قول العلماء بعضهم في بعض والتداخل بين العلمي والخلُقي
د معتز الخطيب
عالجت في مقال الأسبوع الماضي -تحت عنوان "الشيخان الألباني والطحان وتخريج الحديث"– أهمية فهم السياق الذي يحيط بالتعليقات التي يضعها بعض العلماء على بعض الكتب؛ من جهة أنها قد تحيل إلى خصومات فكرية أو منهجية أو شخصية، وأن السمة "الشخصية" لهذه التعليقات تجعلها أكثر عرضة لأن يراجع كاتبها نفسه في مضمونها أو في لهجتها فيما بعد، وهو ما يوضح أهمية "التلقي النقدي" لمثل تلك التعليقات، وعدم عزلها عن سياقيها: سياق الخصومات الفكرية والشخصية، وأنها تعليقات ذات طبيعة شخصية وليست خطابًا للعموم.
وتبرز أهمية هذا التلقي النقدي في أمرين:
الأول: أنه يضبط الفرق بين نوازع التلصص والفضول التي قد تصيب بعض التلامذة والأتباع من جهة، ومحاولة فهم تطور الذات والوقوف على بعض رذائل النفس من قبل كاتب التعليق نفسه من جهة أخرى.
الثاني: أنه ينقل النقاش من إطار الخصومات والتحزب إلى العلم وأخلاقيات العلم، ومن ثم يوازن بين قيمتي: الاحترام الواجب للعلم وللعلماء معًا، والتعالي على سقطات بعضهم أو بعض الرذائل الشخصية التي هي من سمات البشرية، وتتفاوت بحسب تفاوتهم في تهذيب أنفسهم وكبح حظوظها من جهة، وبحسب تمكنهم في العلم وانفتاحهم على التعددية التي تنطوي عليها العلوم الدينية خاصة؛ حتى قيل: إن العلم معرفة الخلاف، وكلما ازداد العالم علمًا اتسعت الاحتمالات وتعددت مدارك المسائل لديه؛ دون أن يعني ذلك تساويها في حقه، ولكنه يدرك وجاهة بعضها على الأقل ويكون أكثر تقبلاً للخلاف.
ومن المفارقة، أن بعض فروع العلم نفسه تم توظيفها في الخصومات والصراعات بين التيارين المشار إليهما في مقال الأسبوع الماضي، أعني الأثريين من السلفيين الخارجين على التقليد من جهة، وعلماء الحديث المعاصرين المتمسكين بالتقليدَين الحديثي والفقهي من جهة أخرى. وأبرز هذه الفروع التي تم استثمارها في الصراع هو "علم الجَرح والتعديل"، والجرح هو "الطعن" في راوي الحديث بما يُخلّ بعدالته أو ضبطه جزئيًّا أو كليًّا، أما التعديل فهو تزكية راوي الحديث ووَزْنُه وفق موازين المحدثين بأنه ثقة وما شابه.
وعلم "الجرح والتعديل" مركزي في علوم الحديث؛ وخاصة في نقد الحديث لمعرفة صحيحه من ضعيفه، أي أنه مختص بوزن "رواة الحديث" الذين نقلوا المرويات خلال القرون الأولى، ولكن بعض مَن سموا أنفسهم بالأثريين من المعاصرين، سعوا إلى ما أسموه "إحياء" علم الجرح والتعديل، ووظفوه في نقد خصومهم، فخرجوا بـ"الجرح والتعديل" عن وظيفته أولاً، ولم يتقيدوا بتقاليده وشروطه ثانيًا، سواءٌ من جهة شروط ومؤهلات الناقد الذي يُجرِّح ويُعدِّل أم من جهة ضوابط الجرح والتعديل وأسسهما.
واجه علماء الحديث هنا مسائل إشكالية تتعلق بمعايير تقويم الجرح (النقد): هل يُقبل مفسرًا أو مجملاً؟ وممن؟ وماذا لو تعارضت أقوال النقاد في الراوي الواحد؟ وهل يُقبل كلام الأقران بعضهم في بعض؟ أي هل المعاصرة كافية لقبول النقد بحجة كون القرين أعرفَ بقرينه أم أنها سبب لرفض النقد؟
وكان "علم الجرح والتعديل" قد واجه سؤالاً حول مشروعيته بادئ الأمر؛ إذ إنه يندرج ضمن أصل أخلاقي عام، وهو حرمة الغيبة التي هي ذِكرُك أخاك بما يكره، ومن ثم قال الإمام تقي الدين بن دقيق العيد (702 هـ): "أعراض المسلمين حُفرة من حفر النار؛ وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدّثون والحكّام" أي القضاة، ثم جاء المؤرخ أبو ذر سبط ابن العجمي (884 هـ) فأضاف طائفة ثالثة وهي المؤرخون؛ "فإن أهل التاريخ ربما وضعوا أناسا أو رفعوا؛ إما لتعصب أو جهل، أو لمجرد اعتمادٍ على نَقل لا يوثق به، أو غير ذلك".
ولأجل تحرير هذا الإشكال، تَعرض بعض كبار أئمة الحديث -كالترمذي (279 هـ) والحاكم النيسابوري (405 هـ)- لسؤال مشروعية الجرح والتعديل، وأنه إنما استُثنيَ من أصل الغِيبة، لمصلحة شرعية، وهي تمييز ما يجب قبوله من السنن مما لا يجوز قبوله، وهذه مصلحة عامة أولى من مصلحة تعديل وتجريح الشهود في القضاء. وكان الإمام شُعبة بن الحَجاج -وهو أحد علماء الجرح والتعديل- يقول: "تعالوا حتى نغتاب في الله ساعة"، يعني تقويم رواة الحديث ونَقَلَته.
وقد واجه علماء الحديث هنا مسائل إشكالية تتعلق بمعايير تقويم الجرح (النقد): هل يُقبل مفسرًا أو مجملاً؟ وممن؟ وماذا لو تعارضت أقوال النقاد في الراوي الواحد؟ وهل يُقبل كلام الأقران بعضهم في بعض؟ أي هل المعاصرة كافية لقبول النقد بحجة كون القرين أعرفَ بقرينه أم أنها سبب لرفض النقد؛ بحجة التحاسد واختلاف المذهب؟
ما يُهمنا -في هذا المقال- هو كلام العلماء بعضهم في بعض؛ وهي مسألة لم تقتصر على رواة الحديث فقط، بل شملت مختلف المجالات والأزمنة، حتى أفرد الإمام ابن عبد البر الأندلسي (463 هـ) بابًا لحكم "قول العلماء بعضهم في بعض"، وعنه نقل غير واحد من العلماء، وكان العلامة اللغويّ ابن جِنِّيّ (392 هـ) قد خصص بابًا سماه "سقطات العلماء" أورد فيه روايات وأقوالاً عديدة في "قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض، وتكذيب بعضهم بعضا"، كما فهم منه غيرُ واحد كما يظهر من كتاب فخر الدين الرازي (606 هـ) وغيره.
كان وكيع بن الجرّاح يقول: "لا يكون الرجل عالمًا حتى يسمع ممن هو أَسَنّ منه، وممن هو دونه، وممن هو مثله"
أرى أن كلام نقاد الحديث في هذا المبحث مما يتعين الإفادة منه في وضع معايير نقدية للتعامل مع كلام العلماء بعضهم في بعض في كل عصر، خصوصًا أنه لم يَسلم أهلُ عصر من الأعصار من ذلك سوى الأنبياء والصديقين. قال الإمام الذهبي: "ولو شئت لسردتُ من ذلك كراريس". وهذه المسألة يختلط فيها العلم بأخلاقيات العلم، ويمتزج فيها الجانب العلمي بالجانب الشخصي أو البشري؛ فالنفوس لا تَعرى عن الحظوظ، والعلماء -كغيرهم- يتفاوتون في تهذيب أنفسهم. ولبيان هذا التداخل سأعرض ثلاث مسائل هنا:
المسألة الأولى: أنه لما كانت النفس يدخلها التحاسد، خصوصًا بين أبناء الصنعة الواحدة لما يَعرض بينهم من تنافس على المكانة، وازن المحدثون بين أصلين هنا: أصل طبَعي هو العوامل النفسية والتحاسد بين الأقران، وأصل علمي هو الرواية عن الأقران التي تساعد على كبح جِمَاح النفس وتجاوز العوامل النفسية التي تنشأ عادة بين الأقران، بل إن المحدثين قد جعلوا من مُلَح علمهم نوعًا خاصًّا من الرواية، وهو تبادل الرواية بين الأقران؛ بأن يروي كل واحد منهم عن صاحبه وبالعكس، وسموه "المُدَبَّج".ولأجل هذا الأصل الطبعي -أعني رذيلة التحاسد بين الأقران- افتتح ابن عبد البر باب "قول العلماء بعضهم في بعض" بحديث أن الحسد والبغضاء داءُ الأمم، وقد دبّ في هذه الأمة أيضًا، وروى أن العالم كان فيما مضى "إذا لقي مَن هو فوقه في العلم كان ذلك يومَ غنيمة، وإذا لقي مَن هو مثله ذاكَرَه، وإذا لقي من هو دونه لم يَزْهُ عليه، حتى كان هذا الزمان فصار الرجل يعيب من هو فوقه؛ ابتغاء أن ينقطع منه حتى يرى الناس أنه ليس به حاجة إليه، ولا يُذاكر من هو مثله ويزهو على من هو دونه، فهلك الناس". وكان وكيع بن الجرّاح يقول: "لا يكون الرجل عالمًا حتى يسمع ممن هو أَسَنّ منه، وممن هو دونه، وممن هو مثله".
المسألة الثانية: أن كلام الأقران بعضهم في بعض، يتعارض فيه أصلان: الأول: أن القرب يقتضي مزيد معرفة؛ نظرًا لأثر الصحبة والاطلاع المباشر. والثاني: أن "المعاصرة حجاب"، وهي العبارة التي صاغها الأدباء تبعًا للمحدثين. وبسبب تعارض هذين الأصلين صار كلام الأقران بعضهم في بعض محل إشكال، فاحتاج إلى الضبط للتمييز بين ما ينتمي إلى الأصل الأول وما ينتمي إلى الأصل الثاني.
المسألة الثالثة: أنه نظرًا للأصول السابقة المتعارضة، وهي أصول تجمع بين العلمي والخُلقي ويتداخل فيها العلم بأخلاقيات العلم، احتيج إلى وضع المعايير الضابطة لعدم الاسترسال سواءٌ في إطلاق القول بقبول كلام الناقد لمجرد المعاصرة أو القرب أو رده مطلقًا بسببها؛ ولاسيما أن أقوال العلماء بهذا الخصوص قد تنوعت، فبعضهم أطلق القول برد كلام الأقران بعضهم في بعض، وهو ظاهر ما أورده ابن عبد البر في الباب المشار إليه سابقًا. من ذلك -مثلا- ما جاء عن ابن عباس أنه قال: "استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض؛ فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايرا من التيوس في زروبها"، وقول مالك بن دينار: "يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض؛ فَلَهُم أشد تحاسدا من التيوس". وكان الإمام جلال الدين السيوطي (911 هـ) قد أطلق القول هنا فقال: "وقد تَقَرر في علم الحديث أنَّ كلام الأقران في بعضهم لا يَقدح".
ولكن هذا الإطلاق غير جيد؛ لثلاثة أمور:
الأول: أن السلف ومحدثي الأمصار سبق من بعضهم في بعض كلامٌ كثير حتى إن ثمة من اعتنى بسرد أمثلة ذلك في مجالات مختلفة، كما فعل ابن عبد البر والسبكي مثلا (في العلوم الشرعية)، وكما فعل ابن جني (في اللغة والأدب)، وكتبُ التراجم حافلة بالأمثلة أيضًا. فلو "كان كلُّ من ادُّعي عليه مذهبٌ من المذاهب الرديئة ثَبَت عليه ما ادُّعي به وسقطت عدالته وبطلت شهادته بذلك: لَلَزم تَرْك أكثر محدثي الأمصار"، كما قال الإمام ابن جرير الطبري (ت. 310 هـ)، أو "لاتّسع الخَرْق" كما قال الإمام الذهبي.
الثاني: أن كلام الناقدين تتنوع موارده
– فمنه ما خرج في حال الغضب.
– ومنه ما حَمل عليه الحسد، كما قال ابن عباس ومالك بن دينار وغيرهما.
– ومنه ما صدر على جهة التأويل "مما لا يَلزم المقولَ فيه ما قاله القائل فيه" كما قال ابن عبد البر.بل وقع النزاع بين الصحابة وحَمَل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا، ومثل ذلك كله لا يَلزم التقليدُ في شيء منه؛ فإنه ليس من مواضع التأسي، ومن المؤسف أن النشاط الحديثي الذي تسبب به الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى – قبل عقود الزمن وسمي "نهضة حديثية"، تسبب أيضًا في إحياء خصومات ونشوء قاموس من الجرح والطعن في كثير من العلماء السابقين واللاحقين، ثم جاء بعض الأتباع فجعلوا ذلك موضوعًا للتأسي!
الثالث: أن "سبيل الأدب" كما قال الإمام تاج الدين السبكي يَفرض ألا ننظر إلى كلام بعض الأقران في بعض؛ إلا إذا أتى ببرهان واضح، ومع ذلك فإن التأويل وتحسين الظن مطلوبٌ هنا، و"لا يزال طالب العلم نبيلاً؛ حتى يخوض فيما جرى بين الماضين".وسبيل الأدب هنا -كما ترى- لا ينفصل فيه العلمي عن الخلقي، وهو مسلك وعر؛ ولذلك فالصواب التفصيل والتمحيص في كلام الأقران بعضهم في بعض؛ لرعاية الأصول المتعارضة المشار إليها سابقًا، وخاصة أصْل أن القرب يعمّق المعرفة والخبرة بالشخص، وأن القرب أو المعاصَرة حجاب، وفض الاشتباك بين الغيبة المحرمة والغيبة لمصلحة شرعية أو علمية لا شخصية.
وكان ابن عبد البر من أوائل من حاول أن يضبط المسألة من خلال التمييز بين حالين:
الأول: من اشتُهرت وثبتت عدالته وإمامته، فمثل هذا لا يُلتفت فيه إلى قول أحد ما لم يكن هناك بينة عادلة من مثل البينات التي تثبت في الشهادات التي يعمل بها القضاة، ومثل هذا يجب تصديقه فيما قاله؛ لبراءته من الغل والحسد والعداوة والمنافسة.
الثاني: من لم تثبت إمامته ولا عُرفت عدالته، فهذا يُنظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويُجتَهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه.
ولكن تاج الدين السبكي لم يَرتض كلام ابن عبد البر؛ لأن اشتراط البينة أمرٌ مسلّم به، بل لا بد من بحث القرائن التي تحيط بقول الناقد في حق من ثبتت عدالته؛ إذ لا يُقبل قولُ من شهدت القرائن بأنه متحامل عليه إما لتعصب مذهبي أو غيره. ومن ثم فقاعدة المحدثين في أن "الجرح مُقَدَّم على التعديل" ليست مطلقة، وقاعدة أن "كلام النظير في النظير مردود" تحتاج أيضًا إلى تقييد؛ إذ إن المسألة مدارها على بحث القرائن التي يشهد العقل بأن مثلها حامل على الوقيعة في الذي جَرَحه، كالتعصب المذهبي أو المنافسة الدنيوية التي تكون بين النظراء، وغير ذلك.
وربما كان الإمام الناقد الذهبي من أكثر الناس إشارة إلى قاعدة "كلام الأقران بعضهم في بعضهم"، وقد اختلفت عباراته في ذلك؛ ففي بعضها أطلق القول بأن كلام الأقران ينبغي أن "يُطوى ولا يُروى"، و أن "طيه أولى من بَثه"، وفي بعضها قال: إنه ينبغي إهدار أكثر كلام الأقران؛ لأن كلام أئمة الجرح والتعديل قد يطرأ عليه "الغلط النادر"، أو قد يأتي "بنَفَس حادٍّ فيمن بينهم وبينه شحناء وإحنة"، وفي بعضها قرر الذهبي أن كلام الأقران يجب "يُتَأمل ويُتأنى فيه"، وفي بعضها علقه بمعايير كأن "يُعامَل الرجل بالعدل والقسط"، أو "أن يجد له متابعًا" أو أن يتبرهن لنا أنه "بهوى وعصبية"، أو أن يتفق المتعاصرون على جرح شيخ، أو "إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد"، أو إذا ثبت أن بينهما منافسة، أو بهوى؛ لأنه "قلَّ من برز في الإمامة ورَدَّ على من خالفه إلا عودي".
ويمكن صياغة المعايير الآتية التي تدور على أن يتفقد المرء -عند الجرح- القرائن بقول الجارح فيمن ثبتت عدالته وإمامته في العلم:
مضمون الجرح نفسه، وحال الجارح من جهة العلم بالأحكام الشرعية؛ فرُب جاهل ظن الحلال حراما فجرّح به. قال ابن حجر: "عاب جماعة من الورعين جماعةً دخلوا في أمر الدنيا فضعفوهم لذلك، ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط"، بل ثمة "مَن ضعّف بعض الرواة بأمرٍ يكون الحمل فيه على غيره، أو للتحامل بين الأقران، وأشد من ذلك تضعيف من ضَعف من هو أوثق منه أو أعلى قدرًا أو أعرَف بالحديث. فكل هذا لا يُعتبر به".
حال العقائد واختلافها بين الجارح والمجروح. لهذا قال الفقيه الشافعي الرافعي: "وينبغي أن يكون المزكون بُرَآء من الشحناء والعصبية في المذهب"، وقال الحافظ ابن حجر: "قد وقع من جماعة الطعن في جماعة بسبب اختلافهم في العقائد؛ فينبغي التنبه لذلك وعدم الاعتداد به إلا بحق". ومن ذلك: الخلاف الواقع بين كثير من الصوفية وأصحاب الحديث، أو بين أصحاب الحديث وأصحاب الرأي. وقد نبه إلى مثل هذا عددٌ من العلماء، منهم ابن دقيق العيد والسبكي وابن حجر وغيرهم.
المنافسات الدنيوية؛ قال السبكي: "وهذا في المتأخرين أكثر منه في المتقدمين"، وجعل ابن حجر هذا ملحقًا بخلاف العقائد وسماه "المنافسة في المراتب".
وكان الشيخ الألباني قد سئل عن ضابط قبول "كلام الأقران بعضهم في بعض"، فأداره على "المعاصرة" التي تتسبب في عداء شخصي؛ فإذا جاء في أعصر لاحقة من طعن في الراوي أيضًا، فهذا يُزيح شبهة العداء لأسباب شخصية، و"يرجِّح أن الطعن ليس بسبب المعاصرة بل بسبب أن المطعون فيه يستحق الطعن"، و"يتأكّد الأمر فيما إذا تتابع علماء الحديث على تأييد ذلك الطعن على مر العصور".
ومن العجيب أن الألباني مثّل لذلك بما زعم أنه "اتفاق جماهير علماء الحديث على تضعيف الإمام أبي حنيفة رحمه الله"، مما يدفع تهمة الطعن للمعاصرة، وهذا نموذج من تحيز الألباني ضد الحنفية ممن نشأت -بسببه- بينه وبينهم خصومات كما أوضحت في مقال الأسبوع الماضي، بل إن إدارة المسألة -برمتها- على "المعاصرة" فقط هو قصور وتقصير كما هو واضح!
وهذا الذهبي -مثلا- صنف كتابًا خصصه لضعفاء الرواة سماه "ميزان الاعتدال"، وقال: "كتبت في مصنفي الميزان عددا كثيرا من الثقات الذين احتج البخاري أو مسلم أو غيرهما بهم؛ لكون الرجل منهم قد دُوّن اسمه في مصنفات الجرح. وما أوردتهم لضعف فيهم عندي؛ بل ليُعرف ذلك". وقد أشاد تلميذه تاج الدين السبكي بهذا المسلك، ومن ثم تجب مراعاة هذا الشرط عند قراءة كتاب الذهبي.
ومع ذلك فإن الذهبي قال في مقدمة الميزان: "لا أذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين في الفروع أحداً؛ لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم في النفوس مثل أبي حنيفة والشافعي والبخاري؛ فإن ذكرت أحدا منهم، فأذكره على الإنصاف، وما يَضره ذلك عند الله ولا عند الناس؛ إذ إنما يضر الإنسانَ الكذبُ؛ فإنه خيانة وجناية، والمرء المسلم يُطبع على كل شيء، إلا الخيانة والكذب"، فتأمل صنيع الناقد الذهبي وكلام الألباني في أبي حنيفة رضي الله عنه!
فكلام الأقران بعضهم في بعض -كما ترى- مسألة شديدة التعقيد، وإنما جرني إليها مقالي السابق الذي خصصته للخصومة بين الألباني والطحان، فإني وجدت كلام الأقران مناسبة تتصل بالموضوع، وبحاجة إلى تحرير علميّ لتكون معيارًا للنظر في كلام العلماء بعضهم في بعض من جهة، ولإثبات تداخل الجانب العلمي والجانب الخُلقي في تراثنا من جهة ثانية، ولبيان سطحية ما يسود في بعض الأكاديميات الغربية من جهة ثالثة؛ إذ يعتبرون مجرد القرب من موضوع البحث منافيًا للموضوعية، والله أعلم.
المصدر : الجزيرة