استغراق سيء
بقلم: د. سعد الكبيسي
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
التقيت بعدد من الناس _ لا احصيهم _ مرة اخرى بعد لقائي بهم اول مرة منذ سنوات طويلة، فوجدتهم على حالهم كما هم بعد كل تلك السنوات، لم يتقدموا في علم او عمل ولا في دين او دنيا، وهؤلاء يعيشون إما في بلدان مستقرة او غير مستقرة لا فرق، وقد كانوا في أعلى درجات الحنق والحزن والسخط بسبب عدم تحقيق ما يصبون إليه من أهداف وطموحات.
حاولت أن أحلل هذه الظاهرة، وربما وجدت لها أسبابا كثيرة، إلا أن هناك سببا محددا كان عاملا مشتركا بين الجميع، تستطيع تشخيصه بكل سهولة من خلال الجلوس معهم، او زيارة صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا السبب هو الاستغراق الكامل في الشأن اليومي التفصيلي، والتفاعل مع كل خبر، والشكوى من سوء الأوضاع، حتى لو كانت لا تمسه مباشرة، والتذمر والتسخط المستمر من تصريح هنا، وسرقة موظف هناك، ونشر لفديوات آخر الزمان، وأعتقاد راسخ بخراب الحياة وفسادها، وشد للأعصاب، وإدمان لنقل كل ما هو سيء، مع آهات وحسرات حارة على عدم القدرة على تغيير كل هذه الأشياء.
تبدا معه هذه الحالة منذ الصباح، مرورا بالنهار كله، لتتركه آخر الليل منهكا انهاكا نفسيا، يتلوه إنهاك جسدي، لتجعله شخصا عاطلا تحاصره الشكوى والتفاعل السلبي، فلا إنتاج ولا فاعلية ولا إنجاز حتى في المجال الذي يستطيع أن ينتج وينجز فيه.
فهذا عاطل عن العمل جالس يندب زمانه لانه لم يجد وظيفة حكومية، او انه يستحق ما هو أفضل مما هو متاح.
وآخر ترك دراسته في الجامعة لان التعليم سيء في بلده او ان من لم يدرسوا قد تسلموا مواقع متقدمة.
وثالث يتباكى ليل نهار على أوضاع اللاجئين دون أن يقوم بمبادرة تخفف عنهم.
ورابع ترك دعوة الناس للخير ياسا وقنوطا من استجابتهم.
ويزداد الأمر سوءا مع صحبة مثله في التفكير والسلوك.
نعم، إن جزءا من واجب المسلم أن يتفاعل ويهتم بما حوله من قضايا الأمة والشأن العام، لكن ليس لأجل أن يستغرق وينغمس فيها شاكيا ساخطا، بل ليفهم واقعه ويتلمس المواطن التي يستطيع التاثير والتغيير فيها، ويدع ما سوى ذلك لغيره، فينتج وينجز ويقدم أقصى ما يستطيع لنفسه ولغيره.
وصيتي لك أيها المستغرق المضيع لوقته:
اطلع على ما يجري من أحداث ومجريات الشأن اليومي، لكن حدد ما تستطيع فعله لنفسك وغيرك، وانظر لدائرة المتاح والممكن في حياتك، ودع الانشغال بما لا تستطيع فعل شيء له، واحسن الظن بربك، ولا تيأس من روح الله، واحرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز.