معركة حطِّين.. فتح رمضانيّ أسس لمرحلة جديدة من الانتصارات والتقدم
بقلم: د. علي الصلابي
معركة حطين معركة فاصلة بين الصليبيين والمسلمين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وقعت في يوم السبت 25 ربيع الثاني 583 هـ الموافق 4 يوليو 1187 م بالقرب من قرية المجاودة، بين الناصرة وطبرية في فلسطين، انتصر فيها المسلمون، ووضع فيها الصليبيون أنفسهم في وضع غير مريح استراتيجيا في داخل طوق من قوات صلاح الدين، وأسفرت عن تحرير مملكة القدس وتحرير معظم الأراضي التي احتلها الصليبيون. (معركة حطين.. أحداث ونتائج)
لقد استطاع صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله ـ أن يوحِّد الأمَّة، ويجمعها على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيل الله، وتحرير البلاد الإسلامية، فأصبحت الشام، ومصر، والحجاز، واليمن، والعراق تحت إمرته، وقيادته، وحشد لهـذه المهمة العلماء، والفقهاء، والجيوش، والألوف من المجاهدين، وفي مقدِّمتهم العلماء، والفقهاء يحرِّضون المقاتلين على القتال، وكوَّن جيشاً برياً قوياً، وأنشأ أسطولاً بحرياً، وأنفق عليه أموالاً طائلةً.لتندلع إحدى أهم المعارك المفصلية في تاريخنا الإسلامي، ويمكن ان نرصد العديد من الدروس والعبر انطلاقا من استقرائنا لأحداث ونتائج تلك المعركة:
1 ـ معركة فاصلة وحاسمة:
توصف معركة حطِّين بأنها معركةٌ فاصلةٌ، وحاسمة؛ لأننا نلاحظ: أنها غيَّرت خريطة التوزيعات السياسية في المنطقة، ففي أعقابها اتَّجه ذلك السُّلطان المجاهد إلى فتح مدن السَّاحل الشامي، وتساقطت الواحدة تلو الأخرى باستثناء صور ذات المنعة، والحصانة، وهكذا تمَّ حل مشكلة السَّاحل الشامي؛ الذي طرد منه المسلمون منذ أعوام طوال، ولم يعد المسلمون أصحاب وجود بريٍّ حبيس، وهكذا تساقطت مدن عكَّا، ويافا، وصيدا، وبيروت، وجبيل، وعسقلان، وغيرها، والواقع أنَّ من يطالع نصوص المصادر التاريخية لذلك العصر تتملَّكه الدَّهشة من موجة سقوط المدن الصليبية بصورة غير مسبوقة عكست التفوُّق العسكري السَّاحق للمسلمين ضدَّ أعدائهم (مؤنس،2000، ص219)، كما تهاوت القلاع الصَّليبية التي طالما أغارت على مناطق المسلمين،( ابن شداد، 2003، ص96) وأحالت حياتهم أحياناً إلى جحيم. ومن أمثلة القلاع؛ التي تهاوت أمام فعاليات الجيش الأيوبي نذكر: طبرية، صفد، هونين، تبنين، بغراس، دربساك، حجر شغلن، القصير، وغيرها كثير، ومن بعد ذلك جاء فتح المسلمين لبيت المقدس عاصمة الكيان الصَّليبي.( مؤنس،2000، ص،220)
2 ـ بداية النهاية للوجود الصليبي:
كانت معركة حطين أعظم من مجرَّد كارثة عسكريَّة حلَّت بالصليبيين، لقد كانت في حقيقة أمرها بشيراً بنجاح المسلمين في القضاء على أكبر حركة استعمارية، شهدها العالم في العصور الوسطى، كما شكَّلت حدَّاً تراجع عنده المدُّ الصَّليبي باتجاه الشرق الأدنى الإسلامي، وبداية النهاية للوجود الصليبي، وقد أنهت المعركة زهاء تسعة عقود من الاضمحلال، والتدهور، والتشرذم في المنطقة الإسلامية في الشرق الأدنى؛ لتؤكد أهمية الوحدة بين أقطار هذه المنطقة الجغرافية في جنوب غرب اسيا، وفي مصر في مواجهة كلِّ الأخطار.
لقد أسَّسَتْ حطين بدايةً جديدة لموازين القوى، وأكَّدت: أنَّ قوة الفرنج يمكن أن تقهر، وقد كشفت الدراسات التاريخية الحديثة؛ التي بحثت تفاصيل تلك المرحلة: أنَّ معركة حطِّين انتهت بانتصار صلاح الدين؛ لكنَّها لم تقتلع نهائياً وجود الفرنج، فهي استراتيجياً معركةٌ فاصلةٌ بين حدَّين؛ أي: أنها ختمت مرحلة التراجع، والهزائم، وأسَّسَتْ مرحلة الانتصارات، والتقدُّم، وشقَّت الطريق الطويل، والصعب؛ الذي شهد الكثير من الصُّعود، والهبوط، والهجوم، والهجوم المضاد إلى أن تمَّ خلخلةُ مواقع الفرنج، وتفكيكُ ممالكهم، وطردُهم من المنطقة.( طقوش،1999، ص153)
3 ـ ارتفاع قدر صلاح الدين:
من أسماء الله عز وجل الرَّافع، فقد كانت معركة حطين من الأسباب التي رُفع الله بها صلاح الدين، وأصبح في صفوف كبار المجاهدين، والقادة، والحكَّام المسلمين، كما أعادت للمسلمين الثقة بالنَّفس، والكرامة التي كانوا قد فقدوها بعد وفاة نور الدين محمود، وقد كان لهذا النَّصر صدىً بالغٌ في نفوس المسلمين بعامة، وأهالي دمشق بخاصَّةٍ؛ لأنَّ دمشق كانت انذاك مركز أعماله، ومقرَّه، وفيها قضاته، وكُتَّابه؛ الذين كانوا طوال أوقات المعركة ساجدين لله، وقائمين يدعون له بالنَّصر على أعدائه، ولما علموا بالانتصار؛ عبَّروا عن فرحهم بالدُّموع، والكلمات المؤثرة التي تضمَّنت عبارات الشكر، والحمد لله.
4 ـ معركة حطين مفتاح بيت المقدس:
كانت معركة حطين معركة تحرير فلسطين؛ لأنَّها هي التي فتحت طريق النصر إلى بيت المقدس، وباقي فلسطين، وقد وصف ابن واصل هذه المعركة بقوله: كانت وقعة حطِّين مفتاح الفتوح الإسلامية، وبها تيسَّر فتح بيت المقدس، وعدَّها حلقةً وسط بين فتوحات نور الدين محمود، وركن الدِّين بيبرس البندقاري. فمنذ وفد ملوك الفرنج إلى البلاد الساحلية، واستولوا عليها؛ لم يقع للمسلمين معهم يومٌ كيوم حطين، فرحم الله الملك الناصر، وقدَّس روحه، فلم يؤيَّد الإسلام بعد الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ برجل مثله، ومثل نور الدين محمود بن زنكي، رحمة الله عليهما، فهما جدَّدا الإسلام بعد دروسه، وشيَّدا بنيان التوحيد بعد طموسه، ثمَّ أيد الله الإسلام بعدهما بالملك المظفَّر ركن الدين بيبرس، وكان أمره أعجب؛ إذ جاء بعد أن استولى التتار على معظم البلاد الإسلاميَّة، وأيس الناس أن لا انتعاش للملَّة، فبدَّد شمل التتار، وحفظ البلاد الإسلامية، وملكَ من الفرنج أكثرَ الحصون السَّاحلية.( طقوش،1999، ص 154)
5 ـ أهمية الوعي الجغرافي:
أبرزت هذه المعركة أهمية الوعي الكامل بضرورة توظيف معطيات الموقع الجغرافي للشَّرق الإسلامي، واستثمار ميِّزاته؛ بحيث يكون عاملاً فاعلاً من عوامل القوَّة الذاتية، ومن دلالات المعركة بروز أهمية مصر كقاعدة بشرية مادية بالغة الأهمية في الرَّبط بين العالم الإسلامي في الشرق الأدنى، كما تجلَّت أهمية أرض فلسطين؛ التي تُعدُّ بمثابة الجسر، أو المعبر الذي يصل بين بلاد الشَّام، ومصر.( طقوش، 1999، ص 154)
6 ـ هيبة صلاح الدين ممزوجة بالإعجاب والإجلال:
غدا لاسم صلاح الدين بعد الانتصار من الرَّهبة في قلوب الصليبيين الممزوجة بالإعجاب، والإجلال؛ نظراً لما اتصفت به فتوحاته من النُّبل، والشهامة، والمروءة، كما كان لتسامحه معهم، وحسن معاملته لأسراهم أثرٌ كبيرٌ في استسلام العديد من المدن، والحصون دون مقاومةٍ تُذكر. والواقع: أنَّه أظهر رحمةً، وفروسيةً كبيرتين في تعامله مع الصَّليبيين، وبفضل هذه السَّجايا مارست جيوشُه ضبط النفس عند النَّصر، وتجنَّبت ارتكاب الأعمال الوحشية الشَّائعة في ذلك الوقت. ففي معرض الحديث عن مروءة صلاح الدين لزوجات، وبنات الصَّليبيين كتب أرنول: لقد أعطاهنَّ الكثير لدرجة أنهنَّ حمدن الله، ونشرْن في الخارج الكثير عن العطف، والإجلال؛ الَّلذين أسداهما لهنَّ صلاح الدِّين. كما أكرم إسكيفا زوجة ريموند
الثَّالث، فسمح لها بأن تخرج من قلعة طبرية بالأمان، فخرجت بمالها، ورجالها، ونسائها، وسارت إلى طرابلس.
7 ـ الجهود التراكميَّة التي سبقته:
لم تأت انتصارات صلاح الدين من فراغ، ولم تكن النتائج العسكرية التي حقَّقها دون مقدِّمات سياسية، وتنظيمية، وإدارية، وإصلاحية، وإحيائية امتدَّت على أكثر من قرن إلى أن بدأ قطف ثمارها في عهدي عماد الدين زنكي، ونور الدين زنكي، والأخير يعتبر المؤسِّس الحقيقي للتحوُّلات الكبرى؛ التي شهدتها بلاد الشام، ثمَّ مصر.( طقوش، 1999، ص154)
وفي هذه الأجواء العلمية تلقَّى صلاح الدين دروسه، وتربيته الدِّينية، فتعلَّم على يد المحدِّث أحمد بن محمد الأصبهاني، والواعظ علي بن إبراهيم بن نجا، ونجم الدين الحبوشاني، وهؤلاء جزء من الفقهاء، والعلماء؛ الذين أشرفوا على تربية الجيل الثالث من القيادات السياسية، والعسكرية.
* ملاحظة هامة:
هذا المقال استند بشكل كبير على كتاب" تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة " لمحمد سهيل طقوش
مراجع البحث:
علي محمد الصلابي، صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس، دار المعرفة، بيروت، 1429ه-2008صص 428-431
بهاء الدين بن شدَّاد، النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، تحقيق أحمد إيبيش، دار الأوائل سوريا، 1430ه- 2003 م.
وليد نويهض،صلاح الدين الأيوبي سقوط القدس وتحريرها ( قراءة وتحريرها)، دار ابن حزم،1417ه-1997م
محمد سهيل طقوش، تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة دار النفائس، الطبعة الأولى، لبنان 1400 هـ 1999 م.
الحروب الصليبية العلاقات بين الشرق والغرب، محمد مؤنس، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية، مصر 1420ه2000 م،