أسباب تضخم الحديث
إذا درسنا تاريخ الصحابة والتابعين نرى ان هناك عدة اسباب لعبت دورا كبيرا في تضخم الحديث. نلخص منها تسعة اسباب رئيسية.
السبب الأول: رواية الحديث بالمعنى، التي مثّلت بحدّ ذاتها نزاعاً انقسم فيه القوم إلى قسمين:
قسم تشدد في السماع وأوجب التمسك بألفاظ الحديث كما قالها النبي (ص) بلا تبديل ولا تغيير، ومن دون نقص أو زيادة، ومن هؤلاء محمد بن سيرين والقاسم بن محمد ورجاء بن حيوة، وحجتهم في ذلك قوله(ص) في حجة الوداع: «نضَّر الله أمرأً سمع مقالتي فوعاها ثم أدّاها كما سمع فرُبَّ سامع أفقه من مبلغ».
وقسم تساهل في السماع وأجاز رواية الحديث بالمعنى، ولم يرَ بأساً في تبديل ألفاظ الحديث بمرادفات لها بحيث لا يختلف المعنى. ومن هؤلاء الشافعي بعد ذهابه إلى مصر، وابن حنبل في الترغيب والترهيب، وأبو حنيفة النعمان وسفيان الثوري وعامر الشعبي وغيرهم.
وحجتهم في ذلك حديث رواه الطبراني في المعجم الكبير عن عبد الله بن سليمان الليثي قال: «قلت يا رسول الله أسمع منك ما لا أستطيع أن أؤديه، فأزيد فيه حرفاً أو أنقص منه حرفاً فقال «إذا لم تحلّوا حراماً ولم تحرّموا حلالاً وأصبتم المعنى فلا بأس». ومثاله جواب سفيان الثوري سيد الحفاظ الكوفي الفقيه (ت ١٦١ هـ) عندما قيل له: «حدثنا بما سمعت عن رسول الله (ص) فقال: والله ما إلى ذلك من سبيل، إن قلت إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني، إنما هو المعنى. ولو أردنا أن نحدثكم كما سمعنا ما حدثناكم حديثاً واحداً».
والسبب الثاني:
تعدد الروايات والموضوع واحد. مثال ذلك دعاء التشهّد الذي يتلوه المصلي في قعوده الأخير، والذي اختلفت ألفاظه ورواياته حتى بلغت عشر روايات مختلفة، نفصّلها كما يأتي:
1. تشهُّد ابن مسعود: روى الشيخان في صحيحهما عن عبد الله بن مسعود قال: «علمني رسول الله(ص) التشهد وكفي بكفّه كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله».
2. تشهّد ابن عباس: روى مسلم في صحيحه وأصحاب السنن والشافعي في الأم عن عبد الله بن عباس قال: «كان رسول الله (ص) يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن فيقول: قولوا التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله».
3. تشهّد عمر بن الخطاب: روى الإمام مالك في الموطأ عن ابن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه سمع عمر بن الخطاب على المنبر بمحضر من الصحابة فلم ينكروه إجماعاً يقول: «قولوا التحيات الزكيات لله، الطيبات الناميات المباركات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله».
4. تشهّد أبي سعيد الخدري: روى الخطيب البغدادي في كتابه تقييد العلم عن أبي سعيد الخدري قال: «كنا لا نكتب إلا القرآن والتشهد، التحيات الصلوات الطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله».
5. تشهّد جابر بن عبد الله: روى النسائي وابن ماجة والترمذي عن جابر بن عبد الله مرفوعاً قال: «كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن: بسم الله وبالله، التحيات الطيبات المباركات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول لله»
6. تشهّد أم المؤمنين عائشة: روى مالك في الموطأ أن عائشة كانت تقول «إذا تشهدت: التحيات الطيبات الزكيات، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله».
7. تشهّد أبي موسى الأشعري: روى مسلم وأبو داوود أن التشهد عند أبي موسى الأشعري: «التحيات الطيبات الصلوات لله وحده لا شريك له، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله».
8.تشهّد عبد الله بن عمر: روى مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر أنه كان يتشهد فيقول: «بسم الله، التحيات لله، الصلوات لله، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا له إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. فإذا قضى تشهده وأراد أن يسلم قال: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وهذه زيادة في التشهد وتكرير».
9. تشهّد سمرة بن جندب: كان دعاء التشهّد عنده: «التحيات الطيبات، والصلوات والملك لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله».
10. تشهّد أئمة آل البيت: روى الإمام السرخسي في كتابه المبسوط في سنده مرفوعاً عن النبي (ص) أن دعاء التشهد: «التحيات الناميات الزكيات المباركات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله».
إننا نقف طويلاً عند عبارتين وردتا في هذه التشهّدات العشرة.
الأولى: «كان رسول الله يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن»، قالها ابن عباس وجابر.
والثانية: «وكنا لا نكتب إلا القرآن والتشهد»، قالها أبو سعيد الخدري. ونتساءل: إذا جاز تعدد الروايات واختلاف الألفاظ في دعاء هو من أركان الصلاة لا تصح إلا به، فما بالك بأمور أخرى أقل من التشهد أهمية وخطراً؟
السبب الثالث:
وأهم العوامل التي أسهمت في تضخيم كتلة الحديث النبوي، فهو الوضع والتزوير والكذب على النبي (ص) فالحديث الموضوع هو كل قول أو فعل مصنوع مكذوب منسوب إلى النبي (ص)، جرى تزويره وتزيـــــفه لغاية أو لأخرى. والوضّاعون الكذابون كثيرون.
حسب قول ابن خلكان لا يحصيهم العدد، أشهرهم: 1- ابن أبي يحيى في المدينة، 2- والواقدي في بغداد، 3- ومقاتل بن سليمان في خراسان، 4- ومحمد بن سعيد بالشام 5- عبد الكريم بن أبي العوجاء، 6- وأحمد بن عبد الله الخونباري، 7- ومحمد بن عكاشة الكرماني، 8- ومحمد بن تميم الفارابي، 9- وسيف بن عمر التميمي، 10- وسعد بن طريف، 11- ومأمون بن أحمد السلمي وغيرهم من الذين يشبهونهم في كثرة الأحاديث الموضوعة التي أسندوها زوراً وبهتاناً إلى النبي (ص) وأصحابه وآل بيته. فتعاظم سيلها وعمّ ويلها حتى روي عن الإمام البخاري أنه قال: أحفظ مئة ألف حديث صحيح ومئتي ألف حديث غير صحيح. والجدير بالذكر أن كل هؤلاء عاشوا في خير القرون! أيعقل أن تكون خير القرون هي التي جرى فيها وضع الحديث على الرسول (ص) والتلفيق له بهذا الكم الهائل؟
الحديث النبوي قد يأتي مزوراً بكامله متناً أو سنداً أو كليهما مجتمعين، مثاله: ما رواه الخطيب عن أبي هريرة مرفوعاً، وذكره الإمام النووي في شرحه لـصحيح مسلم، أن النبي (ص) قال: «يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضرّ على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي». في إسناده وضّاعان أحدهما مأمون بن أحمد السلمي والآخر أحمد بن عبد الله الخونباري. وقد يأتي الحديث النبوي موضوعاً في جزء منه، وهذا ما يطلق عليه أهل الأثر اسم «الإدراج» في تخريجه مضحكة وخطيرة في آن معاً، هرباً من تسمية صاحبه كذاباً. فالكذب على النبي(ص) بتقويل ما لم يقل لا علاقة له عند العقلاء بعدد الألفاظ المزورة المكذوبة.
السبب الرابع:
في عبارة الأبهري حيث يصف موطأ مالك، من إضافة أحاديث الصحابة وتابعيهم وأئمة المذاهب وتلاميذهم إلى ما قاله النبي (ص). وفي كتب أهل السنّة والجماعة، تحت عنوان «قول الصحابي حجة»، وفي كتب أهل الشيعة اضفت أحاديث آل البيت وتابعيهم وأئمة المذاهب ومريديهم إلى ما قاله النبي (ص) بحجة أن هؤلاء جميعاً معصومون بعصمة تكوينية التي ورثوها عن جدهم محمد (ص).
بإضافة قول الصحابي الى ما قاله النبي وبجعل قول الصحابي حجة اضيفت اقوالهم واقوال اهل البيت الى قول النبي كحديث. واختلط قول الصحابي بقول النبي ص. وكثرت الروايات.
السبب الخامس:
تقليد اهل الكتاب. وقد كان تقليد اهل الكتاب موجودا في عهد الرسول ص. لقوله ص. (عن أبي سعيد رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ)؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (فَمَن؟!)؛ رواه الشيخان.
ولقول الله تعالى:
{كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَا قِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَا قِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (69) توبة.
والمسيحيــون كانوا يــتــفاخرون على المسلمين بقول المسيح. قال المسيح كذا وقال كذا. لأن الإنجيل هو عبارة عن سيرة الذاتية للمسيح. الإنجيل فيه: قال المسيح وقال الرب. كلام المسيح عندهم كلام الله. وبدأ المسلمون يقلدون اهل الكتاب بالإضافة قول الرسول (الحديث) الى الكتاب. وبدئوا بالتقول على الرسول. لأن مستوى المسلمين في القـرن الأول من ناحية العلمية والكتابة والثقافة كان أقل كثيرا من مستوى اهل الكتاب. ولذلك كان المسلمون يستفسرون أهل الكتاب في الأمور التي لا يعرفونها. حين ذلك الوقت ما كان عند العرب ثقافة حول شكل الدولة والحكم والإدارة العامة والكتابة مثل ما كان موجودا عند الروم والفرس. والمسلمون تأثروا كثيرا من ثقافة اهل الكتاب. وخاصة من المسيحية من قولهم قال المسيح وقال الرب. أصبح المسلمون يقولون: قال الله وقال رسول الله.
فالحديث هو السيرة الذاتية للنبي (ص) حتى قدموا قول الرسول على الكتاب ونسخوا الآيات بالحديث. فالحديث تحول الى مركز الإسلام، وترك الكتاب الى المرتبة الثانية. وبدئوا بوضع الأحاديث والتزوير باسم النبي بداية من وفاة عمر (رع) الى عهد الأمويين واستمر الى عهد العباسيين. لقول ابو هريرة:"ما كنا نستطيع ان نقول قال رسول الله حتى قبض عمر". وان الصحابة سمعوا ان رسول الله ص. قال: لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحيه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. (مسلم ج.18 ص.229) بلغ رسول الله ص. ان اناساً كتبوا احادثه، فصعد المنبر وقال: ما هذه الكتب التي بلغني انكم قد كتبتم؟ انما انا بشر، فمن كان عنده شيء فليأت به، يقول ابو هريرة: فجمعنا ما كتبناه وأتلفناه أو قال: فأحرقناه. (تقييد العلم-للخطيب البغدادي ص.34)
ومن المقلدين البارزين القصاصون. والقصّاصون كانوا منذ القديم وعبر التاريخ موجودين، إلّا أنّهم مع ظهور الاسلام، كانوا يقصّون على الناس ويكون من علمهم التفسير والأثر والخبر عن الامم البائدة وغيرهم للتعليم والموعظة، كانوا يسمّونه بالعلم الأوّل، وهو ما يتعلّق بأخبار الامم السالفة وأكثره يأخذونه من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن أسلم منهم كعبد اللّه بن سلام وكعب الأحبار ووهب بن منبه (تاريخ آداب العرب، الرافعي ج1 ص 380)
على أنّ القصّة تحوّلت إلى أداة سياسية في زمن معاوية. وكان تبنّي معاوية للقصّاصين، إضافة إلى استغلالهم سياسيا، هو ردّ فعل ضدّ الإمام عليّ (رع)، الذي طرد القصّاصين من المساجد، والذين كانوا قد انتشروا فيها منذ أواخر عهد عمر، حين استجازه تميم الداري أن يقصّ قائما في مسجد المدينة، فأجازه (سير اعجام النبلاء ج2 ص447)، وكان يذكّر الناس في يوم الجمعة قبل أن يخرج عمر، ثمّ استأذن عثمان فأذن له أن يذكّر يومين في الجمعة.
قال أحمد أمين: (وقد نما القصص بسرعة؛ لأنّه يتّفق مع ميول العامّة، وأكثر القصص من الكذب حتى رووا أنّ الإمام علي أمير المؤمنين (رع) طردهم من المساجد، واستثنى الحسن البصريّ لتحرّيه الصّدق) (فجر الإسلام ص159).
وقد استفاد معاوية من كعب الأحبار- كما ذكر ابن حجر العسقلانيّ، إذ أمره معاوية بأن يقصّ في الشام، وهو الذي بثّ أحاديث تفضيل الشام وأهلها (الإصابة ج2، ص316).
وتطوّر الأمر في القرن الثاني إذ انتشر القصّاصون وكان همّ أحدهم أن يجيء بالغرائب ويكثر من الرقائق، وإذا كان القصّاصون آنفا من أهل العلم والحديث فإنّ الأمر انتهى في القرن الثالث إلى أن اسم القاص أصبح لقبا عاميا مبتذلا، وأكثر المتصدرين في الوعظ انّما يكونون من أهل الحديث والمتّسعين في العلوم، ولا حاجة إلى الكلام عنهم، ولم يزد المتصوّفة في الأخبار إلّا ما يزعمون أنّهم احتووه بعلم خاص، واللّه أعلم بغيبه. (الرافعي ج1 ص 382)
وقد سار العباسيون بسيرة الأمويين في تبني القصاصين، فقد استجلب الرشيد إسحاق المعروف بأبي حذيفة المتوفّى سنة 200 هـ، وهو معروف بالكذب ومشهور بالوضع، فأمره الرشيد أن يجلس في مسجد ابن رغبان ويحدّث الناس، فأخذ إسحاق يحدث بالأكاذيب ويروي عن خلق من الثقات أكثرهم ماتوا قبل أن يولد (تاريخ بغداد ج6 ص346).
ومن هذا الطريق، دخل كثير من الموضوعات، خصوصا في السيرة وقصص الأنبياء، والمعاجز، والفضائل فامتلأت الكتب بالأساطير وتـناقلوها واحدا عن آخر، حتّى أصبحت عند الكثيرين من الحقائق المسلّمة.
السبب السادس:
هو انه بعد الخلفاء الراشدين ظهرت فرق وافكار اسلامية ذات مرجع سياسي وكانوا بحاجة الى ارضية ايدولوجية. مثل الشيعة والخوارج. وظهرت تيارات فكرية فلسفية مثل القدرية والجهمية والمرجـئـة وكان مرجعيتهم تبني الفهم الفلسفي للإسلام. التي كان من موجبها لتأطير ايدولوجياتها ولتقوية آراءها ان تجد لأهدافها سندا وغلافا دينيا من الحديث النبوي.
وفي بداية العصر العباسي ظهرت المعتزلة صاحب الفكر النير الحر النقدي. طرحوا مسائل لم يطرحها الصحابة. ففهمها بعض الفقهاء الخروج من الدين. وفي مقابله خرج فكر اهل السنة والجماعة حيث وضعوا حياة النبي في عالم المطلق، مع علمهم انه عاش في مثل جزيرة العرب تحت اعراف خاصة. وان المطلق الإلهي هو كتاب الله، وان السنة هي الجانب الانساني الاجتهادي، وحاربوا المعتزلة بلا رحمة حتى انتصروا عليهم. وانتصار تيار اهل السنة والجماعة أدى الى قتل الفكر الحر النقدي عند الناس. واستسلم الفقهاء قيادة الناس تحت اسم اهل السنة والجماعة. وأصبح الفقه متصالح مع السلطة وفي خدته الى اليوم. وظهر علم الحديث لمضغ وخضم هذه المعركة. واصبحت السنة بمفهومها التقليدي الفقهي هي السيف المسلط على رأس كل فكر حر نقدي. كل هذه الحركات كانت بحاجة الى ارضية فكرية عقائدية لتكسب المؤيدين وتحفظ باستمراريتها. ولذلك بدأ كل منهم يأتي بأحاديث لتأييد قضيته. حينئذ بدلا من ان يستدلوا قضيتهم بالقرآن، أخذوا ادلتهم من الحديث المؤيد لهم، أو وضع لهم حديث. وضِع وزوّر آلاف الأحاديث من هذا النوع.
إنما كان مجرد تزيــيــف وتوظيف بحثا عن غطاء شرعي ينصر على طرف في تلك النزاعات، بغرض الوصول أو البقاء في الحكم، حتى لو جاء هذا الغطاء مخالفا للتنزيل الحكيم.
ولما تعددت أصناف الوضاع والكذابين والمنتحلين والمخطئين على هذا النحو فإن البلوى بوضع الحديث عمت وطمت. وانتشر الحديث الموضوع في كل فنون العلم. (انتشر في الوعظ على ألسنة القصاص والوعاظ، وعلى ألسنة العامة تبعًا لذلك، وانتشر في كتب الفقه والعقائد والتفسير والتاريخ والسير والمغازي والوعظ)
السبب السابع:
أخذ الأحاديث عن الأطفال، كعبد الله بن عباس الذي نقل البخاري عنه انه قال: توفي رسول الله وانا ابن عشر سنين مختونا، ويروي صاحب المنار ان له في مسند أحمد 1696 حديثا. وكأنس بن مالك وأبي سعيد الخدري اللذين قالت عنهما عائشة رضي الله عنه {ما علم أنس بن مالك وابي سعيد رسول الله وإنما كانا غلامين صغيرين} وبلغ عدد الأحاديث التي رواها أنس 1286 والأحاديث التي رواها أبو سعد 1170، وكان عمرهم أقل من عشر سنوات حين وفات الرسول (ص)، وعبد الله بن الزبير ابن تسع سنين، ونعمان بن بشير ثمان سنوات، وحسن بن علي ابن ثماني سنين، والحسين بن علي سبع سنوات، والمسور بن مخرمة ثمان سنوات.. وغير هم.
وعبد الله بن عباس لم يعرف النبي اذ كان يقيم في مكة مع ابيه الذي لم يهاجر مع من هاجر الى المدينة، حتى بعد الفتح عاد النبي الى المدينة وبقي ابن عباس مع ابيه في مكة وهو ابن ثمان سنين. فمن اين له يقول كما يروي البخاري: والله الذي لا إله غيره، ما نزلت سورة من كتاب الله الا وانا اعلم اين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله الا وانا اعلم فيم نزلت.
السبب الثامن
وصنف ثالث من أهل الزهد والتدين الجاهل وضعوا الأحاديث ترغيبًا في فضائل الأعمال بزعمهم وترهيبًا من النار وكلما استحسنوا قولا لقائل نسبوه إلى الرسول ظنًا أن هذا يفيد الدين ويرغب الناس فيه ويزيدهم تمسكًا به، لا شك أن هذا كان أعظم الكذب وأخبثه لأن أمر هؤلاء كان أكثر خفاء، لأنه لا يظن بهم السوء، وقال ابن الصلاح: وأشد هذه ضررًا أهل الزهد لأنهم للثــقة بهم، وتوسم الخير فيهم يُقْبَلُوا، قال الحافظ بن حجر: ويلحق بالزهاد في ذلك المتـفـقهة الذين استجازوا نسبة ما دل عليه القياس إلى النبي. لأنّ الوَضّاعين من هذا القسم يضعون الحديث تعبّدا وتقرّبا إلى اللّه، بحسب ظنّهم، فقد ذهب بعض المتصوّفة إلى جواز وضع الحديث للترغيب والترهيب، ترغيبا للناس في الطاعة وزجرا لهم عن المعصية.
السبب التاسع: حركة الزنادقة؟
والزنديق مصطلح أطلق على كل شاكّ أو ضالّ أو ملحد، إلّا أنّ الزنادقة غالبا يراد بهم الّذين قصدوا إفساد الشريعة وإيقاع الشكّ فيها في قلوب العوام والتلاعب بالدين.
ومن أشهرهم: عبد الكريم بن أبي العوجاء الّذي كان يدسّ الأحاديث في كتب حماد- بن سلمة-، فلمّا أخذ ابن أبي العوجاء أتي به محمّد بن سليمان بن عليّ فأمر بضرب عنقه، فلمّا أيقن بالقتل، قال: واللّه لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث احرّم فيها الحلال واحلّ فيها الحرام، ولقد فطّرتكم في يوم صومكم وصوّمتكم في يوم فطركم.
وكان عبد الكريم بن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري ثمّ انحرف، فكان يذهب إلى مكّة للاجتماع بالحجّاج وإضلالهم، وكان الإمام الصادق يناظره ويكشف أباطيله، وكان بالبصرة يفسد الأحداث فهدّده عمرو بن عبيد فلحق بالكوفة ودلّ عليه محمّد بن سليمان والي الكوفة فقتله.
وروى ابن الجوزي بسنده عن الحكم بن مبارك، قال: سمعت حماد بن زيد يقول: وضعت الزنادقة على رسول اللّه (ص) أربعة عشر ألف حديث.
وقال: قد كان في هؤلاء الزنادقة من يأخذ من شيخ مغفل كتابه فيدسّ في كتابه ما ليس من حديثه فيرويه ذلك الشيخ ظنا منه أنّ ذلك من حديثه.
ومن الزنادقة سيف بن عمر الّذي كان متخصصا في الدسّ في السيرة وكتب التاريخ، قال عنه يحيى بن معين: «ضعيف الحديث فليس خير منه».
وقال عنه ابن حبّان: يروي الموضوعات عن الأثبات، اتّهم بالزندقة، قالوا: كان يضع الحديث. ومع ذلك فقد روى عنه الطبري في تاريخه كثيرا، ومن الطبري أخذ الكثيرون من أرباب السير والتاريخ رواياته، ومنها مخترعاته وموضوعاته.
وكان ممّن يدسّ الأحاديث من الزنادقة الغلاة، كالمغيرة بن سعيد، الّذي دسّ في كتب أصحاب الباقر (رع) أحاديث لم يحدّث بها، وكذلك أصحاب أبي الخطاب الّذين دسّوا الأحاديث في كتب أصحاب الصادق (رع).
وقد أُلِّفت مؤلّفات كثيرة في الوضاعين، عدّت المئات منهم، كما ألّفت كتب كثيرة في الأحاديث الموضوعة، منها كتاب «الموضوعات» لابن الجوزي، و «الدرّ الملتقط في تبين الغلط» للصاغاني، و«الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني» الّذي ذكر فيه ألفا وأربعمائة وأربعة أحاديث، وغيرها من الكتب.
وقد ذكر العلّامة الأميني، من خلال تتبّعه لأمّهات الكتب في الرجال عند الجمهور: كميزان الاعتدال، ولسان الميزان، والجرح والتعديل، وتاريخ الشام، ومجمع الزّوائد، واللآلئ المصنوعة، وتذكرة الموضوعات، وتاريخ بغداد، والمنتظم (لابن الجوزي)، وتهذيب التهذيب، وشذرات الذّهب . . . وغيرها، ذكر نحو سبعمائة من أسماء الوضّاعين وذكر حالهم، ثمّ أحصى ما ذكره أعلام الرجال عن وضع واحد وأربعين منهم، فكان 408.684 رواية. هذا غير ما ذكر في ترجمة آخرين من غير هؤلاء من وضعهم لمئات النسخ والكتب مثل: لاحق بن الحسين المقدسي، الذي قال الادريسي عنه: كان كذّابا أفّاكا يضع الحديث عن الثقات ويسند المراسيل ويحدّث عمّن لم يسمع منهم، ووضع نسخا لأناس لا تعرف أساميهم في جملة رواة الحديث، مثل: طرثمال وطربال وكركدن وشعبوب. ومثل هذا شيء غير قليل، ولا نعلم ولا رأينا في عصرنا مثله في الكذب والوقاحة مع قلّة الدراية، وكتب لي بخطّه زيادة على خمسين جزءا من حديثه. . (تاريخ بغداد ج2 ص244).
ومنهم: محمّد بن يوسف بن يعقوب الرازي: شيخ دجّال كذّاب، كان يضع الأحاديث والقراءات والنّسخ، وضع كثيرا في القرآن، قال الدار قطني: وضع نحو من ستين نسخة قراءات ليس شيء منها أصل، ووضع من الأحاديث ما لا يضبط، قدم بغداد قبل الثلاثمائة (تاريخ بغداد ج3 ص397).
هذه هي الأسباب البارزة التي تسببت في وضع الحديث وتزويره.
عبد الرحمن شط
كولونيا (كولن) / المانيا