موسى والعبد الصالح
وأما إطلاق اسم "الخضر" على العبد الصالح الذي ورد في القرآن، وانه حي دائما، وربطه في أخبار القدسين، ووصفه بصفات غريبة، مما لم يرد له أي خبر في المصحف الحكيم، فعندنا ليس بشيء.
فقصة موسى والعبد الصالح من أخطر القصص المذكورة في القرآن إذا أسيئ فهمها. لأنها توقع الإنسان في الأوهام والفوضة الفكرية والاجتماعية، كما فهمها بعض المفسرين والمتصوفين، حيث استنتجوا منها علما اطلقوا عليه مصطلح "العلم الدنّي" من قوله تعالى {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} وأن هذا العبد الصالح (الذي يسمونه الخضر) ولي من الأولياء كان صاحب العلم الَّدُنِّي، وهو صُوفيّ ولكن درجته فوق درجة النبي لأنه يدرس الأنبياء وله صلة مباشرة مع الله، وصلة الأنبياء هي بواسطة الملائكة صلة غير مباشرة، والولي له صلة مباشرة مع الله وله العصمة، بخلاف الأنبياء فإنهم غير معصومين عن الذنوب والأخطاء، والولي وصل الى الحقيقة، والحقيقة او الطريقة فوق الشريعة. تفسير مرعب ومضحك في نفس الوقت.
القصة تعطينا درسا في الفرق بين تشريعات البشرية الإنسانية لتحقيق العدل الإنساني، وبين التشريعات الإلهية لتحقيق العدل الإلهي. فالإنسان وضع قوانين التشريع للأفراد لينظم حياتهم بعضهم مع البعض. والمجتمعات تقوم على التشريعات، وهذه التشريعات (الدستور) شمولية عامة، ولكن يمكن ان لا تغظ علاقة كل فرد على حده مع الآخر.
فموسى (ع) في هذه القصة كرسول يمثل التشريع والقانون، لأنه يحمل رسالة تشريعية. أرشده الله الى العبد الصالح ليعلمه أشياء في ظاهرها مخالفة للفطرة والشريعة وفي حقيقتها ذات حكمة الهية مستورة للناس، لا يعلمها الا من كان له خبرة بالحادثة من قبل الوقوع.
هذه القصة تشبه سياحة رئيس الوزراء ورئيس الاستخبارات الى مكان يعرفه رئيس الاستخبارات بتفاصيله ولكن رئيس الوزراء غافل عنها. رئيس الاستخبارات يفعل أشياء مخالفة للقانون ظاهرا لأسباب هو يعرفها، ورئيس الوزراء يحتج عليه وينكره لمخالفته للقانون. وأخيراً يشرح له حقيقة القضية وخلفيتها.
{فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا * قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} (كهف 68)، فعدم صبر الإنسان على شيء لا يعرفه، شيء طبيعي، لقلة خبرته بالحادثة، الإنسان عدو ما جهله، {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} علاقة الطالب مع الأستاذ تعتمد على الصبر والطاعة { (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)} موسى (ع) احتج على خرق السفينة واستنكر خرقها لأنه يخالف الشرائع. وهو كرسول لا يستطيع ولا يمكن ان يقبل ذلك، ولأنه يمثل القضاء والقانون. فالعدل الاجتماعي كلي لا يقبل الاستثناءات. أما العبد الصالح الذي يمثل العدالة الإلهية المطلقة في الجزئيات، فقد أفسد السفينة لإنقاذها من الحجز، وهو صاحب خبرة بما في الطريق. ولكن القوانين والشرائع الوضعية لا تأخذه بعين الاعتبار لجهلها به. مثلا: كأن يعلم أحد ان في الطريق عصابة إرهابية يغتصبون الناس والأموال والسيارات، ويعرف أن جاره سيذهب الى العمل من نفس الطريق أراد أن يعلمه ولكن لم يجده، ثم قام بتخريب عجلة سيارة الجيران ليعوقه من السفر. فظاهر عمله غير قانوني، يستوجب العقاب، وفي حقيقة الأمر أنقظ جاره {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)} لقد استنكر موسى قتل النفس بغير النفس. لأنه يمثل القانون. كل الشرائع السماوية وكل الشرائع الأرضية جاءت بتحريمه كقانون كلي. أما العبد الصالح فقد قتله، لأن الغلام الذي يسيء بالوالدين المؤمنين ويَطْغى عليهم يستوجب ذلك في شريعة موسى. وعبد الصالح كان يعرف بطغيانه، ويعرف أن جزاء عاق الوالدين في شريعة موسى هو الإعدام. والغلام ليس طفل صغير كما فهمه بعض المفسرين. بل الذي بلغ الغلمة اي سن الرشد وما فوق. (فبشرناه بغلام اي سيكون له ولد وسيبلغ فوق سن الرشد، وهو يحيى وقد بلغ)
أكثر المفسرين لم يقفوا بأن عاق الوالدين في شريعة موسى يقتل. (1) ولذلك اختلفوا في تفسير الآية، فمنهم من قال ان العبد الصالح الذي ورد في القرآن لا ينبغي أن يكون من البشر، لأن البشر ومنهم الأولياء بل الأنبياء ملزمون بالشرائع ويحكمون بالظاهر فلا يقتلون النفس بغير حق. ومنهم من قال أن العبد الصالح يمثل العدل الإلهي، ان الله يفعل ما يشاء لحكمة لا ندركها..وو {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} اي يستطيع ان يقاوم الحياة، بحيث يعرف التجارة والإدارة. هذه الحالة هي حالة ما بعد الرشد. {وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)}
في الحادثة الأولى قال: (أردت ان أعيبها) لأنه هو فقط كان يعرف ما في الطريق، وفي الحادثة الثانية قال: (فأردنا أن يبدلهما) لأن العبد الصالح وموسى كلاهما كانا يعلمان ان عقاب عاق الوالدين في شريعة موسى هو الإعدام. وفي الحادثة الثالثة قال: (فأراد ربك) اي ليست من علم عبد الصالح، بل الأمر من الله تعالى، لتنفيز العدل الإلهي في الأمور الفردية الجزئية التي تغيب عن البشر، لتحقيق الميزان والعدل الإلهي.
وفي الحالات الثلاثة نرى أن الله رحيم بعباده ولا يقبل الظلم من أحد على أحد. وعندما يعجز الإنسان كفرد عن ان ينال حقوقه بنفسه، فعليه أن يثق بعدل الله تعالى ورحمته التي تتجلى من حيث لا يعلم. حتى لا يقع في اليأس والقنوط.
يُروى أن موسى رأى نفسه أعلم أهل زمانه فأرسله الله إلى من هو أعلم منه وهو العبد الصالح، فتعلم منه أن حقيقة الأشياء ليست كما ترى من ظاهرها، بل عند الله عدل وميزان عام بحيث ان يغطي جميع متطلبات الأفراد وأوضاعهم الخاصة.
ولو أطاع موسى العبد الصالح، لفسدة الشريعة والقانون والنظام. وأعطى الحق لكل انسان بأن يمثل العدل الإلهي فيما يفعل. ولسادة الظلمات تحت شعار العدل الإلهي. ولكن موسى احتج على امور تخالف الشرائع والقانون، مما يوحى الينا نحن ان نحتج على الظلم وعلى الأمور التي تخالف الشرائع والقانون.
لقد طرحوا العدل الإلهي تحت شعار (هذا مكتوب عليكم) فحولوا الناس الى أشباح تقبل الظلم بكل أنواعه ولا تحتج، تحت شعار العلم الدنيّ الذي يجوزونه كما للعبد الصالح، ولكن الله يقول ان ما فعله العبد الصالح كان وحيا اليه من الله تعالى (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) ولقد انقطع الوحي بعد رسوله الأعظم، ولا يحق لأي انسان ان يدعي ذلك تحت اي شعار كان.
ولا يجوز أن نقيس العدل الإلهي بمقاييس العدل الإنساني، فحينئذ يصل الإنسان الى الاستنتاج بأن الله غير عادل.. سبحان الله عنما يقولون علوا كبيرا. فقصة موسى تعلمنا بان لا ننظر في العدل الإلهي بظواهرها ونحكم عليها بالعدل الإنساني. لأن الله هو الظاهر والباطن والله بكل شيء عليم. كأن نشرح مرض أحد بعقوبة من الله بسبب خطيا المريض، والله بريء عنما يقولون.
ونفهم من قصة الجدار أن صلاح الآباء ينفع الأبناء، والادخار للأولاد شيء ممدوح.
عبد الرحمن شط
هنوفر / المانيا
14/06/2018
(1) عقاب عاق الوالدين في شريعة موسى هو الإعدام لقوله في التوراة: {لذلك دعت الوصية الوالدين لإحضار ابنهما هذا أمام شيوخ المدينة الذين يتميزون بالحنكة والحكمة ويقولان لشيوخ مدينته. ابننا هذا معاند ومارد ولا يسمع لقولنا وهو مسرف وسكير. فيرجمه جميع رجال مدينته بحجارة حتى يموت. فتنزع الشر من بينكم ويسمع كل إسرائيل ويخافون}
((العهد القديم: تث 18: 20، 21) وسبق أن جاءت هذه الوصية في سفر الخروج واللاويين (خر 21: 17، لا 19: 3))