الرابط المختصر :
أحدثت الأحوال السياسية التي سادت بلادنا العربية حالة من التشدد في قضايا لم تكن تثار، إلا في إطارها العلمي الدقيق بين أهله، ومن هذه القضايا مسألة الترحم على الظالم إذا مات، أو على من يؤيده، سواء بالقول، أو بالفعل، سواء من أهل الإعلام، أو السياسة، أو الدين. ولم تكن هذه المسألة تشغل حيزا من قبل، فقد كانت تروى مثلا قصة ترحم عمر التلمساني على جمال عبد الناصر وقت وفاته، ورد بعض المساجين بعدم الترحم، لأن الموقف يشهده عدد محدود من الناس.
امرأته طالق إن غفر الله للحجاج!
بل كانت تذكر بعض النوادر في سؤالات الفقهاء عن ظلمة عصرهم، فقد تذاكر الناس سوء سيرة الحجاج، فقال رجل إن امرأته طالق إن غفر الله للحجاج، فقيل له: حلفت على غيب فسل عن يمينك، فاختلفوا في أمره، وقالوا: تجنب امرأتك، فسأل عمرو بن عبيد فقال: شد يديك بامرأتك، فإن غفر الله للحجاج ذنوبه لم يتعاظمه أن يغفر لك هذا الذنب الواحد. وروي فإن يغفر الله للحجاج فما ذنبك في جنب ذنبه إلّا شوى.
لكن الآن أصبحت النقاشات الدائرة واسعة المجال، سواء على صفحات التواصل الاجتماعي، أو على وسائل الإعلام ووسائطها المختلفة، ولذا يحتاج الأمر إلى تناول منصف، يضع الأمور في نصابها الشرعي الصحيح، قدر الاستطاعة، بعيدا عن المجاملة أو التشنج.
الظلم ودوائره جريمة وكبيرة
الظلم جريمة وكبيرة من الكبائر، التي شدد في تحريمها الإسلام، ولشدته حرمه الله عز وجل على نفسه، فقال تعالى في الحديث القدسي: “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا”، والظلم بكل دوائره محرم ومجرم، سواء من أعان الظالم، بحيث لا تتم جريمة ظلمه إلا بذلك، أو من أيده، أو شجعه وعاونه، كل هذه الدوائر محرمة شرعا.
والقرآن الكريم ضرب لنا نموذجا واضحا في هذه المسألة، في قصة نبي الله صالح عليه السلام، وقد قتل كفار قومه ناقته، ورغم أن من مارس الظلم بالقتل هنا شخص واحد، فقد قال عنه تعالى: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} (الشمس: 12)، ومع ذلك فعند ذكره لعقاب الفعلة، قال تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} (الشمس: 14)، فجعل الضمير هنا بالجمع: فعقروها، رغم أن من عقر الناقة واحد، لأن الجريمة تعاون عليها عدد من مجتمع صالح عليه السلام، فهناك من استأجر القاتل، وهناك من حجز الناقة حتى لا تهرب، وهناك من أمسكها، وهناك من برر وحض الناس على قتلها، فدائرة الظلم هنا تساوت في عقوبة الله تعالى عليها. فلا يخالف أحد في حرمة الظلم، وأنه من الكبائر التي حرمها الإسلام، فكل ظالم أو معاون له، مرتكب لكبيرة.
حكم مرتكب الكبيرة في الإسلام
المسألة التي تليها، هي: ما موقف أهل السنة من مرتكب الكبيرة؟ هل هو كافر، أم مرتد، أم هو ظالم لنفسه، وللناس، ومرتكب للكبيرة، أو للكبائر؟ وهل ارتكاب الإنسان للكبائر يخرجه من الإسلام؟
وهذه المسألة تحديدا كانت سببا في نشأة الفرق الإسلامية في علم الكلام، فليس مستغربا أن تطرح في كل زمان ومكان، ولكن أهل السنة جميعا على أنه لا يكفر، ولا يحكم بردته، مهما أتى من الكبائر، ما لم يستحل ما حرمه الله. ولم يقل بكفره إلا الخوارج، وبذلك كفروا معظم المسلمين، لأنه لا يخلو إنسان من معصية، كبيرة كانت أو صغيرة.
الدعاء للظالم أو عليه جائز
فإذا مات مرتكب الكبيرة، سواء بظلم أو بغيره، أو من عاون على الكبيرة، فهو مسلم له أحكام الإسلام، ولا نجد أمرا شرعيا هنا يلزمنا بالترحم عليه أو ينهانا عن عدم الترحم والإمساك عنه. فلو أن إنسانا عاش ومات ولم يترحم على أحد من الظلمة، أو لم يدع عليهم، لم يكن آثما، لكن الخطأ هنا في منع آخرين من الترحم، أو منعهم من الدعاء عليه، ولم يرد من الشرع ما يمنع الترحم على هذا الميت.
وكذلك لا يوجد ما يمنع شرعا من الدعاء على الظالم وأعوانه، سواء في حياته أو بعد مماته، إذا لم يتب من ظلمه، ويرد المظالم إلى أصحابها؛ فالمسألة هنا تتعلق برؤية من يترحم، أو من يدعو عليه، فمن يغلّب جانب حسناته يدعو له، ومن يغلب جانب السيئات، خاصة إذا ناله قسط من ظلمه، من الطبيعي أن يدعو عليه، والشرع لا يمنع هذا ولا ذاك، لأن الدعاء في هذه الحالة أشبه بشهادة من الإنسان في حق الشخص، ما لم يكن في دعائه تجاوز في الدعاء، كأن يجزم بعدم المغفرة لفلان، أو أن الله لن يرحم فلانا، أو يجزم بالمغفرة والجنة أو النار لفلان.
الترحم دعاء مرفوع إلى رب العباد
والترحم على هذا الميت، إن هو إلا دعاء لله عز وجل، يرفعه العبد إليه، فإن شاء الله تقبله، وإن شاء رده، ولا يوجد نهي شرعي عن الدعاء لمرتكب الكبائر، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لرجل مات منتحرا، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، هاجر إليه الطفيل بن عمرو، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتوى المدينة، فمرض فجزع، فأخذ مشاقص له، فقطع بها براجمه، فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه وهيئته حسنة، ورآه مغطيا يديه، فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت. فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم وليديه فاغفر”.
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: في هذا الحديث حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة: أن من قتل نفسه، أو ارتكب معصية غيرها، ومات من غير توبة، فليس بكافر، ولا يقطع له بالنار، بل هو في حكم المشيئة.
صلاة الجنازة على أهل الكبائر
والإسلام لم يمنع المسلم من إقامة صلاة الجنازة على أهل الكبائر، فقد رأينا السنة النبوية تروي لنا صلاة الجنازة على الزاني والزانية، والسارق، وغيرهم، وصلاة الجنازة هي دعاء للميت، ففي التكبيرتين الأخيرتين ندعو للميت، وندعو للمسلمين، ولا نعلم على مدار تاريخ الإسلام كله، أن فقيه من الفقهاء أو عالم من العلماء، منع صلاة الجنازة على الظلمة، أو أعوانهم، أو على مرتكبي الكبائر، أيا كانت كبائرهم، بل صلوا عليهم، ودفنوهم في مقابر المسلمين.
الكبائر لا تمنع رحمة الله ومغفرته
كما أن الكبائر لا تمنع رحمة الله ومغفرته عن مرتكبها إن أرادها الله تعالى، ما دامت لا تدخل في إطار الشرك، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: 48)، كل ما هنالك أن الشرع يفرق بين حق الله، وحقوق العباد، فحق الله أسهل وأقرب لعفو الله تعالى عن خلقه، لكن حقوق العباد من مظالمهم وحقوقهم، لا يعفو عنها الله ما لم يعف صاحب الحق، وهو ما يجعل العفو عنه مرهونا بعفو المظلوم، وإن كان المظلوم قد مات، فيؤجل العفو إلى أن تلتقي الخلائق يوم العرض على الله عز وجل، وهذه نظرة الإسلام العادلة، فلا هو يغلق باب الرحمة والمغفرة، ولا يفتحه بدون ضوابط تحفظ حقوق المظلوم.
كان أبو ذر الغفاري رضي الله عنه صاحب آراء شديدة، حتى في نظرته إلى معاصي الناس، وقد روى نقاشًا بينه وبين النبي صلى الله عليه حول أهل الكبائر من الذنوب، هل يغفر لهم أم لا؟ يقول أبو ذر: “أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر”. وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال: “وإن رغم أنف أبي ذر”.
الترحم لا يبرر المظالم
كل ما هنالك أن الشرع عندما أجاز الدعاء بالترحم، بين أنه لا يكون في سياق تبرير الكبيرة، أو التطبيع معها، بل في إطار إنكارها، ورفضها، لكنه من باب رحمة الله الواسعة التي تسع هذا الدعاء وغيره، وتفتح باب الدعاء لمرتكب الكبائر، وهنا معيار دقيق ينبغي ألا يغيب عن أذهان الكثيرين، فنحن نرفض الكبيرة، وإن أشفقنا على من يفعلها، لمن كان في حياته عمل خير نرجو أن يغلب في ميزانه يوم لقاء ربه.
النار.. باقية أم فانية؟
بل بلغ النقاش مستوى بعيدا في قضية مصير الإنسان في الآخرة، فدار نقاش بين العلماء في مصير النار التي سيدخلها الكافر ويظل فيها، فإذا كانت نصوص الشرع قد بينت خروج أهل المعاصي من النار بعد قضاء فترة تطهرهم من ذنوبهم، فقد دار نقاش حول الكافر نفسه، هل النار التي يدخلها ستدوم أم ستفنى؟ وبعد فنائها ما مصيره؟ اختلفوا في ذلك، وكان جمهور العلماء على أن النار خالدة وعلى خلود من دخلها معها، إلا أن هناك من قال بأنها ستفنى وتنتهي، وقال بذلك ابن القيم وغيره من القدامى، ومن المعاصرين: محمد رشيد رضا، ومحمود شلتوت، ويوسف القرضاوي، رحمهم الله جميعا.
الترحم لا يمنع من ذكر التاريخ
وأخيرا: فإن جواز الترحم على مرتكبي الكبائر، لا يمنع من ذكر تاريخهم، كالطغاة والظلمة، والمفسدين، وغيرهم، خاصة فيما أعلن من معاصي، فمن استتر بستر الله فلا يجوز هتك هذا الستر، أما المجاهر بكبائره أو معاصيه، من دون توبة معلنة، فلا مانع من ذكر تاريخه ومواقفه، لأخذ العبرة والعظة، حتى لا نقع فيما وقعوا فيه، وحتى لا نأمن في حياتنا، ولكي نظل دوما على دعاء لله بأن يرزقنا الثبات على طاعته، والبعد عن معاصيه. وكتب تاريخ المسلمين مملوءة بهذه الصفحات، وكلها لأئمة وفقهاء وعلماء، يعرفون موقف الشرع من ذلك جيدا.
المصدر : الجزيرة مباشر