البحث

التفاصيل

التّأصيل الشّرعيّ لأفضليّة بذل تكاليف حجّ وعمرة النّافلة لمنكوبي الزّلزال

التّأصيل الشّرعيّ لأفضليّة بذل تكاليف حجّ وعمرة النّافلة لمنكوبي الزّلزال

بقلم: محمد خير موسى

 

شهرٌ كاملٌ مرّت دقائقه بطيئةً ثقيلةً منذ وقع الزلزال المدمّر في جنوب تركيا وشمال غربي سوريا؛ وكلّما مرّ يومٌ انجلى بعضُ الغبار ليجلّي جزءًا من صورةٍ لمّا تتضح كليًّا غير أنّها تؤكّدُ أنّ الأزمة أكبر من المتخيّل وأطول من المتوقّع.

ولأنّ الأزمة طويلة فإنّه لا ينفع معها الهبّات الإغاثيّة العاجلة السريعة فحسب؛ ولا يصلح معها التفاعل العاطفيّ والإغاثيّ اللّحظيّ مع مشاهد الزلزال، بل لا بدّ من بقاء البذل مستمرًّا والتحريض والحثّ عليه باقيًّا ما بقيت آثار الزلزال وما بقيت مئات آلاف المنازل مدمّرة ومئات آلاف الأسر متناثرةً في الخيام وعشرات الآلاف يبحثون عن مأوى، فضلًا عن مئات الآلاف الذين فقدوا مصادر رزقهم وانقلبت حالهم من الغنى أو الكفاف إلى العوز الشديد.

المسألة محلّ البحث

والآن ونحن في نهايات شعبان وبين يدي رمضان ومقبلون على موسم الحجّ؛ فإنّ الملايين من المسلمين يسارعون إلى أداء فريضة العمرة الأولى أو فريضة الحجّ الأوّل، وهؤلاء مأجورون وليسوا معنيّين بالحديث عن المسألة المطروحة اليوم؛ لكننا نجد ملايين أيضًا يؤدّون عمرة النّافلة أو حجّ النّافلة، بمعنى أنّهم أدّوا سنّة العمرة أو فريضة الحجّ ويرغبون في أداء المزيد من العمرة أو الحجّ، وهؤلاء ينفقون مئات الملايين على حجّ النّافلة وعمرة النّافلة؛ فهل الأولى إنفاق هذه الأموال على عمرة أو حجّ النّافلة أم إرسالها إلى المنكوبين هذه النّكبة العظيمة في الزّلزال المدمّر؟

الإغاثة مقدّمة على حجّ وعمرة النّافلة في الرّخاء فكيف بها في النكبات؟

ممّا قرّره الفقهاء عامّة ووردت به الآثار المتضافرة تقديم إغاثة المحتاجين على عمرة وحجّ النّافلة، وهذا في زمن الاستقرار والرّخاء العامّ فكيف به في زمن أزمة مزلزلة ونازلة عظيمة كنازلة الزلزال المدمّر؟ عندها يكون تقديم البذل للمنكوبين أشد توكيدًا وأعظم أجرًا بكثير من أداء مناسك التطوّع.

ومن هذه الآثار التي تضافرت على تأكيد هذه الحقيقة ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة في “المصنف” عن سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: “لَأَن أَقُوتَ أَهلَ بَيتٍ بِالمَدِينَةِ صاعًا كلَّ يومٍ، أَو كلَّ يَومٍ صَاعينِ شهرًا، أَحبُّ إِلَيَّ مِن حَجَّةٍ فِي إِثرِ حَجَّةٍ".

وأخرج عبد الرزاق -واللّفظ له- وابن أبي شيبة في “مصنفيهما” عن الثّوري، وقد سأله رجل فقال: الحجّ أفضل بعد الفريضة أم الصدقة؟ فقال: أخبرني أبو مسكين، عن إبراهيم النخعي أنه قال: “إذا حجَّ حِجَجًا، فالصدقة”، وكان الحسن يقول: “إذا حج حجّة".

وأخرج الإمام أحمد في كتاب “الزّهد” عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: “يقُولُ أَحَدُهُمْ: أَحُجُّ أَحُجُّ، قَدْ حَججْتَ؛ صِل رَحِمًا، نَفِّس عَنْ مَغمُومٍ، أَحْسِن إِلَى جَارٍ".

وأخرج ابن أبي شيبة في “المصنف” عن الشعبي أنّ رجلًا جاءه فسأله: “إنّي قد تهيّأتُ للخروج، ولي جيران محتاجون متعففون، فما ترى إلى جعل كِرايَ وجهازي فيهم، أو أمضي لوجهي للحجّ؟ فقال: والله إنّ الصّدقة يعظم أجرها، وما تعدل عندي موقفًا من المواقف، أو شيئًا من الأشياء".

وكلّ هذه الآثار إنّما تتحدّث عن أفضليّة الصّدقة على حجّ وعمرة النّافلة في غير وقت الأزمات الجماعيّة الكبيرة؛ فهذا يدلّ على أنّ بذل الأموال المخصّصة لحج وعمرة النّافلة لمنكوبي الزلزال أعظم أجرًا وأفضل بكثير من أداء مناسك التطوّع.

 

فقه الموازنات يؤكّد أفضليّة الصّدقة على المنكوبين على حجّ وعمرة النّافلة

عموم القواعد الفقهيّة التي تقوم على الموازنة بين جلب المصالح ودرء المفاسد أو الموازنة بين القاصر والمتعدّي أو الموازنة بين الضّروريّات والتّحسينيّات؛ تؤكّد أنّ بذل الأموال لمنكوبي الزلزال مقدّم على بذلها لأداء حجّ وعمرة النّافلة.

ومن هذه القواعد؛ قاعدة “درءُ المفاسد مُقدّم على جلب المصالح”؛ ففي أداء عمرة وحجّ النّافلة جلب مصلحةٍ للمرء، وفي بذل المال للمنكوبين درء مفسدة عظيمة وقعت عليهم بل على عموم المجتمع الإسلاميّ، ورفع هذه المفاسد أولى وأعظم وأهمّ من جلب المصالح الذّاتيّة.

ومن القواعد الفقهيّة كذلك “المتعدّي أفضل من القاصر”، وقد صاغها الفقهاء بعبارات عديدة منها “القربة المتعدية أفضل من القاصرة”، و”الحسنة المتعدية إلى الغير أفضل من القاصرة على الفاعل”، وقد استثنى الفقهاء من ذلك الفروض العينيّة.

وهذه القاعدة تؤكّد أنّ إنفاق تكاليف حجّ وعمرة الناّفلة القاصرة على فاعلها لصالح المنكوبين في الزلزال أعظم بكثير لأنّها تتعدّى إلى الغير وتتعدد منافعها التي تقوم على إحياء الإنسان وتخفيف آثار الزلزال والكارثة عن المنكوبين.

ومن تعبيرات الأئمة عن هذه الموازنات ما جاء في “مواهب الجليل شرح مختصر خليل”: “سئل مالك عن الغزو والحجّ أيهما أحبّ إليك قال ‌الحجّ إلا أن يكون سنة خوف؛ قيل: فالحج ّوالصّدقة قال: ‌الحجّ إلا أن تكون سنة مجاعة".

ومن الموازنات المهمّة في هذه المسألة الموازنة بين الضروريات والحاجيّات والتحسينيات؛ فحجّ النّافلة يندرج في رتبة التحسينيّات في حين يندرج إنقاذ الأرواح وإحياء النّاس وإغاثتهم في هذه النكبة العظيمة في رتبة الضّروريّات، والضروريّات مقدّمة على غيرها من الحاجيّات والتحسينيّات.

إنّ عموم الآثار والقواعد الفقهيّة وأقوال الأئمة الأعلام تؤكّد أنّ بذل الأموال المرصودة لحجّ النّافلة أو عمرة النّافلة لمنكوبي الزّلزال المدمّر أعظم أجرًا من أداء هذه المناسك التطوعيّة، فمن ابتغى الأجر الأعظم فعليه صرف هذه التّكاليف لصالح منكوبي الزلزال وألّا يستهين بما يبذل أو يقدّم فالنّاس اليوم بحاجةٍ إلى أيّ مالٍ يقيم صلبهم أو يؤويهم من تشرّد أو يؤمنهم من خوف.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* محمد خير موسى؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمني، كاتب وباحث فلسطيني





التالي
للمرة الأولى.. نادي تشلسي الإنجليزي يعلن عن تنظيم إفطار جماعي في رمضان

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع