المقال الرابع- هل يتناقض العلم والدين؟
بقلم: بدران بن لحسن
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
أشرنا في المقالات السابقة أن تحدي النموذج المعرفي الغربي، ووجود المقلدة من أبناء أمتنا لهذا النموذج المعرفي، يتطلب منا استعادة مركزية القرآن في صياغة وإنتاج المعرفة، لما صارت عليه مسألة العلاقة بين الدين والعلم في وسطنا الفكري من اضطراب، وما وقع فيها من خلط، بحكم التقليد للوافد الغريب، وبحكم غياب رؤية قرآنية تحكم علاج هذه العلاقة في وسط المفكرين المقلدين للنموذج الغربي.
ولعل طه عبد الرحمن محق حينما قال: "لقد فكَّر غيرُنا طويلا في الصلة بين العلم والدين، حتى أضحى هذا التفكير سبيلهم إلى صنع تاريخ لهم جديد، تاريخ أضفوا عليه من جميل الأوصاف ما أضفوا؛ فهل فكَّرنا نحن من جانبنا في هذه الصلة كما فكَّروا، وطوّلنا في هذا التفكير كما طوّلوا، وخرجنا منه بما خرجوا؟"[1].
كما أشار طه عبد الرحمن إلى أن من بين المواقف تجاه هذه العلاقة بين الدين والعلم أن هناك من يراها علاقة "تناقض صريح" بين بين العلم والدين[2]. بل بالغ أصحاب هذا الموقف في التمسك بهذا التناقض، ولم يروا مخرجا منه لا بترجيح ولا بتفريق، بل جعلوا العلم حربا على الدين، وجعلوا الدين حربا على العلم، ورأوا أنه لا مخرج من هذه الحرب إلا بانتصار العلم وانهزام الدين؛ فانتصر العلم لديهم وانهزم الدين.
ولعل هذا كان جليا في أوروبا في أواخر عصورها الوسطى وبداية نهضتها، في وقت كان الصراع بين العلم والدين على أشده، عندما كان العلماء يتجهون اتجاهاً معاكساً تماماً لاتجاه الكنيسة وباباواتها، مع تدهور في نظام الكنيسة، وضعف سلطتها التي بلغت أوجها في العصور الوسطى، وقوة متعاظمة اكتسبها العلماء بعدما توصلوا إليه من اكتشافات أقنعت الناس بقيمتها وجذبتهم إلى رحابها[3].
وظن الناس والعلماء معهم في أغلب الأحيان في ظل انبهارهم بالنتائج التي توصلوا إليها في المجال الطبيعي، أن لدى العلم الطبيعي إجابة عن كل سؤال واستفسار يتعلق بأي أمر من أمور الطبيعة وما وراء الطبيعة، أو أن له القدرة على بحث كل شيء متعلق بهذه العوالم، بل إنه الوسيلة الوحيدة التي بها يعرف الخير والشر، وبه يحسم الخلاف في كل ما يتعلق بالإنسان والكون، وبالله، وبطبيعة الحال، وبحكم الظروف المختلفة من انتصارات غربية في ميادين العلم والسياسة، وانحطاط وتدهور في أنظمة الكنيسة، وتأييد شعبي للعلم والعلماء ،كان العلماء في مواجهتهم مع الكنيسة في وضع يردون الصاع صاعين، وما فعلته الكنيسة بالعلماء في بداية العصر الحديث كان العلماء في وضعهم الجديد يفعلونه بالكنيسة وأصحابها[4].
في هذا الجو المشحون بالحماس للعلم وأهله، والبعد عن الدين ممثلاً في رجال الكنيسة في تصرفاتهم وسلوكياتهم، كان على أي نظرية أو مذهب أو دين أو فلسفة، تريد أن تجد لها أرضاً وقبولاً وأنصاراً وثباتاً، أن تقدّم نفسها في صيغة يرضى عنها العلماء الطبيعيون ولو في المناهج على الأقل كما يقول الدكتور ميرا.
في هذا المزاج العام تطور القول بالتناقض بين الدين والعلم، حينما بدا العلم وكأنه يكتسح مساحات سيطرت عليها الكنيسة قرونا. وفي سكرة النجاح بدا قادراً على بيان كل شيء، وفي عقول الكثيرين كان هناك اقتناع بأن فجر عصر جديد قد بزغ، وأن الإنسان بقدراته المستقلة على وشك التغلب على جميع العقبات التي تعترض طريقه نحو التقدم والسرور، أما فيما يتعلق بالدين والإله فلن تكون هناك أي حاجة إليهما[5].
غير أن الأمر المشكل هو أن يوجد من بيننا من يتبنى هذا الموقف دون تمحيص أو مراعاة الفارق بين دين ودين، بل محض تقليد، وما أدرك أصحاب هذا الموقف من المقلدة "أن أسباب النـزاع بين العلم والدين عند غيرنا لا وجود لها ألبته عندنا، مهما تكلفت من أسباب المشابهة بيننا وبينهم، ومهما لفَّقت من تُهم لتاريخنا حتى يكون بسوء تاريخ غيرنا، طامعة في أن يُقبل موقفها كما قُبِل موقف غيرها، وهيهات أن يُقبل! فالفجوة بيننا وبين سوانا في هذا الأمر لا هي حفرة تُردم ولا هي هوة تُعبر"[6].
بعبارة أخرى، كما يذكر – الدكتور عدنان محمد فقيه- من أنه في مؤتمر عقد بجامعة بركلي سنة 1999، كتبت مارغرت ورثيم عرضا للمؤتمر لمجلة العلوم الصادرة عن أكاديمية نيويورك للعلوم عدد أبريل 1999م، أثارت فيه "نقطة جوهرية تكررها في ثلاثة مواضع من مراجعتها لقضية الدين والعلم من خلال ما أثير في المؤتمر المذكور آنفاً، وهي: ما هو الدين الذي نتحدث عنه حينما نعقد المقارنة بين العلم والدين؟"[7].
وكما يذكر الدكتور عدنان، فإن هذا تساؤل مشروع ومهم، يهمله كثير من الكتاب في الموضوع، وخاصة المقلدة من الحداثيين في العالم الاسلامي، حيث أنهم "ينطقون من خلفية مسيحية أو يهودية فيناقشون مسألة الدين عموماً باعتبارها ممثلة في التراث اليهودي- المسيحي فحسب، أو باعتبار هذا التراث عينة مماثلة للدين بوجه عام"[8].
وهذا ما جعل مارغرت ورثيم تنعى هذا الأمر وبشدة على مروجيه، وتطالب حين البحث في هذه المسألة بالنظر إلى كافة الأديان والمعتقدات الأخرى، حتى وإن كانت معتنقة من قبل قلة من الناس، وتشدد على هذا الأمر في ختام مقالها، مشيرة إلى الصراع القديم الذي كان بين الدين والعلم، والذي كان سببه التعصب المسيحي[9].
تقول مارغريت ورثيم: "إن ظِلَّ التقليد المسيحي لا يزال يجثم على العالم، ومن الواجب على حركة (العلم والدين) ألا تكرر أخطاء الماضي. والسؤال الذي لا يمكن تجاهله هو: عند أي تأليف بين الدين والعلم أي إله وأي تصور عن الكون يجب تضمنه في هذه العملية"[10].
وممن لم يع ما قالته مارغريت ورثيم ووقع في التقليد، نذكر شبلي شميل الذي كان يرى أن العلم هو الدين الجديد وأن الدين والعلم لا يلتقيان أبدا بل يتناقضان، لأن الدين -بزعمه- سبب كوارث ومصائب الإنسان، وأن العالم وأوروبا ما قامت فيها النهضة إلا بعد أن تخلصت من الدين بفعل العلوم الحديثة[11]. وفرح أنطون أيضاً، الذي كان يرى أن الأديان كلها مثل بعضها في عدم عقلانيتها، وأن التقدم والتحضر لا يتم بالدين بل بالعلم[12]. مما يدل على أن الدين والعلم في وعيه متناقضان. ولا يخفى أنه كان يتبنى مقولات التطور الداروينية والمقولات المادية الماركسية.
ولعل هذا التقليد هو ما أشار إليه طه عبد الرحمن في نقده لهذا الموقف، من خلال نقده للتعميم الذي يقوم به المقلدة من أبناء أمتنا للفكر الغربي، فيعممون أحكاماً منقولة من سياق حضاري وديني مختلف، على السياق الحضاري والديني الإسلامي، دون تمحيص ولا نقد ولا تحقق بالفروق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- المقال الأول- في الصلة بين الدين والعلم
- المقال الثاني- الصلة بين العلم والدين في ظل هيمنة النموذج المعرفي الغربي
- المقال الثالث- الحاجة إلى القرآن لتحديد الصلة بين الدين والعلم
[1] طه عبد الرحمن، "كيف نفكر في الصلة بين الدين والعلم"، مجلة حراء، سنة2، عدد8، 2007، ص38.
[2] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[3] أندرو ديكسون وايت، بين الدين والعلم، ترجمة: إسماعيل مظهر، القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014م، من مقدمة المترجم، ص9.
[4] دين محمد ميرا، في علم الدين المقارن؛ مقالات في المنهج، ط1، القاهرة: دار البصائر، 1430هـ/ 2009م، ص7-8.
[6] طه عبد الرحمن، كيف نفكر في الصلة بين الدين والعلم، ص38.
[10] مارغريت ورثيم، نقلا عن عدنان فقيه، المرجع السابق.
[11] شبلي شميل، فلسفة النشوء والارتقاء، ط1، دار مارون عبود: 1983م، ص29-32؛ 36؛ 43؛ 48.
[12] فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته، بيروت: دار الفارابي، 1988م، 209-210؛ 290-291.