أواخر رمضان
الإستعداد الروحي لتلقي الخِطاب الإلهي
شيروان الشميراني
يقول المفكر الباكستاني المسلم محمد إقبال إنه عندما صغيراً ويقرأ القرآن في كل يوم كان والده يأتيه ليتأكد وبعد فترة قال له يا بُنَي: " إقرأ القرآن وكأنه نزل عليك الآن"، مريداً بذلك خلق شعور التلقي المباشر للوحي الإلهي من دون فاصل أو حاجز زمني أو مكاني بينه وبين كلام الله سبحانه. أي تجاوز الإحساس والخيال بأن هذا القرآن نزل قبل أربعة عشر قرناً من الزمن.
رمضان شهر القرآن، إن الآية القرآنية تنص على أن القرآن نزل من الله في شهر رمضان { شَهرُ رَمضانَ الذي أنزِلَ فيهِ القُرآنْ هُدىً للنّاسِ وَبيّناتٍ مِنَ الهُدى والفُرْقانْ} [ البقرة: 185}، والحديث النبوي الصحيح يقول إنه في العشر الأواخر، وسورة القدر تقول إنها ليلة صاحبة تقدير ومكانة جليلة{ إنّا أنزَلْناهُ في لَيلةِ القَدْر} [ القدر: 1]، وإن تلك الليلة التي نزل فيها القرآن أبرَك من ألف شهر، على هذا الأساس أضحى رمضان شهر القرآن، والمسلمون يقبلون على قراءته أكثر من الأيام والليالي للشهور الأخرى، وفي رمضان تتحول المساجد إلى مجالس قراءة القرآن ومدارسته، وهكذا أصبحت في ليالي القدر والعشرين يوماً قبلها دائرة مكثفة ثرية من العبادات المتنوعة روحية وفكرية وجسدية وبالإخلاص في كلها تكون عبادات قلبية كذلك.
لكن بما أنّ أفعال الله سبحانه منزهة عن العبث، سواء أدركت عقولنا جزءاً منها أو كلها أو لا شيء منها، فإن حِكَم الله مقصودة في كل ما فرِض على الانسان المسلم، وبالتالي إذا كان القرآن الكريم لا يعطي أسراره لكل أحد من قُرّاءه، بل لابد من روح تعلو لمرتبة الإستحقاق وتتطهر للظفر بتلك الأسرار، بمعنى: أن الربط بين القرآن ورمضان بما فيه من صيام وتوقف زمني مؤقت عن المتع الدنيوية فيه، ليس لجعل تلك الأيام من الشهر مباركة فقط، خاصة أن الصيام هو معركة بين الروح والجسد من أجل إحداث توازن بينهما في الوجود الإنساني، وتنقية الروح من الكدر المعلق بها خِلال أيام السنة والدخول في عالم روحاني ملائكي، وإنما ذلك لتكون مستعدة للتعامل الجادّ اللازم مع آياتِ القرآن الحكيم وتلقيها كما ينبغي أن تُتلقى كدسور الحياة العام. ليست الأرواح غير السامية هي التي تقدر على فهم أسرار القرآن، وبما أن القرآن قادم بأمر إلهي من العرش، إذن لا بد للروح أن تسمو لتلقيه هناك في السماوات العلى واستقبالها كأنها تتنزل الآن على القلب . وليس حين الإختلاط بملذات الأرض وترك الروح حائرة وسط لحظات الغفلة. يقول الإمام سعيد النورسي في -رسالة رمضان- عن قراءة القرآن: " كأن القاريء يسمعه من الرسول الأكرم – صلى الله عليه وسلم-، بل يشدُّ السمع إليه كأنه يسمعه من جبريل عليه السلام، بل من المتكلم الأزلي سبحانه وتعالى"(١). فهو المعني لوحده وبشخصه، يخاطبه الله تعالى بخطاب مباشر. ويعبر سيد قطب عن هذا المعنى وهو يتحدث عن تجربته الشخصية وحياته في ظلال القرآن بقوله: " لقد عشت أسمع الله – سبحانه – يتحدث إليَّ بهذا القرآن..أنا العبد القليل الصغير" مضيفاً " الإنسان هو هذا الكائن بعينه بفطرته وميوله واستعداداته يأخذ المنهج الإلهي بيده ليرتفع به الى أقصى درجات الكمال المقدر له.."(٢). فالروح تصعد لتلقي الخطاب الإلهي، ثم الإنسانية تترقى في مدارج الكمال به، بحسن فهمه وإدراك معانيه والربط بينه وبين الحقائق الكونية الكبرى.
هناك أمران إذن: تصفية الروح وسموها، مع الإقبال على القرآن بما انه شهر القرآن. والأمران متلازمان، الفكاك بينها محال.
ربما قصة من السيرة النبوية توضح لنا ما نرمي إلى قوله، وهي المعروفة بحادثة – شقّ الصدر- الثابتة في الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم في صحيحه [ ١/١٠١-١٠٢]، الشيخ محمد الغزالي بحسه المرهف يعلق على شق الصدر قائلاً:" لو كان الشر إفراز غدة من الجسم لقلنا إن ظواهر هذه الآثار مقصودة، ولكن أمر الخير والشرّ أبعد من ذلك، بل من البديهي أنه بالناحية الروحية في الإنسان ألصق…إن بشرا ممتازاً كمحمد لا تدعه العناية الإلهية غرضاً للوساوس الصغيرة التي تناوش غيره من سائر الناس"(٣).
بعد هذه الحادثة المعجزة التي لن تتكرّر، أصبحت روح الصادق الأمين جاهزة لإستقبال الوحي الإلهي وتبلغيه للناس، فقرأ – صلى الله عليه وسلم- ما أُمليَ عليه من جبرئيل – عليه السلام-. وبما أن شقّ الصدر لن يكون لأحد آخر، فقد فُرِضَ الصيام في الشهر الذي نزل فيه القرآن لجعل أرواح المؤمنين جاهزة لإستقبال الوحي عبر قراءته في مرتبتها الأعلى، وهي القراءة التفكرية التدبرية الهادئة المندمجة مع كامل الإحساس البشري والكاشفة لحقائق الوجود وليس مجرد الأوامر والنواهي، وليست القراءة التي تُخصص للبركة والتبجيل أوكسب عشر حسنات بكل حرف منه. فهناك أنواع من القرءات للقرآن، كلها مبارك، الأعلى مرتبة منها هي استقباله بروحانية متصاعدة والتدبر فيه، بخشوع كامل لفهمه وفقهه ونيل أسراره الإلهية بقدر ما يقدر عليها العقل الإنساني.
فبديل حادثة شقّ الصدر هو الصيام .
وبديل نزول جبرئيل – عليه السلام – هو قراءة القرآن.
كما ان بديل الإسراء والمعراج هو الصلاة.
١- المكتوبات، ص ، ٥٠٧.
٢- في ظلال القرآن، ط/ دار الأصول العلمية، م/١، ص ٥.
٣- فقه السيرة، ط/ دار الدعوة، ص ٥٤.