من سجن في هذه المرحلة، ونظرا لحالة سيد الصحية، فقد كان كثير التردد على المستشفى لتلقي العلاج.

إن أول حقيقة ينبغي أن نقف أمامها بإنصاف، هو: أن سيد قطب لم يكتب حرفا واحدا تحت التعذيب، وبخاصة كتبه كلها قبل سجنه سنة 1965م، وإلا كيف يكتب سيد كل هذا القدر الكبير من الكتب تحت التعذيب؟ فقد أكمل الطبعة الأولى للظلال، ونقح الطبعة الثانية، أي أنه كتب ما يقرب من ألفي صفحة، ثم كتبه الأخرى، وتقترب من نصف هذا الرقم، فكيف بتعذيب يتمكن صاحبه من كتابة هذا الكم والكيف من الكتابة؟!

أفكار قطب القديمة والجديدة كتبت في السجن:

إن المفاجأة العلمية التي تغيب عن كثيرين ممن تناولوا تطور فكر سيد قطب، أن أفكار سيد التي يمتدحها ناقدوه، كتبت وسيد في السجن، وأفكاره التي يختلف معه منتقدوه أيضا كتب في السجن، فسيد القديم والجديد بأفكاره، كتبها في السجن، فالظلال الأولى بقيتها في السجن، بنفس منهجه قبل السجن، وبعد انتهاء التعذيب، فإذا امتدح أحد أفكار سيد الأولى فقد كتبت في السجن، فماذا يعني هذا الأمر؟

إنه يعني أن هذه الأفكار هي أفكار سيد بالفعل، ليست نابعة عن فقه المحنة، وليست نابعة عن رد فعل تعذيب أو سجن، هناك أسباب أخرى علينا أن بحث عنها علميا، وإلا فما تفسير ذلك؟ أن منهجي سيد موجودان معا في مكان واحد، فلم يستأنف الجلاد التعذيب، بل انتهى التعذيب، وكتب سيد بقية الظلال وكتبه الأخرى في نفس السجن، وفي نفس الظروف.

إنه تطور فكري حدث لسيد، ومن يتأمل مسيرته الفكرية سيجده كل فترة يطور من فكره، سواء اتفقنا مع هذا التطور أم اختلفنا، لكنها الحقيقة الثابتة علميا عنه، فسيد شأنه شأن كل المفكرين، وبخاصة أصحاب اللغة الأدبية العالية، والحس المرهف، فتغير فكره من ناقد أدبي، إلى أديب دعوي، إلى أديب مفكر ومنظر، وكان لكل مرحلة طبيعتها وأدواتها، وأفكارها، اتفقنا أم اختلفنا معه فيها.

ولم يعرف عن سيد أنه كان مشغولا فترة سجنه منذ سنة 1954م، بما يعرف بفقه المحنة والتركيز عليه، بل إن الوحيد الذي خطط للمعتقلين للاستفادة من السجن، كان سيد، فقد حكى بعض المعتقلين معه في هذه الفترة، أنه طلب ترتيب محاضرات لمعتقلي الإخوان، كل في تخصصه، ولما سألوه عن ذلك، فقال: حتى لا ينسى كل صاحب تخصص تخصصه، بل يحاول تنميته، فالأزهري يشرح ما درس، والكيميائي كذلك، وهكذا بقية التخصصات العلمية والأدبية.

عنصر المؤامرة والإبادة:

بالطبع يظل السجن في حد ذاته ظلما للكاتب والمفكر، ورؤيته لمسجونين مظلومين حوله يقتلون، أو يسمع منهم هول ما رأوه هو شيء خطير ومؤثر، هذا كلام في المجمل، لكن في حالة سيد لم تكن عاملا مؤثرا في منهجه في الظلال، هذا حسب ما تثبت لدي من معلومات عن مرحلة الكتابة بالمنهجين القديم والجديد لدى سيد، وأن هناك عاملا آخر مهم، لم ينتبه إليه الكثيرون ممن يدرسون قطب.

فقد التقى في هذه الفترة بمن تم الاعتداء عليهم في مذبحة الإخوان في السجن سنة 1957م، بما عرف باسم: (مذبحة ليمان طرة) وسمع شهادتهم، وكيف تم قتل أناس برآء لم يقترفوا إثما، ولا جريمة، وقتلوا بدم بارد داخل زنازينهم، وهو ما كتب بعض تفاصيله كاتب لبناني ماروني حُبس بالخطأ مع الإخوان، وبعد أن خرج كتب كتابا بعنوان: (أقسمت أن أروي)، باسم مستعار يحمل اسم: روكسي معكرون، حكى فيه ما حدث للإخوان من اعتداءات وحشية على أناس يقضون فترة سجنهم.

هذه المعلومات وغيرها عن المجتمع الذي غاب عنه، أشعره بأن هناك مؤامرة إبادة واستئصال للحركة الإسلامية، وليست السلطات الي في بلادنا سوى وكلاء عنها، ومثل هذه المخططات تقتضي مواجهة فكرية وتربوية تكون على قدر كبير من مواجهة هذه المخططات، ومن يعود لأحداث قديمة في الإخوان عند سيد سيجد شواهد لذلك.

ومما يقوي هذا التوجه عند سيد، ما ذكره من قبل محمود عبد الحليم في كتابه: (الإخوان المسلمون.. أحداث صنعت التاريخ) (3/214)، عندما قام بعض كبار الإخوان المعارضين للأستاذ حسن الهضيبي مرشد الإخوان آنذاك، باحتلال المركز العام للإخوان المسلمين، ومحاولتهم إجبار الهضيبي على التنازل عن منصب المرشد، لم يكن سيد قطب يعرف بالخبر، ولما عرف الخبر قال في جمع من الإخوان: يا فرحة الصهيونية والصليبية العالمية، ولم يستفسر منه أحد عن سر هذه الكلمة، حتى قابله أحد الإخوان في السجن، وسأله: ما دخل الصيهونية والصليبية العالمية بخلاف داخلي في بين الإخوان؟

فقال سيد قطب: لقد اتصل بي الأستاذ علي أمين في الساعة الثانية ظهر يوم الحادث، وقال لي: أين حاسة الصحفي عندك؟ الإخوان قايمين على بعض بالسلاح وانت قاعد في البيت؟! فلما عرف بعد ذلك التفاصيل، يقول سيد: هذا ما جعلني أقطع بأن الأمر مدبر من أكثر من جهة).

أرى بعد طول بحث أن ما ذكره كثيرون من الباحثين عن أفكار سيد، كانت في إطار البحث السريع والسهل والمباشر، فسيد في السجن، وتم تعذيبه، وتعذيب إخوانه، فهذا عامل واضح لهم، أو مباشر، لكنه قد يكون عاملا خادعا عن سبر غور الحقيقة، ولا أنفي هنا أن الظروف تصنع أفكارا، لكنها تصنع عند خفيفي العلم والفكر، وليس شخصيات مثل سيد وغيره. وقد كان الشيخ الغزالي يعلل أخطاء الفكرة التي ترسخت لدى سيد بسبب ضعف تكوينه الفقهي، فهو لم يتكون علميا بالثقافة الأزهرية التي تعصم من مثل هذه المزالق.

أثر السجن في مصادر سيد:

إذن لم يكن للسجن أثر في فكر سيد من حيث تكوين الفكر، أو الشعور بالمظلومية، فقد تجاوز سيد ذلك فيما كتب كما أوضحت، لكن للسجن أثرا آخر ليس من باب الحبس والقهر، بل من باب المعلومات وتكوين الفكر، فالسجين أبعد ما يكون عن واقع الحياة الذي يحياه الناس، فلا يرى الناس، وسيد كتاباته كانت تتناول هذا المجتمع الذي يحكم عليه بأفكاره، وهذا معناه أنه يحيا في مجتمع المساجين فقط، ويتكلم عن مجتمع هو أبعد الناس عنه، لا يعرف ما أصاب المجتمع من تطور، سواء بالسلب أو الإيجاب، هنا فقط يمكن أن نقول عن تأثر سيد بالسجن في هذه الحالة.

فلم يكن مع سيد سوى مساجين لا علاقة لهم بالفكر الذي يكتبه، فمعظمهم بالنسبة لسيد تلامذة، ومثل أفكار سيد كانت تحتاج لأنداد مثله، أو يفوقونه فيما يطرح، كي يصوبوا ويستدركوا، ويناقشوا، ويأتون على ما لا يتفق مع قواعد العلم بالإبطال، كل ذلك في سياق النقاش، وقد كان سيد متمتعا بذلك وهو حر طليق، ولذا راجع كتابه: (العدالة الاجتماعية في الإسلام) فيما كتبه عن الصحابة، بعد أن انتقده علماء كبار في موقفه، مثل الشيخ محمود شاكر، ومحب الدين الخطيب وغيرهما، فقرأ ما كتبوه وعدل ما كتب، لكنه في السجن حرم من هذا المصدر القوي المهم للكاتب.

أما في السجن فكانت مصادره محدودة، سواء من حيث الكتب، أو من حيث العلماء الذين يناقشون، وتجد الفرق واضحا فيما كتبه سيد في الظلال وغيره، من أفكار احتاجت للتعقيب والرد والتوضيح، وبين كتاب (دعاة لا قضاة) مثلا، الذي كتب أيضا في السجن، ولكنه مر على أكثر من كاتب، وأكثر من عقل، ومنهم مختصون في الموضوع.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عصام تليمة؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومن علماء الأزهر

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

* المصدر: الجزيرة مباشر





السابق
تركيا.. تخريج 1001 طالب وطالبة من حفظة القرآن الكريم في ولاية أرزوروم

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع