البحث

التفاصيل

السجن فى القرآن الكريم 

السجن فى القرآن الكريم 

بقلم: عطية أبو العلا

 

توقفت عند قضيتين لنبيين من أنبياء الله الأولى على خلفية جنائية بحتة والثانية على خلفية جنائية وسياسية كلاهما من الدرجة الأولى قتل وعمل على قلب نظام الحكم.

 

* أما القضية الأولى وهى جنحة في القانون المصري وهناك اتجاه لتغليظ العقوبة فيها وهى التحرش الجنسي وهذا التوصيف العام لكن أقوال الادعاء تفيد بأنها محاولة اغتصاب و ذلك بنص كلام المدعى عندما قالت: (أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا) إذاً نحن أمام قضية جنائية وليست سياسية لكن بعد قليل ستأخذ بشكل أو بآخر منحى شبه سياسي وهو ما يقال عنه قضية رأى عام أما في فصلها الأول وهو الجنائي فقد أقيمت محكمة وأجرى تحقيق في الحادث.

وسارت التحقيقات على النحو التالي:

الادعاء: أثبت دعواه وطالب بالعقوبة التي يراها مناسبة وهى ( مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

المتهم: نفى التهمة عن نفسه وقال (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) ثم طلب شهادة الشهود فحضر الشاهد ونظراً لطبيعة الجريمة التي يندر في مثلها المشاهدة وذلك لحرص الجاني حال ارتكابها على الستر والمبالغة في التخفي ويظهر ذلك من سرد القرآن لأحداث الواقعة من خلال (وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ) إلخ فلابد أن يكون الشاهد ذا مواصفات خاصة أهمها الحيادية بل أكثر من حيادي أن يكون (شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا) أي من طرف الخصم الجاني الذي سيدان حتى لا يمكنه الطعن على شهادته بالمخاصمة.

أما الشهادة نفسها فلابد أن تكون موضوعية من حيث الإجراء الجنائي ومنطقية لا تقبل الجدل واضحة لا لبس فيها ملموسة مختصرة مركزة وهي في منطقيتها مجرد مقدمات والنتيجة يحكم بها الواقع وتراه هيئة المحكمة واضح ويراه القاصي والداني من القضية.

وعلى الفور تشكلت لجنة بناءً على شهادة الشاهد لفحص مسرح الجريمة محور شهادته وهو القميص لأن الشاهد اعتمد في شهادته على أن جهة القض للقميص ستبين الجاني.

أفادت اللجنة بالاتي:

القميص قض من الخلف (رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ) وهذا يفيد كذب الادعاء وصدق دفوع المتهم فحكمت المحكمة ببراءة يوسف عليه السلام وفى حيثيات الحكم أوصت ببعض التوصيات والتي من شئتها الحفاظ على سمعة بيت العزيز فكان من ضمنها أن يعرض يوسف عليه السلام عن الخوض في موضوع القضية ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ )والتزم يوسف علية السلام بذلك  إلا أن الأمر كان قد خرج عن السيطرة وعن إطار المتهم والمحكمة إلى أبعد من ذلك و هن نسوة المدينة وتحولت إلى قضية رأى عام لدى الطبقة الأرستقراطية التي تمثل لديهم  هذه القضية المليئة بالإثارة مادة دسمة للحوار والغمز والمز والهمس فيما بينهم (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ) مما اضطر زليخة إلى اتخاذ بعض الاجراءات والتي منها ( فلمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ).

وبناء على ردة الفعل من النسوة وهو (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ )  ونتيجة ما رأته زليخة دفعها وشجعها أن ترد اعتبارها بقولها (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) وعلى ذلك أعترف (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ) ثم بدأت في  اتخاذ قراراً غاية في الشدة والحزم والقسوة وهو ( وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ) وهو القرار باعتقال يوسف عليه السلام من غير محاكمة ولا كل هذه الإجراءات المملة التي يعتبرها المستبدون ومن بيدهم السلطة المطلقة والقدرة على الاعتقال التعسفي من غير مسائلة أو مراجعة . كلام فاضي

 

من زنزانتي هذه وعلى رائحتها الكريهة وأصوات المساجين الجنائيين وشدة برودتها وبعد حفلات الاستقبال من الباشا لي أوجه شكري لزليخة ولزوجها عزيز مصر ولهيئة المحكمة والجنة المشكلة لفحص مسرح الجريمة وذلك لأن زليخة وزوجها لم يعملا على العبث بأدلة الإثبات بتغير القميص قبل عرضة على اللجنة أو من خلال الموظف أمين الأحراز ولم يحاولا التأثير على تقرير اللجنة واللجنة نفسها لم تقبل ذلك وشكري للمحكمة لعدالتها في حكمها.

القضية الثانية وهي لنبي الله موسى عليه السلام: سيدنا موسى عليه السلام أنا شخصيا أشعر بأني بيني وبينه حالة شعورية غريبة لا أعرف كيف أصفها لكنها حالة من ..... التوافق الحب الاحتضان الإخوة لا أعرف ما أعرفه هو أن ما إن أذكرة أو يذكر أمامي إلا وتنتابني حالة من الشجن تصل إلى شبه الوجد المهم في حاجة خاصة بيني وبين نبي الله موسى عليه السلام لا أعرف كيف تسمى لكنى أسأل الله العلى العظيم أن يجمعني به في جنته ويرزقني لذة احتضانه وتقبيل يديه آمين.

الاختلاف بين كل من نبي الله موسى ونبي الله يوسف عليهم السلام

أن نبي الله يوسف عليه السلام وإن كان قد اتهم بالتحرش أو محاولة الاغتصاب فإن نبي الله موسى عليه السلام لم يتهم بالقتل بل قتل فعلاً وإن كانت قضية نبي الله يوسف عليه السلام قد تحولت إلى شكل شبه سياسي بدون رغبة منه.

إلا أن نبي الله موسى عليه السلام عمل حقيقاً على قلب نظام حكم الفرعون الظالم و واجهه وطالبه بإصلاحات دستورية و اقتصادية و اجتماعية في نظامه السياسي تمثلت المطالب الدستورية في الكف عن ادعاء الألوهية والتكبر والعلو في الأرض و الاقتصادية عندما َقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ.

والاجتماعي في أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ نتيجة لما مارسه الفرعون من السياسة المشينة ضد الشعب والتي َجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.

ومع كل هذا لم يلق نبي الله موسى عليه السلام ما لاقاه نبي الله يوسف عليه السلام من السجن بل غاية ما حصل معه هو التهديد به فقال له الفرعون لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ

 

السؤال لماذا إذن؟

 لماذا يسجن نبي الله يوسف عليه السلام بمجرد الاتهام بجريمة ثبتت براءته منها والنقيض تماما هو ما يحصل مع نبي الله موسى عليه السلام.

ذلك أننا أمام منهجيتين مختلفتين في التغير منهج وطريقة نبي الله يوسف عليه السلام مختلف تماما عن منهج وطريقة نبي الله موسى عليه السلام لكن كلاهما غير على الرغم من الاختلاف في الوسائل والآليات فيما بينهما.

وعلنا نرجع هذا التباين الواضح لأسباب منها وأهمها طبيعة نظام الحكم في الدولة فهناك أنظمة قد تجدى معها محاولات الإصلاح وتؤتى ثمارها وهناك أنظمة لا يمكن معها غير الإسقاط الجذري لكل مكوناتها التي تعج بالفساد والظلم لدرجة العفونة ولنتبين هذا لابد من وضع خطوط عريضة على كلا التجربتين في التغيير لدى نظام حكم الفرعون ونظام حكم العزير أو الدولة في حالة نبي الله يوسف عليه السلام والدولة في حالة نبي الله موسى عليه السلام

فالدولة في حالة نبي لله يوسف عليه السلام

دولة مؤسسات لديها جهاز قضائي عادل بغض النظر الضعف الظاهر من الاعتقال الذي تعرض له إلا أن المحكمة قد برأته.  

نظام حكم يقبل المشاركة السياسية مادامت في مصلحة الوطن وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء).

فيوسف عليه السلام يطلب إدارة الخزائن بنفسه ويقدم مؤهلاتة للمنصب فيُقبل ويُطلب له الفصل الكامل بين السلطات العامة لدولة والمتمثلة فى وجود قضاء مستقل عن الإرادة السياسية وسلطة تنفيذية تظهر فى تحرر يوسف عليه السلام فى إدارته للأزمة.

 

الرغبة الحقيقية لدى نظام الحكم فى الإصلاح وتلاشى المعوقات من خلال البحث عن مخرج للأزمة التى تعصف بالبلاد 

أما الدولة فى حالة نبى الله موسى عليه السلام

فنلحظ ذلك الخلط والدمج الواضح لكل سلطات الدولة فى يد فرد لا مؤسسة بالمرة فأى سلطة أعلى من أن يقول رأس الدولة أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي ويقول أيضأ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ثم يبرهن لهم على ذلك متسائلاً وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ).

والسلطة القضائية لا وجود لها تماماً فهو المشرع وهو المنفذ وهو الحكم وهو الخِصم فنجده يقول لموسى لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ويقول لسحرة آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ لم نجد أي إشارة إلى محاكمة وجريمة وعقوبة مقررة لها وكل ما يُشعر بوجود قضاء ولو جائر لا وجود بالمرة.

انسداد سياسي كامل فمجرد التفكير في مشاركة الفرعون في اتخاذ القرار هو منازعة للإله والملك في ملكه المجتمع يعاني من فصل طبقي رهيب وانعدام للوحدة بين أفراد الوطن الواحد وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ

مؤسسات هشة وكلها تعمل وتتسابق على نفاق الفرعون وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ.

قوة جبارة وهائلة وآلة قمع ضخمة مع بطش مطلق بظلم بين

أسأل نفسى في هذه الزنزانة وبين الجدران الأربع مجمل هذا مادام القرآن قد قص هاتين القصتين والنموذجين في التغيير ومجرد تلاوتها عبادة على المستوى الفردي فإن التنقيب فيها والاهتداء بها عبادة على المستوى الجماعي لمجموع الأمة وبالأخص الذين يشغلهم هم هذه الأمة من دعاة الإصلاح فأي الطريقتين أو المنهجيتين يعمل أو بإمكاننا العمل بها في زماننا هذا وفى ظل ظروفنا التي نحياها وبعد هذه الجريمة في حق الأمة أن يستخف بإرادتها وتمارس أكبر عملية تزوير وتكميم للأفواه يمكن أن يراها إنسان أعيش الآن حال كتابتي هذه السطور ألم وقعها على نفسى فبأيهما نأخذ أطريقة موسى عليه السلام أم يوسف عليه السلام؟

 

قد تكون كلا الطريقتين في بعض الظروف والحالات هي الأنسب وتكون الآخرى غير مناسبة تماماً للحال الذى عليه الوضع المتطلب للعمل الإصلاحي فقد تكون العصى أو الآيات وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ التي منها الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ هي الأنسب والحل الأمثل وقد تكون المبادرة هي الأنسب أما عن العصى أو الآيات الضاغطة ومدى إمكانية توفرها لدى الحركة الإصلاحية فإن النظم الاستبدادية هيا التي توفرها لها وذلك بفساد إدارتها بمعنى أن الفرعون لما قال أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي أي أن المورد الاقتصادي الأول لشعب وهو المتمثل فى النهر ومصدر الحياة بالنسبة لهم يجرى من تحته ومن عنده ثم يضرب هذا النهر بالدم هذه ورقة ضغط اقتصادية على إدارة الدولة الاستبدادية التي تتباهى وتصدع رأس مواطنيها بالتنمية فأزمة نهر النيل على الأبواب بسبب فساد إدارتكم وكذا الأزمات الاقتصادية ابتداءُ من رغيف الخبر مروراً بالبطالة و انتهاء بأقل مشكلة اقتصادية تأخذ بصورة أو بأخرى صفة اجتماعية يرها الناس ويعانون من انعدام العدالة فيها فلابد لرواد وكوادر الحركة الإصلاحية أن يمارسوا دورهم باستثمار هذه الأوراق أحسن استثمار إما بالمبادرة لحلها أو المطالبة على لسان الشعب بالحل لها.

 

كانت هذه الخاطرة نتيجة التجول بين آيات القرآن في غرفة الحبس الانفرادي كتبت في السجن في أواخر ديسمبر 2010

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عطية أبو العلا، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
 40 بالمئة من الأمريكيين: إسرائيل تتعامل مع الفلسطينيين بأساليب نازية "دراسة استقصائية"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع