تمهيد
يعتبر الكتاب ( فقه الميزان) ط/1، دار النداء، 2018، أكثر كتب الدكتور القَرەداغي تعلقاً بالجانب الفكري، حيث إن غالبية كتبه جاءت وفقاً لإختصاصه العلمي "فقيه المال والإقتصاد"، شغله تخصصه العلمي الدقيق وهمومه المتعددة – والتي هموم الأمة-عن الكتابة في الصراعات الفكرية المباشرة، سواء التدافع داخل الدائرة الإسلامية، أو الصراع بينها وبين خارجها، صحيح أن الميزان وإستعمالاته لا تخلو عنه كتب التراث، إبتداءً بالإمام الغزالي والشعراني، ومن المعاصرين سيدقطب و الإمام الحكيم سعيد النورسي، كما ان الدكتور محمد عبدالله دراز كتب كتاباً مستقلاً بعنوان " الميزان بين السنة والبدعة"، إلاّ أنّ كتاب الشيخ القرەداغي من حيث منهج الكتابة والجمع والشمولية في المسائل المندرجة تحته، هو كتاب جديد، بمنهج علمي رصين، معتمداً على علمي التفسير وأصول الفقه.
يتألف الكتاب من ثلاثة أبواب، في سبعة فصول، والبابان الثاني والثالث خصصهما المؤلف للجانب التطبيقي، وذلك لمساعدة القاريء على جعل فقه الميزان منهجاً في التعامل مع نصوص الوحي الإلهي، يتجاوز كتاباً واحداً كتب عنه، مع مقدمة وخاتمة.
أساس الكتاب
يؤسس الأستاذ المؤلف كتابه على الآية القرآنية الكريمة، ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد:25].
يبدأ بسؤال ويقول في المقدمة أن الكتاب معروف وهو القرآن الكريم، لكن ماهو الميزان الذي أنزله الله تعالى بحيث يكون له أهمية الإشارة إليه وأنه نزل مع القرآن؟
يبدو بأن البحث كما يصرح الأستاذ عن مقصد الله سبحانه من الميزان ومحاولة العثور على منهج تطبيقه هو الدافع الأساس وراء تأليف الكتاب، وقد إستغرق إكمال الفكرة ربع قرن من الزمن، لأنه بحث عن ميزان الشرع المنزل مع الكتاب، وأنه مبثوث في ثنايا الكتاب نفسه، وهذا دليل على صعوبة المهمة، وبحاجة إلى دقة في النظر، لكنه ضروري للغاية لأنه ظفر بموازين الله الذي أمر بإقامتها لتستقيم الحياة، ويكون العدل والقسط في جميع مجالات الحياة، ولم ينس الإشارة إلى كتب التراث في الباب، لكنه سجل ما يتميّز به كتابه عن الكتب الأخرى.
وقد أصل كذلك للمنهج من خلال السنة النبوية، وممارسة الخلفاء الراشدين الأربعة، مع أنّ وضوح القرآن كافٍ، لكنها عادة العلماء خاصة من أهل الفقه والعلوم الشرعية أنهم يسترسلون بطريقة منهجية في الكتاب والسنة والصحابة من أجل إعطاء المزيد من التوضيح ودلائل الرسوخ لما يقولون به، وهو منهج يعطي المزيد من الإطمئنان للباحث و نوعٍ مُعَيَّن من القرّاء.
أنواع الموازين
أسهب الأستاذ علي القرداغي في شرح وتوضيح معاني الميزان في القرآن والسنة، وما ذهب إليه المفسرون، فهو يأتي بمعاني "العدل والحكمة والعقل" وقد يأتي "بالميزان المادي المعروف" وبمعنى "الكتاب".
- العدل: فقد فسر جماهير المفسرين الميزان في سورة الحديد بالعدل،، ويقول :( وأنزلنا الكتاب والعدل ليقوم الناس بالقسط، أي: العدل).
- الحكمة، وهو ماقال به الماتريدي، فيكون الكتاب به تحفظ حدود الأفعال والأقوال، أو أن تكون الحكمة ما أودع في الكتاب من معاني.
- العقل، أو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة.
يؤشر أستاذنا إلى نوعين من الميزان في الحياة، وهما " معنوي" و "مادي"، ولكل مجاله، والحق أنّ الخلل الكبير هو في الميزان المعنوي، وتصحيح مساره هو مهمة العلوم والأفكار، الميزان المادي التعامل معه يكون سهلاً، فيكفي صنع آلة الوزن مع شيء من التربية للوازن والتلويح بالقانون والعقوبات لتجنب الغش، أما الميزان المعنوي ففيه الكارثة والبلاء، إذا اختل يختل معه كل شيء، من التصورات إبتداءً والتي بدورها تخلق المشاكل كلها في الحياة، والتصور والفهم الأعوج ينتجان الممارسة الخاطئة والأحكام الجائرة، وهنا يكون الظلم، وهنا تشتد الحاجة إلى ميزان عادل لوضع الأمور في نصابه، وهذه مهمة كتاب فقه الميزان.
- والميزان المادي المعروف، وهو الموازين المعروفة التي بها تستوفى حقوق الناس وتحفظ أموالهم، وكذلك ميزان يوم القيامة التي هي حق.
- اما الميزان المعنوي، فهو ما أنزله الله على قلوب الرجال كما يقول ابن تيمية، وأنزله مع القرآن كما يقول المؤلف، وهو مايقول به سيد قطب في تفسير آية الميزان والحديد، فكل الرسالات جاءت لتقر في الأرض وفي حياة الناس ميزاناً ثابتاً ترجع إليه البشرية لتقويم الاعمال والأحداث والأشياء.
وبعد أن يذكر المؤلف رأي العلماء من المفسرين والمجتهدين يقول: ( معرفة الموازين التي بها توزن أبواب الإسلام" عقيدة وشريعة ومنهج حياة" والتعامل مع كل باب حسب ميزانه الخاص)، كأنه يميل إلى الميزان المعنوي والعلمي أكثر من المعاني الأخرى، وهو محق لأن الحديث جاري عن الاحكام والتصورات الدينية وليس شيئاً آخرـ غاية المؤلف ليست هي الموازين المادية وإنما تلك المتعلقة بأمور الدين من العقيدة والشريعة وغيرهما مما يشمل الدين الإسلامي، لأنه من غير المعقول أن ينزل الله الميزان ويجعله أساساً من أسس بناء الكون من أجل وزن التمر والفواكه والمأكولات، او الذهب والفضة.
أركان فقه الميزان
مع توضيح الفرق بين فقه الميزان وفقه الأولويات وبينه وبين فقه مقاصد الشريعة، يقرر أن لفقه الميزان أركان لا بد من حضورها، لتكتمل الصورة وبغيابها تختل، فلابد من تحديد الأركان التي يقوم عليها، ورسم الإطار الذي يتحرك خلاله، يحدد الأستاذ أركان فقه الميزان ب:-
- الوازن: وهو الشخص الذي يقوم بعملية هذه الإجراءات، من المفتي والباحث والمجتهد، أو القائد السياسي والدعوي في الميدان.
- الموزون: الشيء المراد وزنه.
- الميزان: المعيار الذي يوزن به الأحكام والتصرفات، لأن الموازين العلمية المتحكمة في هذا الكون ليست واحدة.
- الأوزان: أن يعطى لكل مادة وزنها الخاص وقوتها وثقلها، لأن وزن كل شيء بغير ميزانه الخاص يؤدي إلى الظلم.
- القيام بالموازنة، أو الموازنات، بين النصوص والأحكام وأبواب الشريعة.
وهنا يظهر أكثر من غيره أن المؤلف يميل إلى الميزان المعنوي أكثر من غيره في هذا الكتاب لأن الدين وأحكامه ومجالاته ليست بأمور مادية تلزم باليد وتمسك، بل هي قيَم معنوية، آثارها تتجلى للعيان في الممارسات.
موازين في جميع أبوب الدين
و من هنا ومن أجل أن يكون الفهم للإسلام واضحاً، معتدلاً، متفقاً مع ما يرمي إليه الله – سبحانه وتعالى-، ومن اجل تجنب الإفراط والتفريط في الفهم ومعالجتهما عند وجودهما، لابد من إستحصال موازين أبواب الشريعة، وبناءً عليه، ذكر الشيخ علي القرداغي، موازين جميع القضايا الإسلامية، من :
- موزاين التصورات والعقائد والعبادات، ما يتعلق بالله وصفاته والفرق بينه وبين المخلوق، ميزان القدر والتكليف وكيفية التناسب والتوازن بينها، الدعوة والتكفير والتوازن بين الاخذ بالاسباب والتوكل على الله.
- موازين تتعلق بالجانب العملي، والتعامل الاقتصادي والمعاملات، في التعامل من الأهمية التمييز بين المعايير الحاكمة في الحرب وتلك الحاكمة في السلم في التعامل مع الآخرين، وميزان الأقلية والأكثرية ومسائل إقتصادية.
- موازين في فهم الأدلة، في فهم القرآن والسنة، كيفية ترتيب الأدلة.
ويبقى النظرة الشفعية من أهم المفاهيم التي تطرق اليها الأستاذ القرداغي – حفظه الله
ولخطورة سورة البراءة وما لحق بها في تاريخ الفقه والتفسير من المفاهيم غير الثابتة، خصص الأستاذ المؤلف باباً خاصاً لها.
فوائد الكتاب
- للفهم الوسطي المعتدل، أسس يقوم عليها ومناهج توصل إليه، إن كتاب فقه الميزان يأتي من ضمن الجهود العلمية التجديدية في الجانب المنهجي في فهم الدين والتعامل مع النصوص، مثل كتب فقه الموازنات والأولويات للشيخ يوسف القرضاوي، ومنهجية التعامل مع التصرفات النبوية بين النبوة والبشرية كما قام بذلك الأستاذ سعدالدين العثماني، فهو منهاج لضبط العقل والفكر أثناء التعامل مع النص الديني، خاصة عندما يظهر للقاريء الباحث العالم وجود تناقض بينها، وهي ليست بتناقض، خاصة عند الخلط بين البيئات والظروف والأحوال المختلفة والمتناقضة، حيث وجود حالة -الحرب- تقتضي غياب -السلم-، فلا يمكن تطبيق معايير الحرب على حالة السلم، وقد حدث هذا كثيراً عند الجماعات الإسلامية المتطرفة المغالية والتي انحرفت عن الفهم الصحيح للدين، وكذلك الخلط بين الداعي بمعايير معينة والقاضي بصفات وصلاحيات محددة.
- فقه الميزان ليس كتاباً في شرح الإسلام، و إنما هو منهج في فهم الإسلام، لابد أن يقرأ كلياً كمنهج وليس مجزءاً، فهو كما ورد في المقدمة من كتب الأصول وليس من كتب الفروع، هذا يتطلب تجنب الدخول في كل شيء، وعدم النزول في درابين الفكر والمعرفة العامة والكتاب موفق في الإلتزام بالقضايا الأساسية، وعادة كتب الأصول تتمتع بالمتانة والكثافة من دون التفريعات الكثيرة، بل يضع قواعد في الفهم ويترك الباحث والقاريء أن يطبقه على أضرابه، يؤدي الكتاب دور الأستاذ ويصنع التلاميذ، وهذه من صفات الكتب الأساسية من هذا النوع، أن يبقى رافداً، لكل باحث وكاتب ومفكر يكتب في المجال وينهل من بحر الأفكار الواردة فيه، كما هو كتاب "خصائص التصور الإسلامي" سيد قطب، الذي أصبح مصدراً لا غنى عنه لكل من يكتب في أي مجال من مجالات الفكر الإسلامي وعند الوصول الى الخصائص يعود إلى سيد قطب.
ملاحظة
هناك عدد من المسائل يمكن ملاحظتها في الكتاب المفيد جداً، نذكر، أنه ومن أجل أن يكتسب الصلابة والمتانة، فهو يتمتع بخصائص المؤهلة "للتقعيد"، بعض من المفاهيم الواردة في الكتاب يمكن تحويلها إلى قاعدة شبيهة بالقواعد الأصولية المحكمة وبصياغة مجردة، ونظرة الشفع من هذه المسائل، أن يتحول إلى قاعدة وتكتب المسائل التي تندرج تحتها، وهي موجودة تلك المسائل ضمن الكتاب، كما حصل مع مسائل ومفاهيم فكرية ثقافية أخلاقية في "معلمة الشيخ زايد".
ختاماً
الاسطر السابقة هي مجرد تعريف بالكتاب، وليست قرأءة او تقييم له، نأمل أن يأتي في رسالة منفردة من سلسلة الفكر الوسطي، إن كتاب فقه الميزان يستحق القراءة أكثر من مرة، فهو منهج، والمنهج لابد من إمتلاكه حتى يكون حاضراً دائما في الذهن وأن لا يتخلف، ويستحق أن يتحول إلى منهج تدريسي لأهل الإختصاص في مجال الفكر الإسلامي في الكليات والمعاهد، وكذلك للحركة الإسلامية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين….