أكذوبة الإلحاد (7) اللقاء المصيري بين جند الحق وأتباع الباطل
بقلم: د. علي الصلابي
ذكرت في المقالات السابقة الحوار الذي بدأ بين موسى وهارون (عليهما السلام) وفرعون وملئه، ابتداءً من اللقاء الأول الممتدّ الذي يسأل فيه فرعون عن الإله، وموسى عليه السلام يبين له الحجج والدلائل على صدق دعوته وحقيقة نبوته وكلامه عن رب العباد وآثاره في الأرض والحياة، التي تبين لكلّ عاقل أن للكون رباً واحداً لا شريك له، و{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وفرعون مع كل ذلك يستكبر ويعاند كما مرّ، إلى أن وصل بهما الحوار والجدال إلى ضرب موعد لإقامة تحدٍ بين موسى عليه السلام وكبار السحرة في الدولة الفرعونية، كبرهان من موسى على قوة حجته وصدق آياته.
1- قال الله تعالى: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ ]طه:٦٥[.
بادروه باسمه تودداً له كما تودد من قبل فرعون، ولأنه كان عندهم من بيت فرعون من قبل، فله مكانته في نفوسهم الفرعونية، وحسن أدب منهم، لأننفوسهم أدركت الحقيقة وإن لم تدخلها، ولذا تنازعوا فيها وخاطبوه بأدب فقالوا: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ ]طه:٦٥[ أيّ اختر لنفسك أحد الأمرين؛ إما أن تُلقي أنت عصاك التي في يدك، وإما أن نكون أول من ألقى، وقد قابل موسى الكليم أدبهم بكرمه، وقد لمح في كلامهم بصريح القول أنهم يريدون أن يبدؤوا إذ قالوا في تخييره ﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى﴾ فنفذ رغبتهم المطلوبة في عباراتهم ولأنه يريد أن يعرف ما عندهم قبل أن يعرفوا ما عنده، ولأن الترتيب الذي ألهمه الله تعالى به أنها ستلقف ما يلقون، فكان الترتيب الطبيعي أن يلقوا هم أولاً. (تفسير أبو زهرة، ٩/٤٧٤٨).
2- قال تعالى: ﴿قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ ]طه:٦٦[.
قبل التحدي وترك لهم فرصة البدء واستبقى لنفسه الكلمة الأخيرة، ألقوا حبالهم وعصيهم وهم يرفعون أصواتهم يشيدون بفرعون تزلّفاً وتقرباً كما ذكر سبحانه في سورة الشعراء: ﴿فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ﴾ ]الشعراء:٤٤[. (في ظلال القرآن، ٤/٢٣٤٢).
وامتلأت ساحة الميدان بالحبال والعصي وتمكن السحرة من جعل الناس يتخيلون أنها تتحرك، فالسحر الذي صنعوه أثر في أعين الناس فأصبحوا يتخيلون أن الحبال والعصي تتحرك وتسعى، قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ ]الأعراف:١١٦[.
- ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾ أي: أنهم أثروا في أعين المشاهدين عن طريق الإبهام والتأثير فخطفوا أبصارهم وخلخلوا مقاييس الرؤية فيها فصارت أنها ترى أشياء حية، وهي ليست حية، وأصيبت أعينهم بعمى الألوان فرأت لسحرهم حقيقة وواقعاً أي أنها رأت حبالهم وعصيهم أفاعي وثعابين ضخمة تتحرك وتسعى مع أنها ليست كذلك في الواقع وما هي إلا حبال وعصيّ جامدة ساكنة.
- ﴿وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾: هذه جملة تعليل للرهبة العظيمة التي أصابت الناس، فقد شاهدوا سحراً عظيماً كبيراً ضخماً قدّمه السحرة أمامهم، والتنكير في ﴿بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾ للتهويل والتضخيم، ويكفينا وصف الله له بأنه سحر عظيم لنتصور مدى عظمته وضخامته وكثرته، لأنه نتيجة كل ما جمعوه وأعدّوه وحشدوه ومكروا به، حيث وظفوا كل ما يقدرون عليه من الأدوات والأساليب وجندوا كل ما عندهم من قدرات وكفاءات لم يتركوا من ذلك شيئاً وكانت النتيجة سحراً عظيماً، وهذا السحر العظيم هو السبب في استرهاب الناس وتأثرهم وانفعالهم النفسي بما هو أمامهم، وهذا الاسترهاب قاد إلى سحر أعينهم واختلال الرؤية فيها، ورؤيتها الجامد الساكن ثعباناً حياً متحركاً. (القصص القرآني، ٢/٤٤٩)
ومما يدل على أن سحر السحرة في تلك المبادرة كان تخييلاً وخداعاً وليست له حقيقة واقعية هو ما ذكرته هذه الآية الكريمة من أن موسى عليه السلام نفسه تخيل أن حبالهم وعصيّهم أفاعي تسعى!
3- قال الله تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى﴾ ]طه:٦٧[.
والتوجس لا يكون إلا مقترناً بالخوف وهو يكون في النفس، فهو حالة نفسية شعورية وإذا تعمقَت في النفوس والشعور أدّت إلى الخوف، والذي ينتج عنه التخلي والترك والفعل، قال الإمام الراغب عن التوجس: "الوجس": الصوت الخفي، والتوجّس: التسمّع، والإيجاس: وجود ذلك في النفس، قال تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ قالوا: الوجس هو حالة تحصل في النفس بعد الهاجس لأن الهاجس مبتدأ التفكير، ثم يكون الواجس ثم الخاطر. (المفردات، الأصفهاني، ص٨٥٥)
فالتوجس مبني على الهاجس، وهو نداء نفسي خفي ووسواس نفسي داخلي، يكون بسبب مرور الإنسان بحالة معينة، لقد أوجس موسى خيفة في نفسه ومن دقة التعبير القرآني أنه عبّر عن توجسه بكلمة ﴿خِيفَةً﴾ وليس بكلمة "خوف"، وفرق بين الخوف والخيفة.
4- قوله تعالى: ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ ]طه:٦٨[
لا تخف يا موسى من سِحرهم وحِبالهم وعُصيهم، ولا تخف من كيدهم وحشدهم، ولا تخف من اعتزازهم بفرعون المتكبر المستعلي ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾؛ الأعلى من الحاضرين، والأعلى من السحرة المتآمرين، والأعلى من الملأ الموجودين، والأعلى من فرعون نفسه المستكبر المنتفش أمامك، وأنت الأعلى من كل من أمامك، ومن معك هو الأعلى من كل ما هو معهم، أنت الأعلى بالحق الذي معك مقابل الباطل الذي معهم وأنت الأعلى بالإيمان الذي معك مقابل الكفر الذي معهم، وأنت الأعلى باليقين الذي معك مقابل الشك والتنازع الذي معهم، وقبل هذا أنت الأعلى لاتصالك بالله رب العالمين الأعلى واعتمادك عليه، مقابل اتصالهم هم بفرعون واعتزازهم، فماذا يساوي فرعونهم الأدنى أمام ربك الأعلى الذي معك يسمع ويرى؟
لهذا لا تخف يا موسى، فإنك أنت الأعلى، زالت خيفة موسى عليه السلام السريعة، وحلّ محلها يقينه بأنه هو الأعلى وعاش موسى لحظتها حالة متألقة متوهجة من استعلاء الإيمان ونظر من علو نفس متألق إلى من حوله، من فرعون وملئه وجنوده وأتباعه وسحرته، فإذا به يراهم أقزاماً ويرى نفسه ﴿الْأَعْلَى﴾ منهم لاتصاله بالله، ونظر أيضاً من علو نفسي إلى ما قدمه السحرة من حبالهم وعصيهم، فإذا به يراها على حقيقتها وتفاهتها، وما هي إلا "فقاعات فارغة" وزبد منتفش، سرعان ما يذهب هباءً.
5- قوله تعالى: ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ ]طه:٦٩[
وألقى موسى عصاه وتحولت إلى ثعبان مبين، ووقعت المعجزة المبهرة، ولقفت كل ما قدمه السحرة من حبال وعصيّ، وعرف السحرة الحق وأنه مع موسى وليس معهم، وأشرقت قلوبهم بالإيمان فخرّوا ساجدين لله وأعلنوا إيمانهم بالله. (القصص القرآني، ٢/٤٥٤)
لقد دهش القوم مما يرون، إن ما ألقاه موسى عصا تحولت إلى أفعى، وقضت على كل ما أمامها، فليس الموضوع موضوع سحر، إنما هو حقيقة وموسى ليس ساحر، إذن لقد أخبر الله موسى أن عصاه ستلقف ما ألقاه السحرة ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾.
وما ذكره الله لموسى تعليل لسبب قضاء العصا على ما ألقوه لأن كل ما قدموه إنما هو سحر، وهو ثمرة لكيدهم وباطلهم وإن الساحر لا يفلح ابداً، ولهذا لم يفلحوا.
وبينما دهش الحضور جميعاً بهذا المنظر، كانت دهشتهم أكبر عندما شاهدوا الحية الكبيرة تتوقف بعدما لقفت ما أمامها، فيقبل عليها موسى عليه السلام بدون خوف، ويمسكها بيده ويحملها ويرفعها أمامهم، إنها أفعى وهي لا تلدغه، ثم كانت دهشتهم مضاعفة عندما شاهدوا الحية تتحول في يد موسى إلى عصا خشبية كما كانت، إن الأمر أمر الله وليس أمر موسى عليه السلام فالله هو الذي نفخ فيها الحياة أمام الناظرين، والله هو الذي سلبها الحياة أمام "المندهشين"، وما موسى عليه السلام إلا سبب أجرى الله الآية المعجزة على يديه. (القصص القرآني، ٢/٤٥٩)
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: "موسى كليم الله"، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد كثيراً من مادته على كتاب: " القصص القرآني "، للدكتور صلاح الخالدي.
المراجع:
- موسى (عليه السلام) كليم الله عدو المستكبرين وقائد المستضعفين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.
- في ظلال القرآن، سيد إبراهيم قطب، القاهرة، دار الشروق، ط32، 1423ه/ 2003م.
- القصص القرآني؛ عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دمشق، دار القلم، ط4، 2016م.