البحث

التفاصيل

(.. لتأخذوا مناسككم ..)

(.. لتأخذوا مناسككم ..)

بقلم: الشيخ د. تيسير رجب التميمي

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

الحلقة الأولى: أُعْلِنَتْ قبل أيام قوائم الحج ، وإنها لفرحة غامرة ملأت قلوب المؤمنين وبالأخص الذين مضت أعوام على تسجيلهم لأداء هذه الفريضة ، وهاهم وفد الرحمن سيبدؤون الاستعداد لأداء هذه الفريضة وشد رحالهم إلى بيت الله الحرام ، إلى البقعة المقدسة التي مشت فوق ثراها خطى خير الورى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن قبلُ وطئتها أقدام الخليل إبراهيم عليه السلام متردداً بينها وبين الأرض المباركة في بيت المقدس ، فرفع هو وابنه إسماعيل عليهما السلام أساسات البيت الحرام وقواعده ، قال تعالى { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } البقرة 127 ، فلما أنهيا مهمة بنائه شرع سيدنا إبراهيم عليه السلام في مهمة البلاغ في الناس بفريضة الحج ، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بي شَيْئاً وَطَهِّرْ بيتي للطائفين والقائمين وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } الحج 26-27.

     والحج فريضة الدين وركن الإسلام ، ثبتت فرضيته بالقرآن الكريم، قال تعالى: {...وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} آل عمران 97، وهذه صيغة إلزام، وثبتت فرضيته أيضاً بالسنة النبوية المشرفة ، فقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال: {الإسلام أن تشهد ألاَّ إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً} رواه مسلم.

     والاستطاعة هي أن يملك الحاج نفقته في السفر وفي مشاعر الحج زيادة على نفقة من يعول أثناء غيابه وأن يكون ماله من حلال فإن الله عز وجلّ طيب لا يقبل إلا طيباً، ويضيف كثير من العلماء أمن الطريق إلى الاستطاعة المالية.

     والحج من أعظم العبادات والقربات عند الله عز وجل ، قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ..} البقرة 196، وروى أبو هريرة رضي الله عنه {أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ فقال إيمان باللَّه ورسوله، قيل ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل اللَّه، قيل ثم ماذا؟ قال حج مبرور} رواه البخاري، وقال عليه السلام أيضاً: {تابعوا ‌بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة} رواه الترمذي.

     وقد آثرتُ أن يكون الحديث في هذا الأسبوع والأسبوع القادم بإذن الله عن أعمال الحج حتى يكون للأخوة الحجاج فرصة الاطلاع عليها وقراءتها ومعرفتها قبل سفرهم إلى الديار السعودية فلعلّها تكون فيها الفائدة لهم،

     ؤ وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كيفية أدائها، قال جابر بن عبد الله بن حرام رضي الله عنهما: {رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول : لْتأخذوا مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه} رواه مسلم.      

       وتتنوع أعمال الحج والعمرة من حيث الحكم الشرعي إلى ثلاثة أنواع:

* الركن وهو العمل الذي لا يصح الحج إلاَّ به كالطواف بالبيت والوقوف في عرفات.

* الواجب وهو العمل الذي لا يؤثر تركه في صحة الحج ولكنه يوجب الفداء بذبح شاة، ويترتب الإثم على من تركه عمداً ومثله رمي الجمار والوقوف لذكر الله عند المشعر الحرام.

* السنة وهو العمل الذي لا يأثم الحاج بتركه ولا يجب عليه شيء لكن يفوته فضل السنة كالصلاة عند مقام إبراهيم والشرب من ماء زمزم.

     ويكون ترتيب أعمال الحج (والعمرة) على النحو التالي:

أولاً : الإحرام ، وهو نية الحج خالصاً لله تعالى ، وهو ركن في الحج والعمرة، ويتحقق بتجرد الرجل من الملابس المخيطة واستبدالها بالإزار الذي يلف به الجزء الأسفل من الجسم، وبالرداء الذي يلف به الجزء الأعلى منه، ويسن لبسهما بعد الاغتسال والتطيب وبعد صلاة ركعتين، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة الكافرون وفي الثانية سورة الإخلاص، أما المرأة فإحرامها بكشف وجهها وكفيها فقط إذا أمنت الفتنة لقوله صلى الله عليه وسلم: {ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين} رواه البخاري، ثم يقول الحاج: {لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك} رواه البخاري، ويقطع التلبية برمي جمرة العقبة يوم النحر بأول حصاة.

ومن المعلوم أن النية في العبادات محلّها القلب ولا يشترط التلفظ بها، إلا عبادة الحج فينويها متلفظاً،

يحرم الحاج من الميقات ، والميقات هو المكان الذي لا يجوز للحاج أن يتجاوزه بغير إحرام، وميقات أهل فلسطين رابغ أو آبار علي. وللإحرام ثلاثة أنواع يخير الحاج بينها:

* الإفراد: بأن ينوي الحج فقط عند إحرامه فيقول : لبيك اللهم بحج ، ويؤدي أعمال الحج وحده، فإذا أنهى مناسك الحج يحرم للعمرة وحدها من جديد.

* القِرَان: بأن ينوي الحج والعمرة جميعاً فيقول : لبيك اللهم بحج وعمرة ، ويتداخلان بحيث يأتي الحاج بأعمال الحج والعمرة معاً في نُسُكٍ واحد.

* التمتع: بأن ينوي العمرة فقط عند إحرامه فيقول: لبيك اللهم بعمرة، ويؤدي مناسكها ويتحلل، ثم يحرم للحج من جديد في اليوم الثامن من ذي الحجة.

ويجب على القارن ذبح الهدي شكراً لله تعالى على أدائه نُسُكَيْنِ في وقت واحد، وكذلك  يجب الهدي على المتمتع شكراً لله على تحلله من الإحرام بين النُّسُكَيْن، فمن لم يقدر على ذبح الهدي وجب عليه الصوم، قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} البقرة 196، أما المفرد فلا هدي عليه.

     فإذا أحرم الحاج أو المعتمر فيحظر عليه أمور تسمى محظورات الإحرام:

1- المعاشرة الزوجية، وارتكاب المعاصي والآثام، والجدال والمخاصمة، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} البقرة 197.

2- التطيُّب وإزالة الشعر وقص الأظافر ولبس المخيط من الثياب وتغطية الرأس.

3- التعرض لصيد البر، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} المائدة 95.

     فمن ارتكب أياً من هذه المحظورات وجب عليه ذبح شاة أو إطعام ستة مساكين أو صوم ثلاثة أيام على التخيير، إلاَّ المعاشرة الزوجية فهي تبطل الحج وتوجب إعادته، قال تعالى: {... فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ..} البقرة 196. فلْيجتهد الحاج في الالتزام وليحرص على عدم بطلان حجه، لأن إعادته غالباً غير متيسرة وبالأخص في هذا الزمان حيث إن إجراءات التسجيل وتحديد الأعداد لكل دولة قد تعيق ذلك.

أشواط مع الانشغال بالذكر والدعاء وتلاوة القرآن، وهذا هو طواف القدوم أو التحية لكل من القارن والمفرد وهو من سنن الحج تحية للمسجد الحرام، لكنه طواف العمرة وركنها لمن أحرم متمتعاً، والطواف هو مشي الحاج ودورانه حول الكعبة المشرفة، ويسن للطائف أن يستلم الحجر الأسود مع بداية كل شوط أو يشير إليه في حالة الزحام ويكبر الله، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما: {أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر} رواه البخاري، ويقول في بداية كل شوط بقوله: {اللهم إيماًنا بك وتصديقاً بكتبك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك، بسم الله والله أكبر} رواه عبد الرزاق، وهذا من السنن، ويسن للحاج بعد إنهاء الطواف صلاة ركعتين عند مقام إبراهيم لقوله تعالى: {...وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى..} البقرة 125، ثم يشرب من ماء زمزم.

     ويشترط لصحة الطواف طهارة البدن والثوب، والبدء بالحجر الأسود في كل شوط والانتهاء إليه، وجعل الكعبة على يساره، والموالاة بين الأشواط السبعة أي أداؤها متتالية.

ثالثاً: السعي بين الصفا والمروة ، يتجه الحاج بعد طواف القدوم إلى الصفا والمروة للسعي بينهما سبعة أشواط بدءاً بالصفا وانتهاء بالمروة منشغلاً بالذكر والدعاء، ويعتبر سعيه من الصفا إلى المروة شوطاً ومن المروة إلى الصفا شوطاً آخر ، ويستحب الصعود إلى الصفا والمروة واستقبال الكعبة والدعاء ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو بقوله: {رب اغفر وارحم واهدني السبيل الأقوم } رواه أحمد . وهذا السعي يقع عن الحج للمفرد وعن العمرة للمتمتع وعن الحج والعمرة للقارن ، وهو من أركان الحج والعمرة لا يصحان إلا به، قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ } البقرة 158.

رابعاً: الحلق أو التقصير، بعد الانتهاء من السعي يتحلل المتمتع من إحرامه فيحلق الرجل رأسه أو يقصر شعره والحلق أفضل من التقصير، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: {رحم الله المحلّقين ، قالوا والمقصّرين يا رسول الله؟ قال رحم الله المحلّقين، قالوا والمقصّرين يا رسول الله؟ قال رحم الله المحلّقين، قالوا والمقصّرين يا رسول الله؟ قال والمقصّرين} رواه البخاري، والمرأة تقصر ولا تحلق، أما المفرد والقارن فيظلان على إحرامهما فلا يحلقان ولا يقصران.

     وفي انتظار اليوم الثامن من ذي الحجة فلْيحرصْ الحاج على الإكثار من الطواف والصلاة في المسجد الحرام ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مئة ألف صلاة فيما سواه} رواه أحمد.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الشيخ د. تيسير رجب التميمي؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. قاضي قضاة فلسطين. رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً. أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس.





التالي
اعتداء عنصري على فتاة مسلمة في برلين استهدف حجابها من قبل يميني متطرف
السابق
الهند.. مؤثرون هندوس ينشرون بيانات مضللة عن عدد المسلمين! (تقرير)

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع