يقول تعالى: (يا أيها الذين امنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم يا أيها الذين امنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون.....).
دلت هذه الآيات على ما يأتي:
1 ـ أن أعداء الإسلام يبذلون كل جهودهم لتفريق الأمة الإسلامية وأنهم وراء ذلك وبالأخص الصهاينة والصليبيون، والاستعمار الذي رفع شعار (فرق تسد).
2 ـ أن اتباع هؤلاء الأعداء وطاعتهم في ذلك كفر (يردوكم بعد إيمانكم كافرين) وهذا أعظم هجوم على التفرق وبالأخص إذا كان بسبب التبعية لأهل الكفر حيث سماه الله تعالى كفراً.
3 ـ هناك علامة تعجب واستغراب لمن يتفرق عن الجماعة المسلمة ويكفر مع وجود القرآن الكريم، والرسول في حال حياته، وسنته في حالة موته، وهذا يعني أن سبيل هذه الأمة هو الاتباع للكتاب والسنة المطهرة، وأن طريق الوحدة ميسور إذا توافرت الإرادة والعزيمة، حيث إن أسباب وحدة المسلمين ما زالت قائمة.
4 ـ أهمية التقوى والإخلاص والتجرد عن الأهواء وخطورة التعصب والعصبية القومية، والقبلية والطائفية والمذهبية في إيجاد الاختلاف المذموم والتفرق المشئوم فهذه هي الأمراض القاتلة التي فتكت بالأمة، ونخرت في عظامها.
5 ـ العناية القصوى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح الناس وفعل الخير، والدعوة إليه، ونشر الإحسان والتكافل بين المسلمين، فهذه وسائل عظيمة لحماية الأمة وجمعها على الطريق المستقيم والهداية والفلاح.
6 ـ أهمية الاعتصام بحبل الله المتين، والانشغال بالدعوة والجهاد لتوحيد الأمة، حيث وردت بذلك آيات كثيرة: منها قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون). ومنها قوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم).
وأما السنة النبوية فمنها ما رواه الشيخان بسندهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية).
ومنها ما رواه الشيخان أيضاً عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام). والأحاديث في ذلك أكثر من أن نذكرها هنا.
وكما أن الوحدة فريضة شرعية فهي كذلك ضرورة ومصلحة ملحة لتحقيق النهضة والتنمية الشاملة، والحضارة والتقدم، بالإضافة إلى أنها تمنع الأعداء من الاعتداء على الأمة، وتحرمهم من سلب أموالها ونهب خيراتها، ولذلك فالأمم المتحضرة تتجه طوعًا نحو الوحدة بدافع المصالح كما هو الحال في أوروبا، وقد ساعدتها الوحدة الاقتصادية حيث لو تكن هذه الوحدة، والتعاون البناء لسقطت، أو أفلست بعض دولها مثل اليونان وغيرها.
بين الوحدة على الثوابت، والاختلاف المشروع والتفرق المذموم:
إن الوحدة الإسلامية على الثوابت هي الأصل والمبدأ العام، ولكنها لا تمنع من وجود اختلافات في دائرة الفروع والاجتهادات (المتغيرات)، ومن المعلوم في هذا الدين أن من سنن الله تعالى اختلاف الناس في العقائد والأفكار والتصورات والشعائر والمشاعر ولذلك أرسل الرسل والأنبياء، فهي سنة دائمة فقال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)، وبيّن الله تعالى في آية أخرى أن هذا الاختلاف يجب على المؤمنين أن يوجهوه توجيهاً إيجابياً نحو الخير والتسابق نحو الخيرات فقال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)،
كما بين القرآن الكريم بأن الاختلاف سنة قاضية فقال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) فالآية واضحة في دلالتها وصريحة في مضمنوها بأن الاختلاف واقع لا محالة، وهو مقتضى ما خلق الله تعالى الإنسان عليه ومنحه الإرادة والاختيار، ثم ما يكون عليه مآله من حيث الجنة والنار، ولذلك ذكر بعد هاتين الآيتين أن الله تعالى أنزال الكتاب وأرسل الرسل لبيان الحق والباطل، والخير والشر، والنفع والضرر، والمصلحة والمفسدة، فقال تعالى: (وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) ثم أكد ذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى: (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) وقوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
ثم إن الاختلاف أيضاً وارد حتى داخل الأمة الواحدة ولكن يجب أن لا يكون الاختلاف في الثوابت وأن لا يؤدي إلى الاقتتال والتفرق المذموم وإلى تفرقة الأمة شيعاً وأحزاباً يبغض بعضها بعضاً ليصل إلى الاقتتال الداخلي.
هذا هو الاختلاف المذموم الذي يخالف الثوابت والقواطع وهو الخلاف الذي يكون في أصول الدين وثوابته، أو الذي يوجب البغضاء والمنكر والتفرقة.
أما الخلاف المشروع فهو الخلاف في الفروع، لا من الأصول، وفي الوسائل لا في المقاصد وفي الآليات لا في الغايات، وفي تنوع السبل إلى الخير لا في الأهداف العامة للشريعة، وفي المناهج العملية، والآليات والأولويات لا في المرجعية والمنهجية العلمية العامة.
فهذا الاختلاف مقبول ومشروع طبيعي جداً، وهو من الدين وليس خارجاً منه، لأن الدين الإسلامي ـ كما سبق ـ يستوعبه من خلال نصوصه المرنة ومبادئه العامة.