حماقة بلا حدود
بقلم: د. جمال عبدالستار
ليس عجبًا أن تشن النخب العلمانية والقومية في العالم، وذباب الأنظمة الاستبدادية عربًا وعجمًا، حربًا على الرئيس أردوغان، وأن تتهمه بكل نقيصة فيها، وعلى رأسها الاستبداد والفشل، ولن أجيبهم بأعلى مشاهد الحرية التي شهدها العالم خلال الاحتفالية الانتخابية شكلًا ومضمونًا ونتيجةً..
ولن أجيبهم بمقارنة تركيا منذ عشرين عامًا بمكانتها المحلية والدولية الآن على جميع الأصعدة وفي شتى المجالات من دون استثناء، ولكن أجيبهم في الداخل والخارج بسؤال واحد: ماذا صنعت العلمانية بأهلها؟
هل قدمت العلمانية في تجربتها محليًّا أو دوليًّا، في القديم والحديث، حين تولت السلطة إلا أشنع صور الاستبداد والقهر؟!
ماذا قدم النظام المصري منذ عهد الملكية إلى يومنا هذا من حريات ونهضة واحترام إرادة وحماية حقوق؟! وماذا قدمت الأنظمة المتعاقبة في تونس واليمن وسوريا والعراق وتركيا وأغلب الأنظمة الملكية وغيرها سوى مزيد من التسلط على العباد، وبناء السجون وفتح المعتقلات، والتعذيب وحرمان المعارضين أدنى حقوق الإنسان؟!
والعجيب أنهم لم يتمكنوا من التنكيل بشعوبهم إلا بمساندة ودعم أنظمة النفاق الدولية، التي تتغنى بالديمقراطية ليل نهار، ثم تراها تصنع في بلادنا كل مستبد، وتدعم كل طاغية، وتحمي كل جبار كفور، وتبارك قتل شباب الأمة وأطفالها ونسائها وإهدار كرامتهم، بل وتنهب تلك الدول بنفسها مقدرات شعوبنا، وتنتهك حرماتهم، وتُعين على اغتصاب مقدساتهم!!
متى نهضت العلمانية اقتصاديًّا ببلادنا وأين؟! هل هناك إلا الفقر والانحدار؟! هل هناك إلا التبعية والاستذلال؟! هل هناك إلا المنع والمطاردة والتهجير؟!
تجارب الفشل
والعجيب أنهم بعد كل تجارب الفشل والتخلف، يريدون العودة من جديد بنفس شعاراتهم الزائفة، وهم لا يحترمون ولا يتحملون من يخالفهم الرأي وهم خارج السلطة! إنها عقول عفنة ونفوس مريضة!!
والأعجب من هؤلاء، والأشد حماقة منهم، تلك الفئات التي غيبها عن الواقع انحراف المنطق وضحالة الفكر، فانطلقت تعارض أردوغان، أو تمتنع عن الذهاب إلى التصويت باسم الدين والتدين!!
فمنهم من يرفع عقيرته قائلًا: لماذا ننتخب أردوغان وهو لا يطبق الشريعة؟ وربما لا يعلم هؤلاء المساكين أن من لم ينتخب أردوغان الذي يجهر بمحبة الإسلام، ويعتز بالانتساب إليه، فقد انتخب من يجهر ببغض الإسلام، ويتباهى بالفجور والعصيان!!
ربما لا يعلم هؤلاء المساكين القاعدة الفقهية التي تقول: إن الميسور لا يسقط بالمعسور!
والعجيب أن أكثر هؤلاء دخلاء على العلم الشرعي، فهم ما بين طبيب ومهندس ومحاسب وتاجر إلخ، لهم نصيب من اطلاع شرعي أو دعوي إلخ، ولكن لا أعلم أحدا منهم تربى في بيئة صناعة الفتوى والدربة العلمية، واكتساب مهارة التقعيد والتنزيل، والإحاطة بفقه الواقع، ولو كان عند أحدهم القليل من المُكنة العلمية للزموا غرزهم على الأقل، وأدركوا خطورة الافتئات على الله ورسوله، والقول على الله بغير بينة أو برهان!!
طبعًا لم يقل عاقل إن الرئيس أردوغان وحزبه ملائكة، أو إنهم النموذج الأمثل الأكمل، لكنهم بالقياس على شياطين الأنظمة القائمة في العالم العربي والغربي الآن رواد أبطال أطهار، فقد فتحوا المساجد وعمروها، وأنشؤوا الجامعات وطوروها، واحتضنوا العلماء وأكرموهم، وغرسوا القيم وحاربوا الشذوذ والإباحية، وانتصروا لقضايا المسلمين الكبرى، وانحازوا لحرية الشعوب وإرادتهم، وأعلوا من قيمة الإنسانية، وتفوقوا في الصناعة والعمران، وامتلكوا كل أدوات القوة، ووسائل حماية الأوطان.
إذا أردتم أن تعرفوا قيمة أردوغان فانظروا إلى صحف الغرب وقنوات الفُجر ومواقع الإباحيين والساقطين، وتصريحات العنصريين والملحدين، ومدى كراهيتهم له، لا لشيء إلا لما يحمله من قيم، وما يتمسك به من هوية، وما يبذله من حماية للفطرة من التدنيس وللإنسانية من تكريم.
ولو أن أحد الملاحدة أو المجوس أو عُبّاد البقر، حقق لبلاده ما حققه أردوغان، لأقاموا له التماثيل، ولتبارت أقلامهم تأييدًا وتبجيلًا وتعظيمًا وتطبيلًا، ولتتابعت عليه الجوائز العالمية!
وقال القرضاوي
لقد سئل فضيلة العلامة القرضاوي رحمه الله في حضوري: لماذا تؤيد أردوغان وهو لا يطبق إلا بعض الشريعة فقط؟ فأجاب: إن أردوغان يطبق الشريعة وليس بعض الشريعة. فقلت له: كيف؟! فقال رحمه الله: “إن الله يحاسب العبد على قدر إمكاناته واستطاعته، فمن كانت إمكاناته أن يطبق عُشر الشريعة فطبقه فهو عند الله مطبق للشريعة، ومن استطاع أن يطبق ثلث الشريعة فطبقه فهو مطبق للشريعة، ومن لم يتمكن إلا من دفع الضرر فهو منفذ للشريعة وفق إمكاناته لا وفق تطلعاتنا”.
وفي الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: “ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتُم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافُهم على أنبيائهم”. رواه البخاري ومسلم
وأردوغان يطبق ما يستطيع في جو تُحارب فيه القيم، وتتكالب على الأمة كل كلاب الأرض وذئابها، وتُنبت الأرض نفاقًا، وتتعرى الفطرة الإنسانية من أستار العفة والطهارة، وتتغنى بكل فحش ودياثة وتفاهة وحيوانية!!
ومن البلاهة أن هناك أقواما فتح لهم أردوغان الأبواب، فآواهم بعد تشريد، ومنحهم الجنسية بعد تيه، فإذا بهم يمتنعون عن التصويت قائلين: إن الديمقراطية كفر، والانتخابات حرام!!
وهم بداية قد افتأتوا على شرع الله تعالى، وأفتوا بغير بينة أو برهان، وما الديمقراطية والانتخابات إلا وسائل يستخدمها الناس وفق إمكاناتهم وتطورات عصورهم، والأعجب من هذا أن تجد هؤلاء يقرون لأنظمة الاستبداد والطغيان في الممالك والإمارات بالسمع والطاعة وإن جلدت ظهورهم ونهبت أموالهم، ونشرت الفواحش، وتآمرت على العلماء، وخانت قضايا الأمة، ووالت المحتلين!!
ليس خليفة
والأغيب عقلًا، ذلك القائل: لماذا تهتمون بانتصار أردوغان فليس خليفة!!
اسأله وأين الخلافة حتى يكون لها خليفة؟! وهل قيد الله تعالى وجوب الانتصار للمسلم وتأييده في صراعه مع الباطل بأن يكون خليفة؟!!
وما تصورك للخليفة والخلافة!! هل هي تلك الصورة الطفولية التي رسمها خيالك من المسلسلات والأفلام؟!
وأروغان لم يدع الخلافة، ولا أعلم أحدًا من العقلاء وصفه بها، ولكنه صراع الحرية مع الاستعباد، صراع الهوية والقيم مع التبعية وانتكاس الفطرة، صراع الفطرة مع الرجس، صراع الانتصار للإنسان ضد التعصب للأعراق والأوطان والألوان، صراع البناء والنهوض والاستقلال، ضد التخلف والمذلة والامتهان.
فإما أن تكون إنسانًا تنتصر لكرامة الإنسان، وإما أن تكون مخذولًا تنتصر لمعسكر الاستبداد والطغيان..
إما أن تنصر الحق غير المكتمل من وجهة نظرك، أو تنتصر للباطل المكتمل حسب اعتقادك..
إما أن تُحافظ على الميسور وتحميه وتقويه، وإما أن تضيع الميسور فيلحق بالمعسور فتصبح فاسدًا مفسدًا، ضائعًا مُضيعًا، فاتنًا مفتونًا..
إما أن تُعين من يبني وإن كان ضعيفًا، أو أن تُعين من يهدم ولو كان قديسًا.. وليس ثمة مقعد ثالث إلا مقعد من كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. جمال عبد الستار؛ عضو مجلس الأمناء ورئيس لجنة الشباب في الاتحاد العالمي لعلماء المسملين. الأمين العام لرابطة علماء أهل السنة.