البحث

التفاصيل

تفسير الشيخ شلتوت.. إبداع لم يكتمل

الرابط المختصر :

تفسير الشيخ شلتوت.. إبداع لم يكتمل

بقلم: عصام تليمة

 

تظل هناك رغبة في الكتابة عند كثيرين من علماء الإسلام، وبخاصة علماء الأزهر، عن القرآن الكريم، وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ونادرًا ما تخلو مؤلفات عالم أزهري من ذلك، وبخاصة في الأجيال المتمكنة من العلم الشرعي، فالأزهري قديمًا كان جامعًا بين علوم القرآن والحديث، والفقه والأصول، وغيرها، وهناك جيل تربى على منهج الإمام محمد عبده -رحمه الله- في تفسيره، وظهر تأثرهم به وبمنهجه، ومن هؤلاء العلماء: الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر -رحمه الله-، فقد كتب أكثر من كتاب يتعلق بتفسير القرآن، أهمها كتابه: تفسير القرآن الكريم الأجزاء العشرة الأولى.

قصة تفسير شلتوت للقرآن:

وقصة كتابة شلتوت لهذا التفسير، أنه بدأه على هيئة مقالات في مجلة (رسالة الإسلام)، التي كانت تصدرها دار التقريب بين المذاهب، تلك الدار التي أسست في مصر للتقريب بين السنة والشيعة والمذاهب الإسلامية، وكان من أنشط أعضائها شلتوت -رحمه الله-، وقد أنشأوا لذلك مجلة تعبّر عن الدار هي مجلة (رسالة الإسلام)، وكتب فيها عدد من علماء السنة والشيعة مقالات مطولة، وبحوثًا ضافية، تولى كتابة مقال في التفسير لفترات طويلة الشيخ شلتوت -رحمه الله-.

ولم يكن تفسيرًا بالمعنى الحرفي، أنه يفسر كل آية، ويقف عند أسباب نزولها، وما اشتملت عليه من معانٍ ودروس أو أحكام، ورغم أن اختصاص شلتوت الأصيل هو الفقه، لكن كتابته في التفسير أخرجت لنا ما بداخل الرجل من علم تفسير القرآن الكريم، فقد جاء تناوله للآيات التي فسرها، والسور التي تعرض لها، في شكل جديد لم نألف كثيرًا من تناوله عند مفسرين آخرين معاصرين.

البهي يكلف القرضاوي بجمع تفسير شلتوت:

وقد كتب شلتوت تفسيرًا لمجمل عشرة أجزاء من القرآن الكريم، انتهى به عند سورة التوبة، وظل ما كتبه مقالات لم تجمع، وقد لاحظ الدكتور محمد البهي أنه ليس من اللائق أن يكون شيخ الأزهر وهو أكبر منصب ديني في مصر والعالم العربي، دون أن يكون له إنتاج علمي معتبر، وقد كان شلتوت كتب في المجلات والصحف وغيرها عددًا من المقالات والبحوث المهمة، لكنها متناثرة، وفي أشتات مختلفة.

وكان هناك شابان هما: أحمد العسال، ويوسف القرضاوي، وقد خرجا للتو من المعتقل، وتم تعيينهما في وزارة الأوقاف، بوساطة من الشيخ أحمد حسن الباقوري، فسعى البهي لنقلهما لمشيخة الأزهر، وكلفهما بأن يجمعا تراث شلتوت من المجلات والصحف، ويتم تبويب ذلك إلى كتب، والكتب إلى فصول وأبواب، بما يجعلها متناسقة شكلًا ومضمونًا، وكان من هذا الجهد تفسير شلتوت للأجزاء العشرة الأولى من القرآن الكريم.

إبداعات شلتوت في تفسيره:

القارئ لتفسير شلتوت، سيجد عقلية فقهية هضمت الفقه جيدًا، وتحسن عرضه ولكن بشكل سلس، لا إلغاز فيه، ولا غموض، ويربط ذلك بقضايا العصر الحديث، ولا يغرق في الذهاب إلى قضايا عفا عليها الزمن، بل يبدع في مواضع، فيسقط تفسير آيات على قضايا معاصرة، لا تظنها في واقعنا، ولكن الله يفتح للرجل فتحًا علميًا في تفسيرها، وهذه النماذج كثيرة في تفسير شلتوت، ولكنا نذكر بعضًا منها كنماذج سريعة.

نداءات الإيمان في القرآن الكريم:

لعل أول مفسر معاصر يفرد نداءات القرآن الكريم بالتفسير والشرح، وفرزها وحدها، هو شلتوت، فتجد في السور التي تعرض لها شلتوت بالتفسير، يبين في المقدمة عدد النداءات التي وردت فيها، وبخاصة ما كان متعلقًا بنداءات الإيمان التي تخاطب المؤمنين بـ{يا أيها الذين آمنوا}، ويربط بينهما، باحثًا عن أسرار ورودها وأهميتها، ورغم تعرضه للنداءات التي تكون بـ{يا أيها الناس}، إلى أن تركيزه اتضح أكثر في نداءات الإيمان.

من لم تبلغه الدعوة الإسلامية صحيحة لا يعذب:

من أهم الآراء التي تعرض لها شلتوت في تفسيره، قضية غير المسلم الذي لم تصله دعوة الإسلام صحيحة، أو لم تصله بالأساس، فبيّن شلتوت أن هناك فرقًا بين من وصلته واضحة بينة، ثم أنكرها وجحدها، فهذا تنطبق عليه آيات الإعذار والتعذيب، أما ما عدا ذلك، فليس من أهل الوعيد، مستدلًا بقوله تعالى: {وَمَن ‌يُشَاقِقِ ‌ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فقال شلتوت:

 

(والآية بعد ذلك صريحة في أن الوعيد المذكور فيها هو لمن يشاق الرسول ويبارزه بالمناوأة والعداوة بعد أن يتضح له الحق، ويظهر بدلائله البينة فيعرض عنه عنادًا واستكبارًا، أو اتباعًا لشهوة أو جاه زائل، أو خوفًا من لوم الناس وتعنيفهم، وهذا يقتضى أن تكون دعوة الحق قد بلغته على وجهها الصحيح دون تحريف ولا تشويه، ووصل بنظره فيها وفيما أقيم عليها من أدلة إلى إدراك حقيقتها، ثم انسلخ عنها وأعرض، لمن لم تبلغه الدعوة أصلًا، أو بلغته مشوهة، ولم يتهيأ له سبيل النظر فيها عن طريق مظهر جميل يغريه بها وبالنظر فيها، أو بلغته على وجهها الصحيح ونظر، وظل ينظر طول حياته ابتغاء الوصول إلى الحق، ولكنه مات ولم يتبين له الحق، كل أولئك لا ينالهم في حكم الله، هذا الوعيد المذكور في قوله: (نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا).

هذا هو ما يفهم من الآية، وهو واضح أن الشعوب النائية التي لم تصل إليها دعوة الإسلام، أو لم يصور لهم الإسلام إلا تصويرًا سيئًا منفرًا، أو لم يفقهوا حجته مع اجتهادهم في بحثها وتجرد أنفسهم لمعرفة حقيقتها، هم جميعًا بمنجاة من هذا العقاب وليسوا عند الله كفارًا يخلدون في النار).

مدة الإرضاع والفطام:

من اللفتات المهمة التي دلت على عمق نظرة شلتوت الفقهية والقرآنية في تفسيره، أنه تعرض لقوله تعالى: {وَٱلۡوَٰلِدَٰتُ ‌يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِۖ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، وتعرض لآيات أخر تتعلق بسن الرضاع والفطام، مثل قوله تعالى: {حَمَلَتۡهُ أُمُّهُۥ كُرۡهٗا وَوَضَعَتۡهُ كُرۡهٗاۖ وَحَمۡلُهُۥ وَفِصَٰلُهُۥ ‌ثَلَٰثُونَ ‌شَهۡرًا} [الأحقاف: 15]، ناقش شلتوت الفقهاء الذين جعلوا من الآيات دليلًا على مدة الحمل، ومدة الإرضاع، على أنها أمر تشريعي، على أقل مدة الحمل، ومدة الرضاع، واعتبار عدد من الفقهاء الطفل الذي يولد قبل ستة أشهر ليس ابنًا شرعيًا، أو عدم التحريم بما بعد سنتي الرضاع، ورد شلتوت بكلام في غاية الأهمية والتأمل في الآيات، فقال:

(والحق أن القرآن لم يكن من قصده في تلك الآيات إلا أن يشير إلى المتاعب التي تلحق الأم من جهة الأبناء، متاعب حمل، ومتاعب إرضاع في تلك المدة التي يألفها الناس جميعًا، والتي لا تزيد عن ثلاثين شهرًا، فالذي يؤخذ من القرآن أن مدة الحمل والفصال لا تزيد عن ثلاثين شهرًا، أما ما عدا ذلك فقد وكل أمره بخبرة الأطباء وعلماء تكون الجنين، على أن المذكور في الآية لم يكن من قبل التحديد، وإنما كان من قبيل الشائع الكثير).

القصص القرآني حقيقة لا تمثيل أو تخييل:

ولم يخل تفسير شلتوت من مناقشة المعاصرين وموقفهم من القصة القرآنية، وبخاصة أن موضوع القصص القرآني أثير في حياة شلتوت، بل عرضت عليه رسالة محمد خلف الله عن (القصص الفني في القرآن)، لإبداء الرأي في الرسالة، بعد أن ثارت قضيتها على صفحات مجلة (الرسالة) المصرية، وثار لغط حولها، ودار نقاش سواء على مستوى المشرفين على الرسالة، أو الباحث صاحب الرسالة نفسه (خلف الله)، وتعرض شلتوت للقضية في تفسيره، مخالفًا في ذلك الرأي الذي أثاره خلف الله، وإن حذفه من الرسالة عند نشرها، وغيّر كثيرًا فيما نشر بعد الضجة.

كما خالف شلتوت ما ذهب إليه الشيخ محمد عبده من أن قصة بقرة بني إسرائيل هي ليست قصة، بل تشريع عند اليهود، فيمن قتل ولم يعرف قاتله، وذلك هربًا من اعتراض المستشرقين بأن القصة ليست موجودة في التوراة، وهي كتاب اليهود المقدس، وذهب آخرون كالشيخ عبد الوهاب النجار في تفسير قوله تعالى: {فَقُلۡنَا ‌ٱضۡرِبُوهُ ‌بِبَعۡضِهَاۚ كَذَٰلِكَ يُحۡيِ ٱللَّهُ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَيُرِيكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} [البقرة: 73]، مقصود به ضرب المتهم بيد القتيل من الخلف، من باب التلاعب بأعصاب القاتل ونفسيته، فينهار ويعترف بالقتل، كنوع من المواجهة غير المباشرة، وقد رد شلتوت في تفسيره على هذه الحجج كلها، مبينًا أن القصة في القرآن قصة حقيقية بكل أركانها، إلا ما كانت من باب ضرب المثال.

إبداع لم يكتمل:

تفسير شلتوت للأجزاء العشرة الأولى من القرآن الكريم، تفسير مبدع، اتضحت فيه معالم إبداع وتجديد شلتوت الفقيه والمفسر الكبير، لكنه للأسف لم يكتمل، فلم يفسر القرآن كاملًا، بل انتهى عند سورة التوبة، والتفسير نفسه لم يكن للآيات كلها، بل ينظر نظرة عامة، وينتقي بعض المواضع ليفصل فيها شلتوت، ويبرز فيها رأيه المهم، سواء كان الموضع يتعلق بحكم فقهي، أو عقدي، أو فكرة معاصرة تتعلق بالنظم السياسية أو المالية أو الاجتماعية المعاصرة، مبينًا موقف القرآن الكريم منها، ليكون ما قدمه نموذجًا لتفسير فقيه معاصر، في لغة سلسة، وتجديد لا يخلو من الجرأة والانضباط معًا.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. عصام تليمة؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ومن علماء الأزهر، حاصل على الدكتوراه في الفقه المقارن





التالي
فتوى حول مدى عدم قبول الصلاة من شارب الخمر 40 يوماً

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع