تداعيات ومستقبل أزمة إفلاس البنوك الثلاثة في الولايات المتحدة الأمريكية
بقلم: د. أشرف دوابة
شهد، الجمعة الماضي 10 مارس، حدثاً اقتصادياً عالمياً؛ وهو إفلاس بنك «سليكون فالي» ( (SVBالأمريكي، وانتقلت عدوى ذلك إلى بنكين محليين آخرين، هما: بنك «سيجنيتشر» (Signature)، وبنك «سيلفرغيت» (Silvergate)، وهو ما مثل أكبر فشل مصرفي أمريكي منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، لا سيما وأن القاسم المشترك بين هذه البنوك أنها تعمل في تمويل الصناعة الرقمية، وقد فتح باب إفلاس هذه البنوك التكهنات بشأن انفجار أزمة مالية عالمية جديدة أم لملمة الأمر والحيلولة دون اتساعه.
أزمة بنك «سليكون فالي»
تأسس بنك سليكون فالي عام 1983، واتخذ من سان فرانسيسكو مقراً له، وهو بنك الشركات الناشئة بامتياز؛ لذا تعاملت معه العديد من الشركات التقنية الناشئة المدعومة برأس المال المخاطر، ويُعد من بين أكبر 20 بنكاً تجارياً أمريكياً، وقد بلغت إجمالي أصوله بحلول نهاية العام الماضي 209 مليارات دولار أمريكي، وقد اعتمد في سياسته المصرفية على التركز لا التشتت من خلال الاعتماد في ودائعه على عدد محدود من العملاء معظمهم من أصحاب المشروعات التكنولوجية الناشئة.
وقد بدت أزمة البنك التي انتهت بإفلاسه من خلال أزمة التضخم التي أصابت الاقتصاد الأمريكي، وما اتخذه الاحتياطي الفيدرالي من رفع سعر الفائدة، فقد شهد البنك خلال العامين الماضيين تضخمًا كبيرًا في الودائع، حتى بلغت ذروتها بحلول منتصف العام 2022، حيث بلغت نحو 210 مليارات دولار، وكان البنك يستثمر هذه الأموال في السندات الأمريكية طويلة الأجل (30 عامًا)، وفي الوقت نفسه يقدّم فوائد مرتفعة لأصحاب الودائع لجذب السيولة إليه، ولكن اختلف الأمر في النصف الثاني من عام 2022، حيث انتهج الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة منذ مارس 2022 حتى يومنا هذا، وهو ما دفع العديد من أصحاب الودائع إلى سحبها لاستثمارها في السندات قصيرة الأجل (استحقاق 3 أو 6 أشهر) بفائدة تجاوزت 5%، بما يزيد على فائدة الودائع في البنك التي لم تتعدَّ 3.5%.
وأمام هذه السحوبات من الودائع، تعرض البنك لأزمة سيولة حالت بينه وبين الاستمرار في دفع الفوائد على الودائع المتبقية، لا سيما في ظل تباطؤ الإقراض المصرفي بسبب ارتفاع أسعار الفائدة، كما أنه لم يعد بمقدور البنك تحمّل سحب المودعين لمزيد من الودائع، وهو ما دفع البنك لبيع محفظة سندات بقيمة 21 مليار دولار، خسر فيها نحو 1.8 مليار دولار، ثم سعى البنك لمواجهة هذه الأزمة، بإعلانه يوم الأربعاء 8 مارس زيادة رأس المال من خلال جمع 2.5 مليار دولار، ولكنه فشل في ذلك، وبحلول الجمعة 10 مارس اتجهت جهوده للبحث عن مشترٍ للبنك، لكن حالة الذعر عند المودعين وسحبهم الودائع جعل عملية البيع أكثر صعوبة، وفشل هذا الجهد أيضًا، حتى إنه قبلها بيوم واحد -أي يوم الخميس- قام المودعون بسحب ودائع وصلت إلى 42 مليار دولار، وفي نهاية اليوم نفسه كان لدى البنك رصيد نقدي سلبي قدره 958 مليون دولار، وانهار سعر سهمه بنسبة 60%، وكل ذلك أدى إلى تدخل المنظمون في يوم الجمعة فأغلقوا البنك ووضعوه تحت الحراسة القضائية لمؤسسة التأمين على الودائع الفيدرالية.
أزمة بنك «سيجنيتشر»
وقد انتقلت عدوى إفلاس بنك سليكون فالي إلى بنك سيجنيتشر، حيث أعلنت السلطات الأمريكية، مساء يوم الأحد، أنها قررت إغلاق البنك، وهو مؤسسة مالية بولاية نيويورك لديها شركة إقراض عقاري كبيرة، وهو أحد البنوك الرئيسة في عالم العملات الرقمية، وهو من عزز وجودها في نشاطه قبل أن تشهد سوق العملات الرقمية سقوط وخسائر حادة العام الماضي.
وقد بلغت قيمة إجمالي أصول البنك حتى يوم 31 ديسمبر الماضي 110.4 مليارات دولار، في حين بلغ إجمالي الودائع لديه 88.6 مليار دولار، وقد انهار البنك متأثراً بصورة موازية بانهيار بنك سيليكون فالي، التي أثر كل منهما على الآخر، ودفع الذعر بين المودعين بالبنك إلى قيامهم بعمليات سحب كبيرة يوم الأربعاء 8 مارس، وهو ما أثَّر سلباً على مركز البنك المالي، وانتهي بإعلان المنظمين أن إبقاء البنك مفتوحاً قد يهدد استقرار النظام المالي بأكمله.
أزمة بنك «سيلفرغيت»
كما انتقلت عدوى إفلاس بنك سليكون فالي إلى بنك سيلفرغيت، وهو أشهر البنوك الأمريكية التي عملت بقوة في مجال العملات الرقمية المشفرة، وبلغت أصوله ما يزيد على 11 مليار دولار، حيث أعلن البنك، يوم الأربعاء 8 مارس، أنه سوف يوقف عملياته ويبدأ بتصفية أصوله تصفية طوعية، وانخفض سعر سهم البنك بنسبة تجاوزت 36% في تداولات ذلك اليوم.
ولم يكن هذا الإفلاس أيضاً سوى نتيجة طبيعية لسلوك البنك، ففي يناير الماضي، حقق خسارة صافية بلغت حوالي مليار دولار في الربع الرابع من عام 2022، كما تم تسريح 40% من القوى العاملة في البنك، وكان هذا نتيجة لهروب رؤوس الأموال من سوق العملات الرقمية المشفرة التي تعدّ من أهم مجالات عمل البنك. وقد ارتفعت عمليات سحب الودائع من البنك لتنخفض نسبتها بأكثر من 68% إلى 3.8 مليارات دولار، ومن أجل تلبية طلبات السحب الكبيرة هذه اضطر البنك إلى بيع 5.2 مليارات دولار من السندات، كما لجأ إلى بنك قروض الإسكان الفيدرالي للحصول على 4.3 مليارات دولار إضافية، وانتهي أمره بالتزامن مع انهيار بنك سليكون فالي الذي أثر كل منهما سلباً على الآخر.
تداعيات الأزمة ومستقبلها
لقد أدت هذه الأزمة إلى فقدان القطاع المصرفي في أمريكا 190 مليار دولار من قيمته السوقية، نتيجة للتدافع لبيع أسهمه، ومن ناحية أخرى أكدت لجنة تأمين الودائع الفيدرالية –التي أصبح كل من سيليكون فالي وبنك سيجنتشر تحت تصرفها– أن عملاء كلا البنكين سيتم تعويضهم، علماً بأن هذا التأمين يغطي الودائع حتى 250 ألف دولار، وأن ما يربو على 93% من ودائع البنك البالغة 161 مليار دولار غير مؤمن عليها لأنها تزيد على هذا المبلغ، وفي الوقت نفسه أعلن بنك سيلفرغيت أنه سيتم سداد جميع ودائع العملاء بالكامل في ظل التصفية الطوعية للبنك.
وفي هذا الإطار أيضاً، أكد الرئيس الأمريكي جو بايدن أن دافعي الضرائب الأمريكيين لن يتحملوا أي خسائر لهذين البنكين وفق نظام حماية الودائع، مؤكداً الثقة والأمان في النظام المصرفي الأمريكي، مع العمل على تعزيز قواعد البنوك، ومنع هذه الأزمة من التكرار مجدداً.
ومن جانب آخر، لا يمكن إغفال آثار هذه الأزمة التي عمت بوتقة مصائبها بصورة متوازية لبنوك ثلاثة، على العديد من شركات رأسمال المخاطر الناشئة لا سيما شركات التقنية، وتسريح العمالة بها كلياً أو جزئياً، فضلاً عن التأثر السلبي الذي أصاب العديد من بورصات العالم في عالم مفتوح ترتبط فيه الأسواق المالية.
وكل هذا يعتبر إنذاراً مبكراً للنظام الاقتصادي العالمي القائم على اقتصاد وهمي يقدس الديون والنقود ويبني بها هرماً مقلوباً تتضاءل فيه الأصول الحقيقية، ومع ذلك فإن لملمة الحكومة الأمريكية للأزمة وعدم اتساع رقعتها هو الأمر الذي يفرض نفسه لا سيما في ظل الظروف التي يعاني منها الاقتصاد الأمريكي من ارتفاع نسبة التضخم.
ويبقى الدرس الأهم؛ وهو أن الربا كله شر، فرفع الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة، واستثمار البنوك في السندات كان كالمستجير من الرمضاء بالنار، كما أنه درس للعملات الرقمية التي أصبحت سوقاً للمقامرة والغرر، ودرس للذين كذبوا على الناس وادعوا أن فوائد البنوك ليست ربا، وما أفلس بنك سيلكون فالي إلا لعجزه عن تغطية الفوائد على الودائع من الفوائد على القروض، فوظيفته كغيره من البنوك هي التجارة في النقود، والخير كل الخير في النظام الاقتصادي الإسلامي الذي حرم الربا والغرر، وجعل الأصول المالية لا تنفصم عن الأصول الحقيقية، وجعل العملة يتاجر بها باعتبارها وسيطاً للتبادل ومقياساً للقيم، وليس سلعة يتاجر ويقامر فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. أشرف دوابة؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ورئيس الأكاديمية الأوربية للتمويل والاقتصاد الإسلامي "إيفي"