تجديد الخطاب الديني في فكر الشيخ سلمان العودة
بقلم: فرج كُندي
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
شكّل ظهور مصطلح "تجديد الخطاب الديني" في الآونة الأخيرة مادة نقاش وحوارًا واسعًا شارك فيه كل من له علاقة بعلوم الدين، ومن لا علاقة له؛ بل دخل أتون هذا النقاش الكثير ممن لا علاقة لهم بالعلوم المتعلقة بالدين (العلوم الشرعية) من أهل السياسة والرأي والصحافة ودخل الحلبة رجال ونساء الفن والتمثيل، وشكلوا مع بعض الساسة جبهة عالية الصوت مع وفرة الإمكانيات، والسيطرة التامة على المؤسسات العلمية والتربوية والتعليمية من جامعات ومراكز بحوث وقنوات ومنصات إعلامية. دعوة قوية عُرفت بالدعوة لتجديد الخطاب الديني، مع ضغط شديد على المؤسسات ذات العلاقة بالخطاب الديني- أوقاف وجامعات – كليات ومراكز بحوث وقنوات دينية - بتبني الدعوة لتجديد الخطاب الديني دون وضع محددات أو عرض مناهج علمية محددة، بل كان الخطاب تأجيجي ودعوة هلامية غير واضحة المحددات.
لا يوجد بها مضمون، وإن كانت تنضح بموقف معادٍ للدين، ودعوة للتضييق وحصر الخطاب الديني، واستبداله بخطاب مفرغ من أي انتماء للدين. بل بدأت حملات الدعوة إلى التقليل من المقررات الدينية في المدارس، وتحديد وتقييد ظهور الخطباء والدعاة على القنوات الفضائية؛ سواء السماح لأسماء معينة – مرضي عنها وتخدم أهدافًا معينة - أو تقييد المواضيع التي تثار وتتناولها البرامج مع تبني برامج ومسلسلات ليبرالية علمانية لا أخلاق ولا قيم فيها، وإفراغها من أي محتوى أو مضمون ديني مع التركيز على عرض مشاهد العنف والإثارة، والعلاقات التي يرفضها الدين. مع فتح مساحات واسعة لبرامج تستضيف شخصيات معروفة بمجاهرتها بالعداء لكل ما له علاقة بالدين، بل تدعو صراحة إلى إلغاء الدين والهجوم عليه؛ وأقلها حصره في شخص الإنسان، ولا يخرج عن نطاق التعبد في المسجد على أوسع نطاق يسمح به؛ مع التضييق الشديد حتى على رواد المساجد والمحافظين على الصلاة فيها.
وقد تناول الشيخ سلمان العودة فك الله أسره موضوع تجديد الخطاب الديني في كتابه (الخطاب الدعوي) الدي قدم له الشيخ العلامة أبوزيد المقرئ الإدريسي. وفق منهجية علمية من عالم متخصص في علوم الدين، وداعية له الباع الطويل في الدعوة القائمة على أسلوب دعوي علمي رصين شهد له به الخصوم قبل المحبين للشيخ حفظه الله وفك أسره قريبًا بإذن الله.
مارس الشيخ العودة الخطاب الديني من خلال محاضراته المباشرة في المساجد والساحات العامة؛ كما مارسها عبر شاشات الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي على اختلافها الخاصة به والعامة.
مفاهيم تحديد الخطاب الديني عند العودة
تناول الشيخ سلمان العودة موضوع تجديد الخطاب الديني بتشخيص العالم العارف الدقيق فأفكار وتوجهات الأطراف المتنازعة في تحديد وقولبة مفهوم تجدد الخطاب الديني.
حدد العودة مفهوم تجديد الخطاب الديني بأنه يتنازعه طرفان رئيسيان:
- الطرف الأول: فئة تتحدث عن الخطاب الديني وضرورة تجديده، وهي تصدر من منطلقات غير دينية، وأعتقد أنه لا يمكن تجديد الخطاب الديني وتجديده من خارج هذا الخطاب الديني نفسه، سواء بظروف محلية أو دولية عالمية.
- الطرف الثاني: بعض القوى الإسلامية التي اشتد بها الخوف، فإذا سمعت هذا اللفظ ترامى إلى أذهانها أنها مؤامرة لتحريف الدين.
حتمية تجديد الخطاب الديني:
يقرر العودة أنه لا مناص من التجديد، وإذ لم نؤمن بذلك فأمامنا خيران:
- الخيار الأول: الجمود، ويعني ذلك الإطاحة بحق الحياة وسحقها في عصر تكتنفه الحركة الثائرة من كل جهة.
- الخيار الثاني: الذوبان ... وذلك معناه الإطاحة بحق الدين والشريعة والثقافة والتراث.
وبعد تقريره لضرورة التجديد التي تحول دون الذوبان يقدم تصوره لهذا التجديد يحدد الأدوات التي يقوم عليها.
أدوات التجديد التي اختارها "العودة" للتجديد في الخطاب الديني:
يقول العودة: إن هذا التجديد يجب أن يكون بأيدي رجالات الإسلام وعن طريق المتخصصين الإسلاميين ولا أقول بالضرورة الفقهاء، وإنما المختصون على العموم.
ويجب أن تكون أدوات هذا التجديد ووسائله "داخلية تلمس مشاعره" وتتحدث من داخل إطاره، وعلينا أن نتفق على الضرورات والقواعد الشرعية، والمحكمات الدينية الثابتة كما يسميها ابن تيمية ((الدين الجامع)).
ماهية هذا التجديد:
يقول الشيخ سلمان العودة عن هذه الماهية بمنطلق من ترتيبات سلم الأولويات، وتنظيم للأهم والمقاصد الكبرى للعلم والدعوة والإصلاح، والاتفاق على ذلك، وتسهيل تطبيق ذلك وتوجيهه في أرض الواقع، وإبراز لجانب القيم والأخلاق الإسلامية الإنسانية العادلة التي يحتاج إليها الناس كلهم دون استثناء، وتطبيع قيم العدل التي يأمرنا بها الإسلام تجاه الخلق كلهم، ومعاملة الناس كلهم بالحسنى قال: تعالى (وَقُولُوا۟ لِلنَّاسِ حُسۡناً) قال: ابن عباس: اليهود والنصارى.
ماذا يعني التجديد؟
يجيب العودة عن تساؤلات أساسية هي ما هي المواضيع التي يتناولها ويعتني بها التجديد في الخطاب الديني؟
يقول الشيخ سلمان العودة: والتجديد يعني العناية بالنظريات العامة في الإسلام، مثل النظريات السياسية والاجتماعية والفقهية الفرعية، ودعم المشاريع العلمية التي تصل تراث الأمة بهذا العصر، وتضيف إليها تراكما علميا ومعرفيا.
كما يعني الاهتمام بالمبادرات في الخطاب الديني الشرعي والدعوي؛ فالأمر بالمعروف مقدم على النهي عن المنكر، والإصلاح ينفي الإفساد بالضرورة، والعملة الجيدة تطرد العملة الرديئة. كما يقول الاقتصاديون؛ فهذا الجهد يقوي عنصر (المزاحمة) في الفكر الإسلامي والخطاب الديني.
من ضيق الرأي إلى سعة الشريعة
يدعو الشيخ العودة دعاة التجديد أن ينتقلوا من ضيق الرأي والمذهب والجماعة إلى سعة الشريعة؛ مع التأكيد على أهمية هذه الدعوة كلها في العالم الإسلامي مع الدعوة إلى الاعتصام بسعة الشريعة لتجديد الاجتهاد الإسلامي. يقول تعالى: (ولو ردوه إلي الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) وهي دعوة صريحة إلى رد أمر الدين إلى الله ورسوله وإلى العلماء المختصين ممن يملكون التأهيل والاجتهاد في أمور الدين ولا يترك أمر الخطاب الدين لمن لا يملكون أدوات الخطاب الديني والقاصرين فيه والبعيدين عنه كل البعد.
فك الله أسر الشيخ سلمان العودة وأعاده إلى ساحة الخطاب الديني الوسطي المعتدل الذي يتوافق مع شروط التجديد بعيدا عن الغلو أو التمييع.