نزل القرآن الكريم هداية للناس كلهم، فهو ليس كتاباً خاصاً بالمسلمين، بل جاء للناس كافّة، وهو رحمة للعالمين، نزل لإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولإرشادهم إلى طريق النجاح الدنيوي وسبيل الفلاح الأخروي، فمن خصائص القرآن الكريم أنّه كتابُ هدايةٍ للعالمين:
1- قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النَّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة: 257).
2- وقال تعالى: (الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم: 1).
وقد تحقق هذا حينما اهتدى العربُ بهداه، فخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن التخلّف إلى قمة الحضارة والمدنية، ومن الذل والتبعية إلى السيادة والعالمية، ثم أوصلوا هدايته إلى العالم مِنْ حولهم بأمانةٍ وتضحيةٍ وإخلاصٍ، فإذا بالعالم يُكسَى بحلّة العزة والرِّفعة والبهاءِ والجمال، وأثبتَ واقعُ المسلمينَ عبرَ الزمن أنهم أصبحوا بتمسّكهم بالقرآن أرقى الأمم، وبتخلّفهم عنه، وأخذهم بما عند الأمم من ضلال أخس الأمم. (إعجاز القران الكريم، د. محمد صادق درويش ص 46).
3- وقال تعالى: (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) (الإسراء: 9).
يؤكّد الله أنّ هذا القرآن أقومُ من أيِّ هدايةٍ يراها البشر، ولم يستطع أيُّ باحث موضوعي أن يجدَ خللاً في تشريع القرآن، أو أن يجدَ في التشريع الوضعي ما يصل إلى تشريع القرآن فضلاً عن أن يتفوّق عليه، وهذا يوجِبُ على العاقل استدامة القرآن، وملازمة العمل به.
إنّ ما في القرآن من هداية وتشريع صالحٌ لكلّ زمان ومكان لا تَبْطُلُ قيمه، بل لا يَصْلُحُ إلا هو، مهما اختلفت العصور، وتنوعت الحضارات، إنّه تسامى على كل قانون عرفته الأممُ قديماً وحديثاً، حتى أقرت المجامع القانونية الدولية الفقه الإسلامي مصدراً أساسياً تُقْتَبَسُ منه القوانين، وإنّ القوانين الحديثة في تطورها تتسامى لتقترب من تشريع القرآن. (إعجاز القران الكريم، د. محمد صادق درويش ص 47).
وكيف لا يكونُ كذلك، وهو تشريعٌ ربانيٌّ شاملٌ لجميع النواحي، وكافلٌ لإحقاق الحق، وصيانة مصالح الناس في جميع شؤونهم: المالية والاجتماعية والأسرية والدولية، في حين أنه لم يوجدْ إلى الآن تشريع شامل أو عادل مع ما مرّ على الإنسانية من تجارب وخبراتٍ، حتى إن الله تحدّى العالمَ أن يأتوا بمثل القرآن، والمثلية تشمل جميعَ جوانب القرآن سواء الألفاظ والمعاني، وإذا عجزوا عما هو من جنس ما يستطيعونه، ويتفوقون فيه، وهو نظم القرآن، فهم أشدُّ عجزاً عن تشريع القرآن وهدايته، لما يحتاجه إلى علم محيط بكل شيء، وليس هذا إلا الله عز وجل.
4- وقال تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50).
استنكر الله تعالى على من أعرض عن تشريعه، ولجأ إلى تشريع الناس، وما هذا إلا لأنه لا تشريع أحسن منه، ولا هداية مثله، فكيف يترك إلى ما دونه؟ (إعجاز القران الكريم، د. محمد صادق درويش ص 48).
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)، ينكر الله تعالى على مَنْ خرجَ عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كلِّ شرّ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات؛ التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهلُ الجاهلية يحكمون به الضلالات والجهالات بما يضعونها بآرائهم وأهوائهم. (وَمَنْ) أي: ومَنْ أعدلُ من الله في (أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، لمن عقل عن الله شرعه، وآمن به وأيقن، وعلم أنَّ الله أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ بخلقه من الوالدة بولدها، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء.
5- قال الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (المائدة: 3)، يحثّنا الله تعالى في هذه الآية على التمسّك بهديه من خلال مدحه دينه بالكمال والتمام، والنفوس تتطلّع إلى ما كان كذلك. (تفسير ابن كثير 2/13).
هذه أكبرُ نعم الله تعالى عن هذه الأمة، حيث أكملَ تعالى لهم دينَهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبيّ غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلالَ إلاّ ما أحله، ولا حرام إلاّ ما حرّمه، ولا دينَ إلاّ ما شرعه، وكلّ شيءٍ أخبرَ به فهو حقٌّ وصدقٌ لا كذب فيه ولا خلف.. فلمّا أكملَ لهم الدينَ، تمّت عليهم النعمة، ولهذا قال تعالى: أي: فارضوه أنتم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)، فإنّه الدين الذي أحبه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرفَ كتبه. (إعجاز القران الكريم، د. محمد صادق درويش ص 49).
وكمالُ دينه سبحانه وتمامه بكمال مصدره الأصل القرآن الكريم؛ ولهذا لا يملك من يتلو القرآن، ويتدبر معانيه، إلا أن يخرّ ساجداً لعظمة منزله، قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر: 21).
_______________________
1- إعجاز القران الكريم، د. محمد صادق درويش.
2- تفسير القرآن العظيم، عماد الدين ابن كثير الدمشقي.
3- الإيمان بالقرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2010م.