البحث

التفاصيل

أكذوبة الإلحاد (6) موسى (عليه السلام) وفرعون والملأ... الإنذارات الأخيرة قُبيل التحدّي الأكبر

الرابط المختصر :

أكذوبة الإلحاد (6) موسى (عليه السلام) وفرعون والملأ... الإنذارات الأخيرة قُبيل التحدّي الأكبر

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

 

ذكرت في المقالات السابقة الحوار الذي بدأ بين موسى وهارون (عليهما السلام) وفرعون وملئه، ابتداءً من اللقاء الأول الذي سأل فيه فرعون عن الإله، ثم امتد الحوار وموسى عليه السلام يبين له الحجج والدلائل على صدق دعوته وحقيقة نبوته وكلامه عن رب العباد وآثاره في الأرض والحياة، التي تبين لكلّ عاقل أن في للكون رباً واحداً لا شريك له، و{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وفرعون مع كل ذلك يستكبر ويعاند كما مرّ. وفي هذا المقال التحذير الكبير، والنداء الأخير من موسى (عليه السلام) لفرعون وملئه قبل وقوع التحدي الأكبر، بين موسى وكبار سحرة المملكة الفرعونية.

قال تعالى: ﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى﴾ ]طه:٦٠[.

يحمل السياق في هذا التعبير كل ما قاله فرعون وما أشار به الملأ من قومه وما دار بينه وبين السحرة من تشجيع وتحميس ووعد بالمكافأة وما فكر فيه وما دبَّر هو ومستشاروه يُجمع في جملة ﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى﴾، وتُصور تلك الآية الواحدة القصيرة ثلاث حركات متواليات: ذهاب فرعون، وجمع كيده، والإتيان به. [في ظلال القرآن، ٤/٢٣٤].

قال تعالى: ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ ]طه:٦١[.

لما نظر موسى إلى الحشد الكبير لم يفقد ثباته وهدوءه واستشعر أن الله معه بحفظه وتأييده، وأنه يسمع ويرى كل ما يجري، فازداد إيماناً ويقيناً وتصميماً على المواجهة وقبول المناظرة والتحدي، وتصرَّف موسى مع هذا الحشد الكبير بحكمةٍ وفطنة، وأراد أن يشن عليهم حرباً نفسية قبل بدء المعركة، بحيث يزعزع كيانهم ويهز ثقتهم بأنفسهم ويضعف معنوياتهم، وأقبل على السحرة المتجمعين قائلاً: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ ]طه:٦١[.

قال تعالى: ﴿فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾ ]طه:٦٢[.

الفاء للسببية؛ يعني بسبب ذلك القول الرهيب لمست كلمات موسى اليقينية قلوبهم: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾، وخافوا عذاب الله وعزفوا عن الاشتراك في المباراة، ورغبوا في عدم مواجهة موسى هذا القسم الأول، والقسم الثاني: أصروا على موقفهم ورغبوا في الاستمرار في المواجهة حتى النهاية، ويعتبر انقسام السحرة إلى قسمين، وهم مدعومون من كل رجال ومرافق وإمكانات الدولة نجاحاً لموسى، وشهادة بحكمته عليه السلام، ولقد واجه الجبهة المعادية له، وهي بهذا التنازع والتشكك والانقسام. [القصص القرآني، ٢/٤٤٣].

وفي قوله تعالى: ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾؛ أيّ بالغوا في إسرار مناجاتهم؛ لأن المناجاة ذاتها إسرار، ومعنى إسرارها؛ المبالغة فيها بحيث لا يستطيع أحد أن يَطلع عليهم، ولا يعرف ما أسروه وتناجوا به. [تفسير أبو زهرة، ٩/٤٧٤٥].

  • ﴿وَأَسَرُّوا النَّجْوَى﴾: تحدّثوا سراً وهذا يؤكد خوفهم من كلام موسى ودليل ما فيهم من استعداد للخير، لكن انتهى رأيهم إلى الاستمرار في الشوط إلى آخره. [تفسير الشعراوي، ١٥/٩٣٠٦].

قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ ]طه:٦٣[.

هكذا تنزل الكلمة الصادقة الصادرة عن العقيدة الحقة؛ تنزل كالقذيفة في معسكر المبطلين وصفوفهم، فيتزعزع اعتقادهم في أنفسهم وفي قدرتهم وفي ما هم عليه من عقيدة وفكرة، وتحتاج إلى مثل هذا التحميس والتشجيع وموسى وأخوه رجلان اثنان، والسحرة كثيرون، ووراءهم فرعون وملكه وجنده وجبروته وماله، ولكن موسى وهارون كان معهما ربهما يسمع ويرى، ولعل هذا هو الذي يفسر لنا تصرف فرعون الطاغية المتجبر، وموقف السحرة ومن ورائهم فرعون، فمن هو موسى ومن هو هارون من أول الأمر حتى يتحداهما فرعون ويقبل تحديهما ويجمع كيده ثم يأتي ويحشر السحرة ويجمع الناس ويجلس هو والملأ من قومه ليشهدوا المباراة؟

وكيف قبلَ فرعون أن يجادله موسى ويطاوله؟ وموسى فردٌ من بني إسرائيل المستعبدين الضعفاء تحت قهره؟ هنا الهيبة التي ألقاها الله على موسى وهارون وهو معهما يسمع ويرى، وهي كذلك التي جعلت جملة واحدة توقع الارتباك في صفوف السحرة المدبرين، فتحوجهم إلى التناجي سراً، وإلى تجسيم الخطر واستثارة الهمم، والدعوة إلى التجمع والترابط والثبات. [في ظلال القرآن، ٤/٢٣٤١].

  • وفي قوله تعالى: ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾؛ الطريقة المثلى هو نظام فرعون في سياسته مع قومه ومع بني إسرائيل، وفي سياسته الخارجية مع الأعداء الذين يغيرون على البلاد من الشرق والغرب والجنوب، وأسأل هل من الطريقة المثلى أن يذبح أبناء بني إسرائيل ويستحي نساءهم وأن يعذب الباقي؟ وهل يمكن أن يكون الذين قالوا هذا من بني إسرائيل؟ ليس عندي جواب، وإنما هو السؤال والسؤال نصف العلم، وإن كان عندك جواب فهو النصف الآخر ولاحظ كيف اتفقوا بعدما تنازعوا. [من حديث يوسف وموسى، ص٣٩٤].

قوله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ ]طه:٦٤[.

الفاء للسببية، أيّ بسبب أنهم أرادوا بسحرهم أن يخرجاكم من أرضكم ويذهبا بطريقتكم المثلى وهو أمر جامع متفق عليه، فأجمعوا كيدكم أي: اعتزموا وأقدموا مجتمعين غير متفرقين، وائتوا إلى موسى صفاً لا خلل فيه ولا افتراق ولا تنازع واتفقوا على أمور ثلاثة:

أولها: اجماع كيدهم وهو تدبيرهم، ادخلوا الحومة مجمعين على تدبير واحد غير متفرقين فإن الإجماع وحده قوة والفرقة ضعف وعجز، ولا تنازعوا فتفشلوا.

وثانيها: أن يأتوا موسى صفاً واحداً لا ثلمة فيه ولا افتراق، فإن ذلك يزرع في نفسه الهيبة منكم، قالوا ذلك وكأنهم مقدمون على ميدان قتال.

والأمر الثالث: أنهم اتفقوا راغبين في الاستعلاء وأخذ الأجر من فرعون والاستعلاء بعزته الفرعونية وكبريائه الغاشمة، ولذا قالوا: ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ أي: فاز برضا فرعون من استعلى على خصمه والسين والتاء للطلب، أي طلب العلو فعلاً، وهذا حث على أن يشمروا على ساعد الجد ليفوزوا برضا فرعون ويستعلوا عنده باستعلائهم بالانتصار في هذا الميدان السحري. [تفسير أبو زهرة، ٩/٤٧٤٨].

ويبدو أن السحرة غُيبوا عن الواقع الذي كان بين موسى وفرعون، وما حدث من إقامة الحجة الدامغة على فرعون من قبل موسى، ولم يستطع فرعون الرد على كلمة واحدةمن كلام موسى عليه السلام، وقد استطاع فرعون تغييب الحقيقة ولم ينقل إليهم إلا قوله: ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾ وقد جاؤوا وهم معبّأون بما يريد فرعون أن يعبّأوا به، ومنها قولهم: ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ طريقتهم المثلى أي: ما ارتضاه القوم للعيش عليه والمذهب والطريق الذي سلكوه، والمراد بالطريقة المثلى التي ساروا عليها أنهم اتخذوا واحداً منهم إلهاً يعبدونه ويأتمرون بأمره وتلك هي الطريقة المثلى. [تفسير الشعراوي، ١٥/٩٣٠٩].

  • وقي قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾؛ هم الآن يبدأون المواجهة مع موسى عليه السلام، وهم صف متماسك وهو وحده ونداؤهم لموسى عليه السلام بحرف النداء الذي للبعيد، وهم في حضرته إشارة إلى شدة عنايتهم ببداية المواجهة التي لم يتركوا شيئاً يورث النجاح إلا فعلوه، وهم رجال فرعون يكررون ما يقول، ويؤمنون بالذي يريد إيمانهم به، وهو ما يقول ويخفي عنهم الذي لا يريد أن يشغل نفوسهم. [من حديث يوسف وموسى، ص٣٩٦].

ثم كان التحدي الأكبر يوم الزينة واجتماع الناس، فكان النصر بتأييد الله لموسى عليه السلام، وانقلب كبار السحرة من عتاة سحرة إلى مؤمنين بررة، فأعلن فرعون الحرب عليهم، وعزم أمره وجمع جنده وخرج مستكبرا مستعلياً مستخفّاً بموسى ومن معه، فحقق الله وعده بالنصر لموسى وقومه، وأغرق فرعون بعدما أقيمت الحجة عليه وعلى ملئه، فكانت بئس الخاتمة والنهاية.

 

 

ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: "موسى كليم الله"، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  1. في ظلال القرآن، سيد إبراهيم قطب، القاهرة، دار الشروق، ط32، 1423ه/ 2003م.
  2. تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، القاهرة، مكتبة الأسرة، ط1، 1992م.
  3. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي (ت، 1393ه)، جدة، السعودية، مجمع الفقه الإسلامي، دار علم الفوائد، (د. ت).
  4. موسى (عليه السلام) كليم الله عدو المستكبرين وقائد المستضعفين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.





البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع