البحث

التفاصيل

الحاكمية

إن أول من طرح فكرة الدولة الإسلامية وفكرة حاكمية الله بالمفهوم الجديد، هو أبو الأعلى المودودي، (1903-1979م) حينما قرر محمد علي جِناح الانفصال باكستان من الهند. بعد استقلال الهند في سنة 1947.  مَهَاتْما ڴانْديِ طرح فكرة الديموقراطية للبلاد مع احترام حقوق جميع الأديان واللغات والقوميات، لكن محمد علي جناح (زعيم العصبة المسلمة في الهند) وأبو أعلى المودودي أرادا الانفصال من الهند بحجة أن الهندوس لهم الأكثرية والمسلمون من الأقليات، يخشون أن تسعى الأغلبية الهندوسية إلى تهميشهم، وحجة أخرى للتبرير قالوا إنهم مسلمون، والإسلام لا يقبل الديموقراطية، وأن الإسلام ضد البرلمان وضد الانتخابات. وحاكمية الله عنده هي الحاكمية في السلطة، أنه ليس لأحد من دون الله شيء من أمر التشريع. (1)  ودليل الحاكمية التي طرحها أسندها الى الآيات 44-45-47 من سورة المائدة.  وحملوا الآيات التي تخاطب أهل الكتاب على المسلمين. وهي قوله تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( المائدة 47). إذا تليت يرى أنها مرتبطة ببعضها. إن الله يخاطب أهل التوراة وأهل الإنجيل. إنه عممها على المسلمين. وما رتلوا آيات الحكم والحاكمية الواردة في المصحف ببعضها حتى ترى الصورة الكاملة. لأن الحجة طرحت في ذلك الوقت لتبرير الانفصال من القارة الهندية.   

يقول الشاطبي: هذه الآيات نزلت في الكفار، ومن غيّر حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء؛ لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة – لا يقال له كافر. يقول الخازن في تفسيره (3/310) قال جماعة من المفسرين: إن الآيات الثلاث نزلت في الكفار ومن غيّر حكم الله من اليهود؛ لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة لا يقال إنه كافر. وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك. ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب.

وبعد المودودي بنى على هذه الفكرة كثير من العلماء بلا تحقيق بين الواقع والتاريخ والنص. مثلا: 

سيد قطب (رع) (1906-1966م) قلّد أبو الأعلى المودودي في الحاكمية، مع أن شروطه مختلفة تماما عن المودودي، كان في مصر تحت حكم مستبد، ووُضِع في السجن، حينما كتب كتابه معالم في الطريق، قال إن هذا الشعب شعب جاهلي، ولذلك يلزم أن نبدأ من الإسلام من الصفر. وفي هذا كفر الأمة كلها، والمجتمع مرتد وعلى رأس المرتدين هي السلطة، وفي هذا الأمر بنى منهج العنف. والحاكمية عنده أيضا هي الحاكمية في السلطة.  

وهكذا عبد القادر عودة (1906-1954م) أيضا لم يبتعد عن سابقيه، ذكر في كتابه "المال والحكم في الإسلام" كونها حكومة قرآنية، تحكم بشرع الله، حكومة شورى حكومة خلافة.

وخالد محمد خالد (1920-1996م) ربط في كتابه "الدولة في الإسلام" إسلامية الدولة بين مجموعة من الصفات، وفي مقدمتها الشورى، ودستور الإسلام وهو القرآن والسنة والإجماع والتسامح وحرية الأقليات. الحكم لله.

تقي الدين النبهاني (1914-1977م) في كتابه "نظام الإسلام" الدولة الإسلامية عنده هي الخلافة، ونظام الحكم له أربعة قواعد. وهي: السادة (الحاكمية) للشرع لا للشعب، السلطان للأمة، نصب خليفة واحد فرض على المسلمين، للخليفة وحده حق تبني الأحكام الشرعية، فهو الذي يسن الدستور وسائر القوانين. وأول بند دستور الدولة "حمل الدعوة الإسلامية هو العمل الأصلي للدولة".

عبد الله فهد النفيسي (1945م- ..) في كتابه "عند ما يحكم الإسلام" تجاهل عن التاريخ والواقع والفقه، عنده الدولة هي دولة الخلافة التي جسدها الراشدون تجسيدا راقيا، ورئيسها خليفة لا ملك وتكون بالبيعة العامة. وبعدها الشورى. والحكم لله.

عبد السلام يسن (1928- 2012م) مؤسس جماعة "العدل والإحسان" في المغرب، في كتابه "المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا" يدعي بخلافة شبيهة بخلافة الراشدين، فبعد أن يستولي جند الله على الحكم في أقطار الأرض، الإسلامية، يجب على المسلمين في العالم أن ينصبوا خليفة عليهم باجتماع أولي الأمر من رجال الدعوة والدولة الإسلاميين. وهو خليفة رسول الله (ص) ويحكم بحكم الله.

المراد بالحاكمية عندهم وعند المتطرفين اليوم أن الحكم لا يكون الا لله، وأن من يحكم من البشر فقد نازع الله سبحانه وتعالى أخص خصائص ألوهيته، ومن نازع الله فهو كافر حلال الدم، لأنه ينازع الله في أخص صفاته.

ولكن إذا رتلنا الآيات الواردة في المصحف حول الحكم والحاكمية نرى أن الأمر ليس كما فهمه المودودي وسيد قطب ومن تابعهم رحمهم الله تماما.

وهذا تحريف صريح لنصوص الشريعة الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، التي بينت في وضوح لا لبس فيه إسناد الحكم الى البشر، والاعتداد بما يصدر عن أهل الحل والعقد من الأحكام الاجتهادية التي مردها الى الله، ونتذكر هنا قول ابن حزم رحمه الله، {إن من حكم الله تعالى أن جعل الحكم لغير الله}، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ..} (58) النساء).  أعطى الله الناس حق الحكم. ولقوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} (35 النساء). الحاكمان يحكمان بين الزوجين بالفراق أو بالثبات. ولقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} (المائدة 95) الناس تحكم بمعارفهم البشرية، وأن حكم البشرية المنضبط بقواعد الشرع، لا يتعارض أبداً مع حاكمية الله، بل هو منها.  

أرسل الله الأنبياء والرسل ليحكموا بين الناس برأيهم البشرية: {إنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (105نساء) (بما أراك الله) أي من خلال ما وهبك الله من طاقة رؤيتك العلمية والعقلية والحكمة البشرية، وقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ..} (213 بقرة.)  أي أن الحكم ليس خاص بالله تعالى {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (65 النساء). أي أن النبي كان يحكم. فالنبي حكم بين الناس في حياته، وبعد وفاته يحكم الناس باجتهاداتهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ} (23 ال عمران).  الناس يحكمون بالكتب والقوانين العرفية. النبي (ص) كحاكم كان يحكم حسب عرفه آنذاك لتحقيق العدل كما أمره سبحانه وكما أمر المؤمنين كذلك عامّة حسب قوله: {كنْتُم خَيْر أمّةٍّ أْخرَجْت لِلناِس تْأمُرُونَ بِالْمَعْرُوِف وَتْنهَوْنَ عِن الْمنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله} (آل عمران 112) ولم يقل تحكمون بما أنزل الله. كما أمره تعالى في سورة الأعراف {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (أعراف 199)

وفي السنة:

إننا لنجد لرسول الله موقفا صريحا يدع فيه صحابته وقادة جيوشه الى التمييز ما بين حكم الله تعالى الذي هو قضاء ديني قد اختص به وأودع الوحي بعضا منه، وبين ما هو سياسة وحرب واقتصاد وشؤن تتعلق بالمجتمع والدولة، مما لم يرد فيه نص قطعي الدلالة والثبوت. وكان يطلب من قاداته وأمراء السرايا أن تكون معاهداتهم مع من يصالحون في إطار البشر والسياسي.  ولقد روي عن النبي (ص) أنه كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه: {إذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيها} (رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي، وابن حنبل) وينهي من أن يصبغ أحكام البشرية الاجتهادية صبغة الهية تمنحها قداسة أحكام الله.  

الحاكم في الإسلام:

هو من ارتضاه الناس حاكما بطريقة التي يحددها دستور الدولة أو ما تقتضيه أنظمتا المعمولة بها، ومن واجباته العمل على مصلحة رعيته وتحقيق العدل بينهم وحفظ حدود الدولة وأمنها الداخلي والاستغلال الأمثل لمواردها وثرواتها ويلبي احتياجات المواطنين في الحدود المتاحة.

المواطنة الكاملة حق أصيل لجميع مواطن الدولة الواحدة فلا فرق بينهم على أساس الدين أو المذهب أو العرق أو اللون. وهو الأساس التي قامت عليه أول دولة إسلامية، وتضمنته صحيفة المدينة المنورة، وعلى المسلمين أن يعملوا على إحياء هذا المبدأ.

يمكن أن نقسم الحاكمية الى ثلاثة أقسام:

1- الحاكمية الإلهية: هي المحرماتليس لاحد التدخل فيهاخاصة بالله تعالى فقط. ألمحرمات المذكورة في الكتاب الحكيم هي 15 محرما. المحرمات ثابتة بالنص والمحتوى. لا تتغير بتغير الزمان والمكان والأعراف. الرسول يأمر وينهي ولا يحرم ولا يمنع، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التحريم ١) الدولة تأمر وتنهي وتمنع ولا تحرم. والطبيب يأمر وينهى ولا يحرم ولا يمنع.

2- والحاكمية الإلهية الإنسانية: وهي المنهيات المذكورة في المصحف. المنهيات نصها ثابت أبدي من الله ومحتواها متحرك مرن من الناس. محتوى المنهيات يتغير بتغير الزمان والمكان.

3- والحاكمية الإنسانية: هي في تنظيم الحلال. بتحديد الحلال أو إطلاقه. إن الله ترك شكل ممارسة الحلال للناس.

الحاكمية عند الخوارج ظهرت من التحكيم بين علي (رع) وبين معاوية. لان التحكيم ما عجبتهم، وقالوا: "إن الحكم إلا لله". وفهموا الحاكمية أنها السلطة، كالمودودي والسيد قطب وأتباعه. وقال على رضي الله عنه: "كلمة حق يراد بها الباطل. إنه الملك والامر" ثم استطرد قائلا "نعم أنه لا حكم الا لله، ولكن هؤلاء يقولون لا إمِرَةَ الا لله، وإنه لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر" (نهج البلاغة الخطبة 40) إن علي(رع) صحّح لهم. لان الله طلب منا نحن ان نحكم بين الجهتين المختلفتين بآرائنا بشرط ان لا نتجاوز حدود الله. لان الحكم يكون بين جهتين. إن الله يقصد منها الملك والأمر. هكذا كان مفهوم الحاكمية عند الصحابة، إذا ذكر الله السلطة في القرآن، ذكر معها الملك والامر.  الملك والأمر المذكرين في المصحف من عوامل الإنسانية. كقوله تعالى: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} (23 النمل). {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} (البقرة 258) {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} (يوسف 76) {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} (يوسف 43) {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} (البقرة 247). اَلْمَلِكُ يملك ويحكم، وهذا الحكم هبة من الله الى الناس.

والأمر أيضا أعطاه الله للناس: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} (الشورى 38) {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران 159) الأمر له علاقة بالإمارة أي من هو الأمير، هو ما يقوم به الإنسان، وهو من حصة الناس.

الامر يأتي على خمس معان في القرآن الكريم: 

1- (الكثرة) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (16 اسراء) أي كثّرنا طبقة من المترفين. الذين يحسبون أنفسهم فوق المسائلة. يفعلون ما يريدون

2- (شيء عجيب) {فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} (71 اسراء)

3(شأن) {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (38 الشورى) أي شأنهم - {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} شأن {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} شأنه {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ} (32 النمل) اي في وضعي وشأني {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} شان (54 أعراف)

 4(ضد النهي) {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (90) النحل{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف 40) أي حُكْمُ الله هو: أنه أمرنا أن نعبده..  

5(شيء) {وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} (18 يوسف). اي شيئًا

المنهيات الموجودة في القران الكريم موجودة كقيم إنسانية أبدية.  كلها نصها ثابت أبدي ولكن محتواها متحرك مرن، محل اجتهاد إنساني. منهي عنها ولكن تحت ظروف يُحدِدها الانسان بحسب الزمان والمكان والأعراف. وتُحدَّد بالقوانين. قديمًا كانت تُحدّد أو تطلق من قبل الفقهاء، لكن اليوم هذا الأمر بيد أهل الذكر. اي المجلس المنتخب من قِبَل الناس. وهم يحددون المنهيات بالحد الأدنى وبالحد الأعلى. مثلا: {ولا تجسسوا} نها الله التجسس كمبدأ عام. لكن ليس كل التجسس منهي عنه.  لان النبي (ص) كانت له جواسيس. محوره وشروطه وحدوده يتقيد بالقانون بحده الأدنى والأعلى.  

الحاكمية التي تطرحها الأحزاب الإسلامية الحديثة منطلقها هو من مفكرة المودودي، مع مرونة قليلة. ولم يَـــبــنوا عليها أفكاراً جديدة، توافق القرآن الكريم والأرض الواقع. الا شيئا قليلا من الشيخ راشد الغنوشي (1941- ~) في كتابه "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" ربط إسلامية الدولة بشرطين: التمسك بالنص والشورى. تدل النصوص الشرعية المختلفة على أن في الإسلام نظاما للحكم صادرا من الله نطق بتشريعاته القرآن والسنة. وأن الشورى واجبة كما يبينه النص، وشيخ يوسف القرضاوي (رع) (1926-2022) اللذان يحترمون فكر الآخرين ويعترفون بالانتخاب والديموقراطية. لأنهم يتحدثون عن مشروع عظيم، لأنه نظام كامل، وهذا المشروع يحتاج الى أفكار جديدة وتفرعات مفصلة وتجارب بشرية حتى ترى الصورة الكاملة. لا يستطيعون أن يملؤوا محتوى شِعاراتهم من الفقه الموروث من اجتهادات المذاهب. ومن شِعاراتهم (النظام الإسلامي)، و(الحل الإسلامي)، و(النجاة في الإسلام)، و(الإسلام هو البديل) ليس عندهم ولا في كتب الفقه رؤية الشاملة، ولا يستطيعوا أن يقول لك هذا هو البديل، وما عندنا أحسن من الموجود. بحيث يمكن أن يرفع الأمة الى مستوى العالم، لأنه يلزم أن نرى الفرق بين ما يقدمونه كبديل، وبين ما وصلت إليه البشرية (مثل الديموقراطية) ويلزم أن نرى جناح الجاذبية حتى نرجح هذا على هذا. حينما يَعِظَ وُعّاظُهم كأنك تظن أنه يصوِّر لك دولة من دُوَل الاسكانديناوية. وهذا ليس من الغرائب، لأن الحكم هو إدارة الدولة، وإدارة الدولة من الاقتصاد الى تنظيم التعليم والتربية وتنظيم الجيش والحرب والسلم كلها إنسانية بشرية. ولكن الإسلام لا يمكن فصله عن الدولة، لأنه يحتوي الحقوق والأخلاق والقيم الإنسانية. لكن الدولة لا تكن باسم الدين والإسلام، بل الدولة تكون باسم الأمة (الشعب)، لأنها منظمة إنسانية.

ولذلك فإن عَرْضَ الإسلام كبديل وكنظام، تحت شعار (الحكم لله) ليس الا تحريف صريح لنصوص الشريعة الإسلامية. ولا يستعملونه إلا لتهييج المسلمين وتغريدهم، والنتيجة خيبة كبيرة، وكسر أمل، وخاصة عند الشباب.

ومعرفة البشرية وتجاربهم تقدمت وما زالت تــتــقدم. الغرب جرّب بعض من أنواع المشورة ونجح فيها، وليس من العيب أن نأخذ بتجارب الناجحة من غير المسلمين. لأنها أصبحت من اليقينيات، وتحولت إلى قيم إنسانية، ولا يجوز لنا أن نتبع الظنيات في حالة وجود اليقينيات.  ويلزم أن نعترف بتخلفنا العلمي والحضاري في العصر الحديث، ويلزم أن نلتزم بالعلم ولحكمة لأن (الحكمة ضالة المؤمن).  

ومن هنا كانت المشكلة الكبيرة التي واجهت الباحثين في موضوع الدولة والتي ما زالت قائمة الى اليوم، هي عجز الإسلاميين عن التحرير من شروط السياق بحيث لا يزال أكثرهم متأثرا بالشكل على مستوى الخطاب السياسي. وهو ما يعوق جهد التملك التاريخي للدولة الحديثة في العالم الإسلامي. وهذه المشكلة موجودة في التيار العلماني الذي يصر إقصاء الدين عن ساحة السياسية مما أدى الى زرع عوامل الغلو الديني والتطرف الفكري. ذلك أن كل تطرف علماني، يثير غلوّا دينيا ويستدعيه.

المفكر والمؤرخ الإسلامي أبو القاسم حاجي حمد يقول:

للحاكمية ثلاث مراحل:

الأولالحاكمية الإلهية المباشرة. إن الله أعان البشر حتى وصل الى مرتبة الإنسانية، أرسل إليهم النذر من الملائكة ليوجههم الى الهدى. ليتطور فهمهم من المشخصات الى المجردات، لأن عقلية الإنسان في عهد نوح كولد في روضة الأطفال. ولذلك احتاج الى إعانة مباشرة. وأن الله ربى الإنسان حتى تكامل عقله، وحينما وصل الى عهد سيدنا محمد (ص) تخرج من الجامعة، استطاع أن يقوم بأموره بنفسه، وختمت الرسالة، ولذلك نرى أن الله اعان موسى وقومه مباشرة. إن الله تعالى فعل لهم كل شيء. وأن بني اسرائيل ما فعلوا شيء. من شق البحر الى إنزال المن والسلوى. حتى في الحرب قالوا {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة 24) إن عقل الانسان ما كان يدرك رباً مجردا لا يرى. وقالوا أرنا الله جهرة. أعطاهم جميع ما يحتاجون.  وفي هذه المزيّة فُضِّلوا على العالمين، {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (47 بقرة) {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ مَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (57 البقرة) والتفضيل ليس للقوم كعرق وليس عالمي أو أبدي.  بل لوقت معين ولغاية محددة. حتى يفقهوا بالآيات البينات (المرئيات) الإله المجرد. وبهذه المعجزات اقتنعوا بان الله لا يرى وهو خالق السماوات والأرض وبيده كل شيء.

الثاني: الحاكمية في الخلافة، عين الله داود وسليمان خليفة، وبهذا سخر لهم قانون الطبيعة، ليس تدخل مباشرة بل بدرجة ثانية، أعطاهم القوة والحكم والعلم وعيَّنَهم خليفةً أو مَلِكًا ويسّر لهم الأمور وقاموا بأمورهم بنفسهم: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ} (26 ص) جعله الله خليفة اي أعطاه صلاحية الامر والنهي والحكم. واعطاه  القوة:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ  وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}  (10 سبأ) {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}  (79 أنبياء) {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} (النمل 16) سخر الله لهم بعض من ظواهر الطبيعة ليقوموا بواجبهم، تدخل من الله بتيسير الأمور. وسخر لهم الجن. وعين الله طالوت ملكا {وقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ} (247 بقرة)، بإعانة غير مباشرة.. بإعطائهم الخلافة واْلَمَلَكيّة، أعطاهم إمكانية ان يفعلوا ما يريدون، بدل ما يفعله الله لهم مباشرة.  

والثالثالمستوى البشرية الذي أعطاها لمحمد (ص)، لم يعينه الله رئيسا للدولة، بل بايع الناس على السمع والطاعة وأخذ مشروعية الحكم من الناس. لا يوجد في أمة محمد تدخّل من الله المباشر. الدخل يكون غير مباشر.

 الرسالة المحمدية فيها: الرحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (107 انبياء) والخاتمية {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (40 احزاب). ورفع الاصر والأغلال {.. وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ..}  (157 أعراف) والعالمية {قُلْ يَٰأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (أعراف 158) برسالة المحمدية عقل الإنسان تكامل، بحيث يستطيع أن يدير أموره بنفسه، لا يحتاج الى وحي سماوي. وبمحمد (ص) ألغيت الآيات البينات المبصرات الخارق العادة، وجعل القرآن فقط معجزة له. وفي شريعة محمد (ص) ترك الحكم الى الناس.  

إذا نظرنا الى الشرائع القديمة نرى الإصر والأغلال بوضوح، مثلا:

إن شريعة حمورابي: يوجد فيها 282 بند تشريعي 3800 سنةً قبل الميلاد.  فيها 17 عقاب جسدية كقطع اليد الزراع والأنف والأذن وقلع العين وكسر الدرس وقص الشعر ومسر العظم. و36 عقاب إعدام. وشكل الإعدام إما بالحرق أو الغرق أو القازوق أو القتل بالسيف.

وأما شريعة موسى: يوجد فيها 612 بند تشريعي. وفيها أربع عقوبات جسدية، ويوجد فيها 18 عقوبة إعدام. مثلا عاق الوالدين يعدم، الزان يرجم، شهادة الزور يعدم، قذف النساء بالزنى يعدم، المرتد يقتل، سبّ الإله يقتل، ... إن شريعة موسى بنسبة لشريعة حمورابي رحمة، لأن الإعدام فيها نزل من 36 إعدام الى 18 إعدام.

وفي شريعة محمد ص: العقوبة جسدية واحد. جلد الزنى العلني، (وقطع يد السارق، محمول على قطعه من المجتمع) عقوبة الإعدام واحد، وهو قتل النفس بغير حق، وشريعة محمد (ص) بنسبة الى شريعة موسى رحمة.  وهذا هو معنى {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} لأن رسالة محمد عالمية، يلزم ان يرى مصداقيتها في العالم كله. العالم اليوم يمنع الزنى العلنية وعقاب القاتل حد الأعلى هو الإعدام، وحد الأدنى حبس او غرامة. 

والخاتمية: ختم الوحي بين الارض والسماء. وبآية {اليوم أكملت لكم دينكم} ختمت المحرمات. وهي أزلية ابدية. وهي 15 محرما. وهي حاكمية الله. إن الله ما أعطى حقا لاحد أن يحرم شيئا. المحرمات هي حقل حاكمية الله. هو فقط يتحكم فيها.  والمحرمات ختمت، لا تزيد ولا تنقص. {..وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ  الْخَبَائِثَ..} (157 اعراف). الطيبات هي الحلال والخبائث هي المحرمات الذكورة في المصحف. الرسول يحرم المحرمات أي يتبع الحلال والحرام ويتبع ما أحي اليه، {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ...} (الأحزاب 2) تحريم الرسول هنا كالآية الآتية التي تخاطب المؤمنين: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة 29) أي لا يتبعون الحلال والحرام.

خمس صفات من صفات الحكم خصها الله لنفسه لا يسمح لاحد ان يتدخل فيها. الحاكمية فيها لله فقط. 

الاول: من رئي نفسه فوق المسائلة وفوق القانون، فقد تعدى على الله في حاكميته. (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) (23 الأنبياء) كالمستبدين والظالمين.

الثاني: الله وحده {فعّالٌ لِما يُريد} فكل نفس وضع نفسه في حالة "أنه فعال لما يريد"، فقد تعدى على الله. أيضا المستبدين. 

الثالث: فكل انسان وضع نفسه في مقام الربوبية {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (24 النازعات) بان يقول هذا البلد لي ولأولادي وعائلتي فقد تعدى على الله. كالمستبد الذي يستولي على الناس وأموالهم.

الرابع: من ادعى الالوهية {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} بان يطلب الطاعة المطلقة، فقد تعدى على الله أيضا مستبد.

 الخامس: فكل من لا يشرك في حكمه أحداً (حكم الرجل الواحد) تعدى على الله في حاكميته. :{وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} (26 كهف) الحاكمية التي لا يشارك فيها أحد خاصة بالله تعالى فقط. حكم البشري لازم ان يكون بالمشاركة والشورى. ومعظم دول العالم لا تتعدى على حاكمية الله. ومعظم هذه الدول ليست من بلاد المسلمين. مع الأسف.

الدولة التي لا تأخذ شرعيتها من رجال الدين (كالبابا والهاهام) بل من الناس، هي دولة مدنية غير مذهبية وغير طائفية (ما تسمى بسكولارزم أو بالعلمانية).  والنبي (ص) ما أخذ سلطته من الله. بل أخذ سلطته من الشعب، بايعهم وأخذ اذن الحكم منهم. بخلاف داود وسليمان. لان الله عينهم خليفة: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص 26)

وفي الغرب كانت الملوك تأخذ شرعيتها من الدين، (الپاپا) والسياسة كانت تحت هيمنت الدين (الكنيسة) وشعب الغرب كافح في انقاذ السياسة من سلطة الدين ونجح في ثورته، وحرر السياسة من الدين، وعند المسلمين الأمر بالعكس، الدين تحت هيمنة السياسة، والسياسة تسيطر على الدين وتستعمله لمصالحها، ولذلك يجب على المسلمين أن ينقذوا الدين من سلطة السياسة. ولذلك وَضْع المسلمين لا يقاس على وضع الغرب. والذي فعله شعوب الغرب صحيح ومصيب. لكن أرضية العلمانية عند المسلمين تختلف عن أرضية الغرب.

وإن أهل الحل والعقد هم نواب الشعب المنتخبين، بالاقتراع الحر (الشورى المعاصرة) الدولة العلمانية هي الدولة التي تتعدد فيها الآراء، وتصان فيها الرأي والرأي الآخر.

الإسلام له أربعة فروع: العبادات، العقائد، الأخلاق، المعاملات.

 العبادات (الشعائر) تنفصل عن الدولة، وقد فصلها النبي بنفسه، ما عاتب أحدا على الصلاة والصوم، كان الترغيب والترهيب فقط.

والعقائد أمر يتعلق بالفرد ليس دخل الدولة بالعقائد، كل فرد يختار عقيدته حراً بلا ضغط وبلا استكراه، فعقيدة المستكرَه لا تقبل.

والأخلاق أيضا قيم إنسانية وتعبدية فردية لا تدخل للدولة فيها ما لم تتجاوز الى الرذائل. وإذا أضرت بالآخرين الدولة والمجتمع يتدخل. وهذه الجوانب الثلاثة لا تتغير ولا تتبدل

والمعاملات تشمل السياسة الشرعية وتشمل الاقتصاد وتشمل الحكم وشكل نظام الدولة، وهذا الجانب متحرك مرن يتطور بحسب الزمان وامكان.  ما ذكر في المصحف في هذا الجانب أمر قاطعي بحيث يمكن أن نقول هذا النظام هو نظام إسلامي. تُرك الأمر الى الأمة.  فالأمة تتعامل حسب الظروف المتاحة لها. والنبي (ص) لم يلزم الأمة بشكل معين من الأنظمة. الأمة تختار نظام الذي يناسبها زمانا ومكانا. والأهم هو تحقيق مقاصد الإسلام، كتأسيس العدل وحماية القيم الإسلامية والإنسانية. والالتزام بالقواعد العامة، كلا ضرَرَ ولا ضرار، والأمور بمقاصدها، والضررُ يُزال. مثلاً الديموقراطية إذا حققت المقاصد فهي إسلامية.

  وبهذا المعنى الدولة العلمانية إذا التزمت بالمقاصد لا تخالف الإسلام. فإذا تحقق المقصود والمحتوى من الإسلام لا بأس بالتسمية. لأن الاعتبار بالمقاصد لا بالتسمية. ومن هذا المنطلق الإسلام يحمل جدل الاستقامة والحنفية، ليس هناك نص يمنع التعدد الحزبية، فالإسلام يحمل موقف اليساري ويحمل موقف اليميني أيضا في حل نفس المشكلة، وكلاهما إسلامي ما داما على العدل، لأن المقصود هو العدل. إذا حقّقَ أحدٌ من اليسار أو اليمين العدلَ يعتبر إسلامي. لأن العدل هو الغاية من إرسال الرسل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد 25) والوسائل تتغير، ولذلك لا اعتبار بالوسائل.

نزاع الرأسمالية والاشتراكية هو في شكل اقتصاد الدولة، ونزاع الديموقراطية والاستبداد هو في شكل سياسة الدولة.   

إن مهمة الدولة والسلطة هي تنظيم حياة الناس. من الصحة والتعليم والطرق والاقتصاد والقضاء والأمن والدفاع ورفاهية الناس. وهذه الأمور كلها تحتاج الى برامج عملية واقعية معتمدة على العلم والتجربة. نجاحها وفشلها ليس له علاقة بحاكمية الله او غيره. لأنها تدابير بشرية محضة.

إن السلطة الدينية من الأمويين الى المتوكل خضعت للسلطة السياسية. ومن حيث أن السلطات كانت مستبدة، العلماء ما تجرؤا طرح مفهوم الحرية إطلاقا. وفي مفهومهم أن الحر هو مقابل الرق. واستهزئوا بحياة الناس. بحيث أصبحت الحرية ليست من الِقيَم العليا، وليست من القيم المقدسة. بحيث اجتمع فرعون وهامان وقارون في مؤسسة واحدة. كحكم طالبان في افغانستان قبل 2001. وفي تاريخ 21/08/2021 استعادت طلبان السيطرة على حكم أفغانستان بحكم استبدادي دكتاتوري تحت عنوان الإسلام والدين. 

 

عبد الرحمن شط

كولن / المانيا

08/08/2004

مراجعة 12/10/2022

 

 

 

من أقوال المودودي: [لا يحل لأحد غير الله أن ينفذ حكمه في عباد الله، فليس هذا الحق إلا لله وحده، ذلك أنه هو وحده خالقهم. {ألا له الخلق والأمر} (الأعراف: 54) حاكمية الله الواحد الأحد نظريتها لأساسي أن الأرض كله لله، وهو ربها المتصرف في شئونها، فالأمر والحكم والتشريع كلها مختصة بالله وحده، وليس لفرد أو لأسرة أو طبقة أو شعب بل ولا لنوع البشري كافة شيء من سلطة الأمر والتشريع. فلا مجال في حضيرة الإسلام الا لدولة يقوم فيها المرء بوظيفة خليفة الله، وهكذا تقضي حاكمية البشر لأنك لو فكرت أو شرحت دون الإله، وأحللت مكانه الإنسان ستعطي السلطة المطقة لهذا الإنسان، يصبح حاكما بعقله على واقعه والتاريخ ويفسد الكون والطبيعة والتاريخ والمجتمع والناس وبالتالي الحياة، لا شارع من دونه، فالقانون قانونه، ولا يليق الترشيح الا بشأنه ولا يستحقه الا هو ولا ملك ولا رازق ولا ولي الا هو، وليس من دونه من يسمع الدعاء الناس ويستجب لهم، وليست مفاتيح الكبرياء والجبروت الا بيده، ولا يعل أحد ولا يسمو في الدنيا، فكل ما في السموات والأرض عباد أمثالكم، والرب هو الله وحده،  فارفضْ كلَّ أنواع العبودية والطاعة والحلول لأحد من دونه،  فكن عبد الله قانتا مستسلما لأوانه، تتميز الدولة الإسلامية بثلاث خصائص: الأولى انه ليس لفرد أو أسرة  أو صنف أو طبقة أو حزب أي نصيب من الحاكمية لأن الحاكم الحقيقي هو الله، والأمر الثاني أنه ليس لأحد من دون الله شيئ من أمر التشريع، والثالث أن الدولة الإسلامية لا يؤسس بنياها الا على ذلك القانون المشرع الذي جاء به النبي من عند الله مهما تغيرت الظروف والأحوال. لا أطيع أمرا غير الله، ولا أتقيد بشيء من العادات والتقاليد الجاهلية المتوارثة]

 المودودي ما فرق بين الربوبية والألوهية. كلنا عباد الله نؤمن بالله ربنا وخالقنا ولكن نحن نتكلم عن الحكم والحاكمية ونحن عباد الله نعبده من مقام الألوهية وهو التشريع، والقانون.


: الأوسمة



البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع