البحث

التفاصيل

أروقة الأزهر.. مؤسسة مواطنة وقوة مصر الناعمة

أروقة الأزهر.. مؤسسة مواطنة وقوة مصر الناعمة

بقلم: عصام تليمة

 

في السابع من رمضان كل عام يحتفل الأزهريون باليوم العالمي للأزهر، حيث إنه اليوم الذي أسس وأنشيء فيه هذا الصرح العالمي الكبير، الذي يعد من أهم معالم وقلاع مصر الحضارية والذي تجاوز ألف عام، والحديث عن الأزهر يصعب لكثرة تفاصيله، ولكنا سنخصص الحديث هنا بإيجاز عن أروقة الأزهر، فمن دخل الجامع الأزهر سيجد عند دخوله لافتات على بعض الجدران باسم: رواق الأتراك، رواق المغاربة، وهكذا، فما قصة هذه الأروقة وما دورها في تاريخ مصر والأزهر؟

أروقة الأزهر:

الأروقة الأزهرية هي موضع إقامة طلاب الأزهر، وهو أشبه بما نعرفه في المدارس الحديثة بالمدرسة الداخلي، التي يدرس ويقيم فيها الطالب، وبنظرة إلى الخريطة الجغرافية لأروقة الأزهر، يتضح بإنصاف مدى قوة الدور المؤسسي للأزهر، سواء على المستوى المحلي داخل مصر، أو المستوى العالمي خارجها، حيث تنقسم أروقة الأزهر إلى قسمين مهمين: أروقة للمصريين، وأخرى لغير المصريين. وخير من فصل في نظام هذه الأروقة وتاريخها الدكتور عبد العزيز الشناوي في كتابه: (الأزهر جامعا وجامعة)، وعنها نقلنا معظم المعلومات الواردة.

أروقة المصريين:

أما عن الأروقة المصرية، فقد كانت بحسب محافظات مصر، وهي اختصارًا:-

رواق الصعايدة: وهو مخصص للطلبة من وجه قبلي (الصعيد). ورواق الشرقاوية: وهو مخصص للطلبة من إقليم الشرقية. ورواق البحيرة أو البحاروة: وهو مخصص للطلبة الوافدين من مدن وقرى إقليم البحيرة. ورواق الفيومية: وهو يستقبل الطلبة الوافدين من إقليم الفيوم.

ورواق العميان: ومن اسمه واضح أنه رواق يضم الطلبة الذين فقدوا نعمة البصر. وهو دلالة واضحة على اعتناء الأزهر كمؤسسة للأمة، بشريحة مهملة من أبنائها، وقد كان لرواق العميان تاريخ حافل، من حيث العلم، أو النضال ضد الظلمة، أو المستعمرين لمصر، وبخاصة فترة الاحتلال الفرنسي لمصر، وقد كان شيخ الرواق آنذاك شيخ يسمى: الشيخ سليمان الجوسقي، وقد كون كتيبة مجاهدة من العميان، أوجعوا الفرنسيين، إلى أن أعلن نابليون بونابرت عن مكافأة لمن يقبض أو يقتل الشيخ الجوسقي، وتم القبض عليه، وأعدمه نابليون بإلقائه من فوق جبل القلعة، ولم يسلم جثمانه للأزهريين لدفنه.

وهناك أروقة تنسب للمذاهب: كرواق الأحناف، ورواق المالكية، ورواق الشافعية، ورواق الحنابلة، وهناك أروقة أخرى تحمل أسماء لا تتعلق بالأماكن، ولكنها أروقة خاصة بالطلبة المصريين مثل: رواق الفشنية، ورواق الشنوانية، ورواق الأقبغاوية، ورواق ابن معمر، والرواق العباسي.

أروقة غير المصريين:

كل الأروقة سابقة الذكر يقطنها مصريون من جميع محافظات مصر، وهناك أروقة لغير المصريين، وهي كالتالي:

رواق الشوام: وهو مخصص للطلاب الوافدين من بلاد الشام، بالمعنى التقليدي القديم للشام، ويشمل حاليًا بلاد: فلسطين، ولبنان، وسوريا، والأردن. ورواق المغاربة: وهو مخصص للطلبة الوافدين من برقة، وطرابلس، وتونس، والجزائر، ومراكش (بلاد المغرب الآن). ورواق الأتراك: وهو مخصص للطلبة الوافدين من البلاد التي تسمى الآن: الجمهورية التركية، ويوغوسلافيا، وألمانيا، وكذلك من الاتحاد السوفيتي، وتركستان.

ورواق الحرمين: وأطلق عليه رواق المكاويين، تشريفًا لاسم مكة المكرمة، وهو مخصص للطلبة الوافدين من مكة المكرمة، ومدن الحجاز مثل: المدينة المنورة، والطائف، وجدة، وينبع وغيرها. ورواق اليمنية، وهو مخصص للطلبة الوافدين من اليمن.

ورواق البرنية: وهو مخصص للطلبة الوافدين من بلاد: السنغال، والنيجر، وغينيا، وساحل الذهب (العاج)، وغانا. ورواق الجبرتية: وهو مخصص للطلبة الوافدين من: الحبشة، وإريتريا، والصومال. وإلى هذا الرواق (الجبرتية)، ينتسب المؤرخ المصري الكبير: الجبرتي. ورواق البرابرة: وهو مخصص للطلبة الوافدين من موريتانيا، وما جاورها من أقاليم.

ورواق السليمانية: وهو مخصص للطلبة الوافدين من أفغانستان، ولذلك أطلق عليه فيما بعد: رواق الأفغان. ورواق الجاوة: وكان مخصصًا للطلبة الوافدين من: إندونيسيا، والفلبين، وماليزيا. ورواق الدكارنة: وهو مخصص للطلبة الوافدين من بلاد تكرور، وسنار، ودار فور. ورواق دكارنة صليح: وهو مخصص للطلبة الوافدين من إقليم تشاد في وسط إفريقية.

ورواق الأكراد: وهو مخصص للطلبة الأكراد السنيين الوافدين من شمال العراق، وبلاد الشام، والأناضول، وغيرها. ورواق البغدادية: وهو للطلبة الوافدين من العراق، والبحرين، والكويت، وكان يطلق عليه أحيانًا رواق البغادة. ورواق الهنود، وهو مخصص للطلبة الهنود، بما يشمل الهند بمكوناتها قبل التقسيم: الهند، وباكستان، وبنجلاديش.  ورواق السنارية: وهو مخصص للطلبة الوافدين من إقليم: سنار في السودان. ورواق الصين ورواق جنوبي إفريقية: وهما رواقان صغيران، للطلبة الوافدين من هاتين المنطقتين.

أروقة الأزهر قوة مصر الناعمة دوليا:

الناظر لهذه التفاصيل لهذه الأروقة، ولدورها، ولمن يدرسون فيها، من حيث التقسيم الجغرافي، والمذهبي، والعرقي واللغوي، سيجد أنه لم يترك بقعة من بقاع العالم الإسلامي إلا وفتحه لأبنائه من طلبة العلم الشرعي، وهو ما يعني شبكة قوية جدا من القوة الناعمة، من حيث التأثير والتواصل على مستوى العالم.

وقد تجاوز بذلك أن يكون مؤسسة محلية، أو صغيرة الحجم، يقف دورها عند رسالة العلم، ولو قام بها وحدها لكفاه، بل تنوع دور الأزهر، بين العلمي، والثقافي، والسياسي، والاجتماعي، والمالي، والمحلي والإقليمي، والعالمي، ولكنه امتدت إليه يد السلطة في القرن العشرين فأفسدت دوره العلمي والرسالي.

الأروقة والتربية السياسية لطلابه:

وكان نظام الأروقة نموذجًا للتربية السياسية للدارس في الأزهر، من حيث النظام والإدارة، إضافة إلى الجانب العلمي، فقد كان نظام الأروقة أن لكل رواق شيخًا بمثابة رئيس له، يدير شؤونه، وينظم أوضاع أفراده من جميع النواحي التي تعين على أداء الرسالة العلمية للأزهر وطلابه، ومنها الجانب الأخلاقي.

وشيخ الرواق له نفوذ يستند إلى مكانته عند الأزهر وطلابه والمجتمع، فهو يتصل مباشرة في أي مشكلة بشيخ الأزهر، أو بالمسؤولين في الدولة آنذاك، بحسب المسميات الإدارية.

شيخ الرواق بالانتخاب لا التعيين:

وشيخ الرواق لا يتم تعيينه بقرار من شيخ الأزهر، أو الدولة، بل يتم اختياره بالانتخاب الحر من طلبة الرواق، فعندما يخلو منصب شيخ الرواق بوفاة شاغله، أو لسبب آخر، كان طلبة هذا الرواق يعقدون اجتماعًا ويختارون شيخ رواقهم، ويكتبون مذكرة أو عريضة يوضحون فيها أسباب اختيارهم له، وغالبًا ما تكون هذه الأسانيد محصورة في انتمائه للإقليم (وهو شرط لشيخ الرواق أن يكون من نفس إقليمه)، واشتغاله بالتدريس بالأزهر، وكبر سنه وورعه، وترفعه عن الصغائر، وما إلى ذلك.

وطريقة اختيار شيخ الرواق، هي نفس طريقة بقية الأروقة، وليست مقتصرة على أروقة المصريين، وهو ما يعني تربية الطلبة على نظام الانتخاب الحر المباشر للمسؤول عنهم، وعدم فرض شخصية عليهم، وإن كان دور شيخ الرواق – كما نرى – إداريًا، ولكنه يتعلق بالعملية التعليمية والأخلاقية كذلك، لذا تم وضع شروط تتعلق بمهام العمل، لا تخل بها، وترك في إطار هذه الشروط المهمة أن يختار طلبة الرواق من يريدونه.

ونلحظ أمرًا مهمًا آخرَ في اختيار شيخ الرواق، وهو شرط: أن يكون من المنطقة الجغرافية التي منها طلبة الرواق، لأن هذا أدعى لقربه منهم، ومن نمط تفكيرهم، وعاداتهم الاجتماعية، حتى لا يحدث نفور أو تنافر، أو وجود مساحة من التعصب، وهي شروط مهمة وتتكامل مع الشروط العلمية التي وضعت للمنظومة الأزهرية، والتي تتعلق بالمناهج والشيوخ والحياة العلمية داخل مؤسسة الأزهر.

زعماء وثوار خرجوا من أروقة الأزهر:

كان للأروقة دورٌ كبيرٌ في دعم الشعوب الإسلامية، ودعم قضاياها، والتواصل والترابط بينها، ولا غرو أن وجدنا من بين طلاب الأروقة الأزهرية رؤوساء دول في القرن العشرين، مثل: الرئيس الجزائري هواري بومدين، والرئيس المالديفي السابق.

وقد اتضح أثر أروقة الأزهر في طلابه، وفي اهتمامهم بالعمل السياسي العام، فقهًا، وممارسة، وبنظرة على أسماء من قام الاحتلال الفرنسي بإعدامهم في قضية مقتل القائد الفرنسي: (كليبر)، سيتضح له هذا الأثر بجلاء، سنجد قاتل كليبر هو: سليمان الحلبي، ومعروف من اسمه النسبة لحلب في سوريا.

وتم إعدام أربعة آخرين معه، وهم:

1ـ الشيخ عبد الله الغزي، شاب في الثلاثين من عمره.

2ـ الشيخ محمد الغزي، وعمره خمسة وعشرون عامًا.

3ـ الشيخ أحمد الوالي الغزي، متوسط العمر.

4ـ الشيخ عبد القادر الغزي، شاب في متوسط العمر، وكان صديقًا مقربًا من سليمان الحلبي.

والملاحظ أن: الأربعة الذين ساعدوا سليمان الحلبي على قتل كلبير، كلهم من أبناء (غزة)، ولذا كان نسبة كل اسم منهم لموطنه، فنجدهم جميعًا يلقبون بـ: الغزي. وكلهم وظيفتهم واحدة: قارئ للقرآن الكريم بالأزهر.

مؤسسة الأزهر والمواطنة (رواق الأقباط):

وقد دل عمل الأروقة في الأزهر بأنه كان مؤسسة للأمة كلها، بكل مكوناتها، وفتح أبوابه العلمية، للمصريين وغير المصريين، والعرب والعجم، والمسلمين وغير المسلمين، فالناظر إلى كم غير المسلمين الذين درسوا في الأزهر، أو المستشرقين الذين درسوا فيه، سيخرج بشهادة للأزهر بحضارية دوره، ومؤسسيته الكبرى، فوجدنا عددا من كبار المستشرقين مثل: جولد زيهر، وماسينيون، وغيرهما ممن درسوا في الأزهر.

كما كان لمؤسسة الأزهر دور مع فصيل من أبناء الأمة العربية، وهم أقباط مصر، حيث تعلم كثيرون منهم فيه، وتأثر عدد غير قليل منهم بعلمائه، فقد ذكرت صحيفة (الوطن) القبطية في 5 من مايو سنة 1916 أنه كان للأقباط قديمًا رواق بالأزهر يتلقون فيه العلوم المنطقية والشرعية، وهو ما يعرف تاريخيًا باسم: (رواق الأقباط). وهناك كثيرون من الأقباط الذين درسوا في الأزهر، وليس هنا مجال التفصيل عن أسمائهم.

دلالات تعليم أقباط الصعيد في الأزهر:

ما يتعلق بمعلومات تعلم الأقباط في الأزهر، استقيت معظمها من مصادرها عند أهلها الأقباط أنفسهم، وهي مراجع معتمدة عند أهلها، وفي هذه المعلومات عدة دلالات مهمة:

أولًا: يثبت أن الدراسة لعدد من الأقباط كانت دراسة منهجية، فمعظمهم ظل لسنوات طويلة يدرس في الأزهر، ودرسوا كتبًا منهجية على نظام الأزهر المعروف. وكثير منهم انتهت رحلته بإتمام الدراسة.

ثانيًا: لم يرَ الأقباط آنذاك أية غضاضة في تلقي العلم في جامع وجامعة وهي الأزهر، ومنهم موقف البابا كيرلس – وهو من رجال الإصلاح التعليمي في الكنيسة، وفي تاريخ الأقباط في مصر في العصر الحديث، الذي جعل المعلم ميخائيل مرتلًا. ولم يرَ بأسًا – أو ضيقًا – بأن يدرس هذا التلميذ القبطي ويكمل دراسته في الأزهر، بل ويشجعه على ذلك.

ثالثًا: وهو الأمر اللافت للنظر أكثر هنا: هو أن معظم من تعلموا في الأزهر كانوا من أبناء الصعيد في مصر، وهي دلالة مهمة إذ تبين أن العلاقة بين المسيحيين والمسلمين كانت قائمة على المواطنة الكاملة، وعدم الحساسية التي بدأت تتسرب للمجتمع المصري فيما بعد، والتي أصبح الصعيد – فيما بعد الحكم العسكري – مثار أحداث طائفية، لعل دارسًا يُعنى بهذه المسألة والوقوف على أسبابها التاريخية والسياسية والاجتماعية.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. عصام تليمة؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. من علماء الأزهر، حاصل على الدكتوراه في الفقه المقارن.





التالي
الأمين العام للاتحاد يستقبل وفدا من مؤسسة مبادرة للمسؤولية المجتمعية والوفد المرافق له
السابق
ألمانيا.. هكذا ساهم مسجد السلام في الحفاظ على تعليم اللغة العربية ونشر الثقافة الإسلامية بين المهاجرين..

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع