العلامات المؤكدة والشائعة لليلة القدر
بقلم: عصام تليمة
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
شهر رمضان هو شهر عبادة وطاعة، وفرصة يغتنم فيها الإنسان الصيام والقيام لينال بذلك مغفرة الله ورحمته، فيتطهر من ذنوبه وآثامه، ويزيد رصيده من الحسنات والدرجات عند الله تعالى، ويجتهد فيه المسلم لينال ذلك من أول يوم وليلة في الشهر الكريم، ولكنه يحرص أكثر على نيل أكبر جائزة في هذا الشهر، وهي: ليلة القدر، حيث إن القرآن الكريم تكلم عن أهميتها وفضلها، فقال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، أي: ما يعادل عمر الإنسان وزيادة في الغالب من أعمار الناس.
ولذا يكثر الاجتهاد في طلبها، وبخاصة أن أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثت على طلبها، وجاءت بعدة صيغ مثل: تحروا ليلة القدر، التمسوها، وهي عبارات تدل على الطلب والبحث والتنقيب عنها، والعثور عليها. وكلما كان هناك أمر تعبدي مهم، كثر حوله الصحيح والضعيف، أو الشائع والغالب، والمؤكد وعدم المؤكد، ومن ذلك: تحديد ليلة القدر، وتحديد علامات هذه الليلة المباركة.
أشهر ما يشاع من علامات ليلة القدر
ويشيع بين الناس علامات، صارت أشبه بمسلمات وثوابت يقيسون بها كل ليلة من العشر الأواخر من رمضان لمعرفة هل هي تلك الليلة أم لا؟ ويكثر على وسائل التواصل ووسائل الإعلام نقل التجارب والخبرات من شخص إلى آخر، وكذلك الانطباعات، حتى يكرر كثيرون ما قاله غيرهم، ويكادون يجزمون بأن ليلة كذا كانت فعلا هي ليلة القدر بناء على العلامات التي شاع بين الناس أن ليلة القدر تعرف بها.
والمدقق في هذه العلامات التي تشيع بين الناس، يجد أشهرها ما يلي: أن ترى الشمس في صباح هذه الليلة صافية بلا شعاع، وليست شديدة التوهج، وألا تسمع في هذه الليلة صوت نباح الكلاب، وأن تمطر السماء في هذه الليلة. وهذه علامات لا يدل عليها دليل شرعي ثابت نحكم بيقين بصحته، والباحث في كتب السنة النبوية وشروحها، سيجد أن العلامات التي ذكرت كلها موضع خلاف شديد، وليست محل اتفاق أو إجماع، أو توافق كبير، وقد ذكر الإمام ابن حجر في كتابه: “فتح الباري بشرح صحيح البخاري” في تحديد ليلة القدر (46) رأيا وقولا، وهو ما يدل على اهتمام العلماء والناس بها، ويدل على مدى الاختلاف الشديد فيها.
علامات لا تصح عن ليلة القدر
وهناك علامات تشيع بين الناس عن ليلة القدر، والمتأمل لها سيجد أنها لا يصح أن تكون علامات تعتمد، وإن اشتهرت بين الناس، فقضية ألا تسمع صوت نباح الكلاب، فهذا ربما يكون في منطقة هادئة لا يحيا فيها حيوان مثل الكلب، بينما هناك مناطق في بلدان مسلمة لا تخلو مطلقا في أي ليلة من نباح الكلاب، وبخاصة في المناطق التي تنتشر فيها الكلاب الضالة، وهو ما يوقع الناس في نظرة سطحية ومتناقضة للدين، فما ذنب المناطق التي لا تتسم بالهدوء، وماذا لو أن منطقة هادئة لم يُسمع فيها صوت كلب، في حين سُمع في منطقة أخرى، فكيف تكون في منطقة ليلة القدر، وتحرم منها منطقة أخرى، ولو قلنا باختلاف المناطق، لقلنا أيضا بتعدد ليلة القدر، وبأنها تأتي في عدة أماكن.
صفاء ضوء الشمس ليس دليلا
ونفس الحال بشأن صفاء الشمس في صباح الليلة، فماذا يفعل أهل الخليج لو كان رمضان في أشد أيام الحر والرطوبة، أو بلدان أفريقيا المشهورة بشدة حرارة الشمس؟ وماذا يفعل المسلمون في بلاد لا تصفو فيها الشمس إلا أياما معدودة من السنة، مثل: لندن، المشهورة بأنها بلد الضباب، وهل جاء الإسلام ليخص بعض البلدان في جزيرة العرب بليلة القدر، ويحرم المسلمين في بلدان أخرى؟!
نزول المطر ليس علامة لليلة القدر
وكذلك علامة المطر، وهي حدثت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سنة من السنوات، وسجد على الطين، لكن هذا لا يعني أنها من علامات ليلة القدر، لأنه أيضا يقال عنها ما قيل عن العلامات السابقة، فما ذنب دول لا ينزل فيها المطر إلا قليلا، وربما يمر عام كامل ولا تهطل الأمطار، في حين نجد ذلك متوافرا في بلدان مثل تركيا، وبلدان أوروبا، وبلدان أخرى طبيعة الطقس فيها كثرة الأمطار.
ولو صحت هذه العلامات لليلة القدر، لكانت ظاهرة كونية، تكون إعجازا خاصا بالمسلمين، فيعلن المسلمون أن الكون في ليلة معينة عندنا، أو في العشر الأواخر سيتعرض لظاهرة كونية فريدة، وهي هذه العلامات، وهو ما لا يصح شرعا ولا كونيا، ولم يعهد ذلك على مدار تاريخ الإسلام منذ النبوة حتى الآن، فقد انتهت مسألة المعجزات أو الظواهر الكونية التي تأتي موافقة لأمر ديني، وظلت المعجزة الكبرى للإسلام في قرآنه الكريم، وهو معجزة تشريعية ولغوية.
قال الإمام الطبري: “في إخفاء ليلة القدر دليل على كذب من زعم أنه يظهر في تلك الليلة للعيون ما لا يظهر في سائر السنة، إذ لو كان ذلك حقا لم يخف على كل من قام ليالي السنة، فضلا عن ليالي رمضان”. وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأنه لا ينبغي إطلاق القول بتكذيب ذلك، بل يجوز أن يكون ذلك على سبيل الكرامة لمن شاء الله من عباده، فيختص بها قوما دون قوم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يحصر العلامة، ولم ينف الكرامة، وقد كانت العلامة في السنة التي حكاها أبو سعيد نزول المطر، ونحن نرى كثيرا من السنين ينقضي فيها رمضان دون مطر، مع اعتقادنا أنه لا يخلو رمضان من ليلة القدر.
كاد النبي يخبر بليلة القدر
وقد كاد النبي صلى الله عليه وسلم يخبر الصحابة بليلة القدر في سنة من السنوات، كما روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: "خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة".
فقد أوشك صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم، لولا مشادة بين رجلين، انشغل بهما صلى الله عليه وسلم، فرفعت، ولم يخبر بها، والمقصود هنا -كما قال العلماء- أنها رفعت في هذه السنة عن معرفتهم بها، وليس ذلك أنها ترفع دائما، وأيضا أن إخباره بوقتها كان لهذه العام أيضا فقط، وليس تحديدا ثابتا، وقصد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أولوية فتح باب الاجتهاد للناس، وكان إخبارهم بهذا العام مكافأة لهم فقط، وليس إخبارا بالوقت الدائم لها.
سر إخفاء ليلة القدر
والحقيقة أن المتأمل لحكمة إخفاء الشرع ليلة القدر، وتحديد ساعة الإجابة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة، وإخفاء موعد الموت عن الإنسان، مهما كانت تقديرات البشر لذلك، كل ذلك لحكمة ألا يجعل المسلم العبادة موسما، وألا يتكل في عبادته، وليكون ارتباطه بالله سبحانه وتعالى رب الزمان والمكان، وليس بالزمن نفسه، وإن اجتهد في هذه الليالي وغيرها، وهو ما قاله كثيرون من علماء الأمة.
فقال العلماء: “والسَّببُ في إخفاء السَّاعةِ عن العبادِ ليكونوا على حذر، فكيون ذلك أوعى للطَّاعةِ وأزجر عن المعصية؛ فإنَّهُ متى علمها المكلف تقاعس عن التَّوبة، وأخرها، وكذلك إخفاء ليلة القدر؛ ليجتهد المكلف كل ليالي الشَّهْرِ في العبادة، وكذلك إخفاءُ ساعة الإجابةِ في يومِ الجمعةِ؛ ليكون المكلف مُجِدًّا في الدُّعاءِ في كل اليوم”. وقالوا: “والحكمة في إخفاء ليلة القدر على العباد: أنّهم لو عرفوها لقصدوها بالعبادة، وأهملوا في سائر الليالي، وإذا لم يعرفوها بعينها عبدوا الله في جميع ليالي شهر رمضان رجاء أن يدركوها”.
الثابت عن موعد ليلة القدر
ما ثبت عن ليلة القدر سواء في وقتها أو علاماتها، هو ما أخبرت به النصوص الثابتة في ذلك، فالثابت أنها في رمضان، لأن الله تعالى قال عن القرآن: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، وقال تعالى عن شهر نزوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}، والثابت أيضا أنها في العشر الأواخر من رمضان، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان”، وأنها في ليال وترية، فقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: “التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى”. وما عدا ذلك فعلى من يستدل به أن يأتي بدليل يدعمه من القرآن الكريم أو السنة، أما ما جرى من تجارب شخصية لأناس عابدين لله تعالى، فليس حجة، سواء في تحديد اليوم، أو في صحة العلامة التي استدل بها على موقف تعبدي خاص به، صح موقفه أم لم يصح.
من يدرك ليلة القدر؟
وبناء على اختلاف العلماء في علامات وتحديد ليلة القدر، وأن الشرع أخفاها عن الناس، كي يجتهد الجميع فيها، وألا يحرم من إدراكها أحد، فتكون مكتوبة لمن اجتهد سواء علم أنه أدركها أم لم يعلم، وهذا رأي مهم، لأنه يوسع دائرة العباد الذين تشملهم رحمة الله في هذه الليلة، دون أن نحصرها في من أدرك ليلة معينة فقط، بل يكتبها الله تعالى لمن اجتهد لينالها، سواء أدرك ذلك أم لم يدركه.
وهو ما يتوافق مع رحمة الشرع، ومع فوز المجتهد بالطاعة، فهي ثواب على طاعة، وليست ثوابا مرتبطا فقط بمن يفرغ نفسه لساعة معينة أصابها بقدر الله تعالى، وهو ما يتوافق مع مفهوم الأجر في الشرع الذي يكتب لكل مجتهد، ولكل مجتهد نصيب منه، وقد رأينا ذلك في الاجتهاد في العلم، فمن اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، ففي كل الحالات هو مأجور، وهو يدور بين الأجر والأجرين، وهو ما يجري كذلك في مثل هذا اللون من العبادات التي أخفى الله عز وجل موعدها عن عباده.