البحث

التفاصيل

الولاية على المرأة في الزواج والتّحيُّز الذّكوري

الولاية على المرأة في الزواج والتّحيُّز الذّكوري

بقلم: محمد خير موسى

 

كلما ذُكرت قضايا المرأة كانت مسألة الولاية في تزويجها وإعطاء الحق لوليها في تزويجها بغير إذنها عنوانًا عريضًا للتدليل على التحيز الذكوري في الفقه الإسلامي.

وهنا أقول: إن من حق أي باحث أو كاتب أو كاتبة أن يصدر حكمه ورأيه في أية قضية؛ لكن هناك فرق بين الحكم المسبق الذي تُحشَد له الأمثلة والأدلة فيقع صاحبه فريسة محاولة إثبات الذات أكثر من إثبات الحق، وبين الباحث عن الحقيقة والذي ينشدُ الحق فيجمع أية مسألة من أطرافها ثم يطلق حكمه.

دلالات إطلاق لفظ الولاية على العلاقة بين الرجل وابنته

يذهب الناس مباشرة إلى التعامل مع الولاية على أن المقصود منها السلطة المعطاة للأب على ابنته، ولأسباب لها علاقة بالتراكم النفسي من رفض استبداد السلطات السياسية القائمة يتم سحب هذا الرفض على البنية الاجتماعية.

وفي العودة إلى معنى الولاية في اللغة نجد أنها تحمل معاني عديدة؛ أهمها الحب والنصرة، وهذه المعاني مُستحضرةٌ بشكل رئيس عند الحديث عن الولاية بمعانيها المختلفة. فالولي الذي يكون حاكمًا في الدولة يجب أن يحمل معاني الحب والنصرة لرعيته وشعبه، وحبه ونصرته لهم هما الدافع الرئيس لجعل ولايته وسلطته سببًا في جلب المصالح للرعية ودفع المفاسد عنهم.

وكذلك الولي في الأسرة، القائم على إدارتها وتسيير أمورها تكون ولايته حاملة لهذين المعنيين، الحب الذي يدفع الولي إلى تحصيل منافع مَن هم تحت ولايته، بدافع الحب والعاطفة التي يحملها في قلبه، والنصرة التي تدفع الولي إلى دفع المفاسد المحتملة والمتوقعة قبل حدوثها خوفًا على مَن هم تحت ولايته وفي رعايته.

فلا يجوز بأي شكل من الأشكال الحديث عن ولاية الرجل على ابنته دون استحضار هذين المعنيين اللذين يقوم عليهما مفهوم الولاية.

ولئن قلت: لكن هناك العديد من الأسر فيها اختلال في العلاقة بين الولي والبنت، فلا نجد الحب والشفقة ولا معاني النصرة بل الظلم والاستبداد، فالجواب على ذلك: إن الفقه الإسلامي ناقش هذه القضية بتفصيل، فاشترط أن لا تكون هناك خصومة ظاهرة بين البنت ووليها؛ يكون فيها الأب عاضلاً أو ظالمًا أو مانعًا ابنته من الزواج، وإضافة إلى تحريم ذلك ديانة فقد قرر نقل الولاية للقاضي الذي هو ولي مَن لا ولي له.

معاني مجلس العقد وحضور الولي والشهود

إن مجلس العقد ووجود الولي وحضور الشهود فيه معاني عديدة، منها تكريس أهمية هذا العقد، والدلالة على عِظَم مناسبة إنشاء الأسرة التي تُعد اليوم من أواخر حصوننا التي تستهدفها معاول الهدم.

وفيه معنى التكريم للمرأة، إذ يحتفي الناس بها ويحققون معنى أن تكون مطلوبة لا طالبة، فيأتي الرجال والوجهاء إلى بيتها يلتمسون موافقتها في مشهد بالغ الاحتفاء بها.

ولكن من أهم معاني مجلس العقد وحضور الولي والشهود معنىً لا يستحضره الكثيرون وله ارتباط بالولاية، وهو أن هذا المجلس هو الذي يتقدم منافحًا عن المرأة في حال حدوث أية خصومة أو خلل في الزواج القادم، فالشكل الذي يتم فيه عقد الزواج من اشتراط الولي والشهود يقصد منه أن يكون هؤلاء هم من يحملون عبء القضية عند حدوث خللٍ في الزواج بين المرأة وزوجها.

فالرجل هو الذي ينافح عن نفسه، وهو الذي عليه أن يثبت حقه ويدافع عن نفسه؛ بينما المرأة تجلس في بيت أبيها معززة مكرمة، ويتولى الولي بما يحمل من معاني الحب والنصرة عبء الدفاع عنها وحضور المجالس المختلفة وتحصيل حقوقها، إكرامًا لها من الدخول في هكذا مجالس ذات خصومة، وتقديرًا لأنوثتها أن تخدشها المعارك مع الرجال الذين يخوضون هذه الخصومات.

ولو نظرنا في جانب المصلحة للفتاة لوجدنا أن تحقيق هذا المعنى في هذا العصر الذي غدت فيه القيم في مهب الريح، ويشهد حالة من الإفساد الممنهج عبر العالمين الواقعي والافتراضي؛ هو أشد حاجة وضرورة، فوجود الولي الذي يتولى عقد الزواج ويُظهرُ أمام القادمين لخطبتها أن لها عزوة وسندًا من أهلها؛ يتولون أمرها من أهم ما تحتاجه المرأة في هذا العصر الداكن، ولهذا كله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاحَ إلا بولي وشاهدَيْ عدلٍ" (رواه بن حبان).

هل يجوز للولي أن يجبرَ ابنته على الزواج؟

مما استقر في الشرع عبر نصوص كثيرة متضافرة أن الرجل لا يجوز له أن يُكره ابنته على الزواج من شخص ما أو يجبرها على ذلك، وفي حال حدوث هذا الأمر فلها كامل الحق في رفع أمرها للقاضي ليقوم برد الزواج وإنهائه.

كما أن على الرجل قبل أن يزوج ابنته بمقتضى الولاية أن يأخذ موافقتها الواضحة على الزوج الذي تقدم لخطبتها، والأحاديث في ذلك كثيرة، منها:

ما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُنكح الأيم حتى تُستأمر، ولا تنكح البكر حتى تُستَأذن، قالوا: يا رسول الله، فكيف إذنها؟ قال: أن تسكت".

والسبب في اعتبار سكوت البِكر دون التصريح دليلاً على الموافقة ما رواه البخاري في صحيحه أن عائشة رضي الله عنها قالت: "يا رسول الله، إن البكر تستحي، قال: رضاها صمتها".

وكذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: "الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكرُ يستأذنها أبوها في نفسها وإذنها صمتها".

ومن الحوادث التي رد فيها رسول الله صلى الله وسلم زواج من تم تزويجهن بغير رضاهن، في تجسيدٍ عملي لمعنى أن الولاية لا تعني الإكراه أو الإخضاع على التزويج، ما رواه البخاري عن خنساء بنت خذام الأنصارية: "أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحه".

وقد عَنونَ الإمام البخاري للباب الذي وضع تحته هذا الحديث بعنوان: (باب إذا زوج ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود)، والبخاري إذا حدثَ فهو محدث وإذا بوبَ فهو فقيه.

والأمر ليس خاصًا بالثيب التي سبق لها الزواج بل هو عام في البكر والثيب. وقد روى أبو داود في سننه بسند صحيح "أن جاريةً بكرًا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم"

وكذلك روى النسائي وأحمد بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: "جاءت فتاةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني ابن أخيه يرفع بي خَسيسَته؛ فجعل الأمر إليها، قالت: فإني قد أجزتُ ما صنع أبي، ولكن أردت أن تعلمَ النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء".

هذه الأحاديث الصحيحة تدل بما لا شك فيه أن الولاية لا تعني بشكلٍ من الأشكال أن يُكرِه الأب ابنته على الزواج بأي شخصٍ دون رضاها الحقيقي وإذنها الواضح.

ماذا عن ولاية الإجبار في التزويج في الفقه الإسلامي؟

إن الولاية في التزويج هي نوعٌ من أنواع الولايات التي تعطى لمن يقوم على شؤون الآخرين للتصرف بما يُصلِح حالهم، ويجلب لهم المصلحة، ويدفع عنهم المفسدة، بمقتضى الحب والنصرة.

إن إعطاء هامش حيوي لأصحاب الولايات للتصرف بما يرونه صالحًا لمن هم تحت ولايتهم ينسجم مع مبدأ الولاية، فالحاكم له هامش في إصدار قرارات تؤثرُ على حياة الرعية دون الرجوع إليهم في كل تفصيل. ويشترط أن تكون هذه القرارات منسجمة مع القواعد العامة التي تحقق مصالحهم، وكذلك المدير في أية مؤسسة عمل له هامش من الصلاحيات لإصدار قرارات تتعلق بالعاملين في مؤسسته ممن هم تحت ولايته، وكل هذا يُقابَلُ بالتفهم من عموم الناس والكتاب والباحثين؛ غير أن إعطاء الرجل هامشًا من الصلاحيات في إصدار قرارات يتوخى فيها مصلحة من هم تحت ولايته في أسرته يلقى هجومًا بالغ الشراسة، علمًا أن الولي في الأسرة هو الأكثر حبًا ونصرة لمن هم تحت ولايته من أصحاب الولايات الأخرى الخاصة والعامة جميعًا.

وبالعودة إلى موضوع ولاية الإجبار في تزويج الرجل لمن هم تحت ولايته، فقد ذهب الفقهاء في هذه القضية مذاهب عدة، واختلفوا في المسألة، فذهبوا إلى أن للولي تزويج ابنته وابنه الصغيرين دون الرجوع إلى إذنهما. وعادة ما يتم استحضار أن الأمر متعلق بالفتاة وإغفال أن الحكم متعلق بالبنت والولد معًا إن كانا صغيرين؛ فقد ينجز الأب عقد زواج عن ابنه الصغير أو ابنته الصغيرة إن رأى في ذلك مصلحة كبيرة لهما.

واختلفوا بعد ذلك في الكبيرة، هل للولي إنشاء عقد الزواج دون الرجوع إليها، فمنهم من جعل العلة البكارة، أي أن للأب إنجاز عقد الزواج عن البكر ولو كانت بالغة وعاقلة دون الثيب من غير الرجوع إليها؛ وهؤلاء هم المالكية والشافعية والحنابلة، ومنهم من رأى أن العلة هي الصغر، أي أن للأب أن ينجز عقد الزواج عن ابنته الصغيرة فحسب، أما ابنته البالغة العاقلة فليس له ذلك، وهؤلاء هم الحنفية ورواية عند الحنابلة.

لكن هذه الولاية ليست خالية من الشروط والضوابط أبدًا، وهذا هو الأهم في الحديث عن القضية، فقد نص الفقهاء أنفسهم على شروط صارمة في حال أراد الولي تزويج ابنته، منها: أن لا يكون بين الأب وبين ابنته البكر عداوة أو خصومة ظاهرة، وأن يكون الزوج الذي اختاره كفؤًا، وأن لا يكون الزوج ممن تتضرر ابنته بالزواج منه بأي نوع من الضرر المادي أو المعنوي، وأن يكون مهرها مهر مثيلاتها.

على أن الفقهاء الذين قالوا بولاية الإجبار ذهبوا إلى أن الفتاة لها رد نكاح أبيها في حال اعتراضها على الزوج، فإنشاء العقد دون الرجوع إليها ابتداء لا يُسقطُ حقها في الاعتراض والرفض وعدم إمضاء هذا الزواج، كما أنه ليس للولي أن يمنع ابنته من الزواج من كفءٍ تقدم إليها وكانت به راغبة، فإن امتنع عن ذلك كان عاضلاً وتنتقل الولاية منه إلى غيره، فإن رفضوا جميعًا رفعت أمرها للقاضي، وزوجها من هذا الخاطب ما دام كفؤًا، فالقاضي ولي من لا ولي له.

ومع كل هذه الشروط التي تمثل بشكل واضح انطلاقها من حالة الحرص والحب للفتاة، وليس من التحيز الذكوري ضدها -كما يحاول البعض إيهام الفتيات بذلك- فإنني أتبنى ما قاله أحد أبرز فقهاء العصر في قضية الولاية في التزويج، وهو الشيخ الصادق الغرياني -مفتي ليبيا- الذي يقول في بحث له عنوانه (من قضايا الأسرة المسلمة في الغرب؛ الولاية في النكاح، الإجبار، مجالس التحكيم):

"من المصلحة المتعينة في مسألة الإجبار الأخذ فيها بقول وسط، لما فيه من إعمال النصوص جميعها، والحفاظ على مصلحة المرأة وأسرتها في مجتمعٍ مهدد بالتمزق والتفكك، وذلك بتقييد إطلاق ولاية الإجبار في البكر البالغة التي يقول بها الجمهور، بأن تجعل إجبار منعٍ لا إجبار إلزام، وذلك بجعل الحق للأب في منع البكر من الزواج من غير كفء الدين، دون إجبارها على الزواج ممن لا ترغبه؛ لأن النصوص التي تأمر باستئذانها ومنحها الحق في فسخ النكاح إذا أكرهت، وإن دلت على منع إكراهها على من لا تريد، لكنها لا تدل على أن لها الحق في تجاوز أبيها وإجباره على أن يُنكحها غير كفء يُلحق به شيْنًا وذمًا في ذاته، ويُلام عليه ديانةً لتفريطه في النظر في مصلحة ابنته، حيث مكنها من غير كفء.

وبعبارة أخرى، فإن نصوص الاستئذان وإن عارضت جبر الإلزام فلا تعارض جبرَ المنع، إذ ليس في منع زواجها من غير الكفء مخالفة للأمر باستئذانها، فإن الأب يستأذنها إذا أراد تزويجها ممن اختاره، ويعطيها الحق في الامتناع، ويبقى له الحق في منعها إذا أرادت الارتباط بغير كفء؛ حمايةً لها من ضرر التغرير، وحمايةً للأسرة والولي من ضرر ما يشين، وحفظًا لحق الله بعدم مخالطة الفاسق وقليل الدين".

وخلاصة كلام الشيخ الصادق الغرياني أن للأب بمقتضى ولايته أن يمنع ابنته من الزواج من غير كفء لها في الدين والأخلاق، وليس له إجبارها على الزواج من أحد أبدًا بمقتضى هذه الولاية.

في كل التفصيلات السابقة نرى أن الحديث عن تحيز ذكوري في قضية ولاية التزويج هو محض تدليس؛ ناتج عن جهل أو عن لف ودوران، ومحاولة إلصاق تهمة مسبقة الصنع بالفقه الإسلامي وبالإسلام كله.

بل إننا إذا أردنا أن نستخدم التوصيفات ذاتها بمنطق التقييم ذاته، فعندها سوف نصف المشهد بأنه تحيز إلى الأنثى؛ لأن كل ما قرره الفقهاء في المسألة وما جاء به الشرع ينبع من جعل المرأة هي الطرف الذي نبحث عن مصلحته بالدرجة الأولى، ويتم إقرار ما فيه مصلحتها والحفاظ على راحتها وأنوثتها وكرامتها قبل الالتفات إلى المصالح المتعلقة بالشاب، ولكن هذا لا يمكن وصفه بالتحيز، بل هو محض العدل القائم على وضع كل شيء في نصابه، ومراعاة طبائع الأشياء، والعلم الدقيق بتكوين كل من الرجل والمرأة، وهذا لا يكون إلا من مشرع هو الأعلم بأدق تفاصيل الخلق، وما تنطوي عليه مصلحة الرجل والمرأة {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ}(الملك: 14).

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* محمد خير موسى؛ عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

* ملحوظة: جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين





التالي
غضب في مصر من قرار إزالة مقبرة الشيخ القارئ محمد رفعت لإنشاء محور مروري

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع