البحث

التفاصيل

أزمة فشو الطلاق في المجتمع، وفضل الإصلاح بين الزوجين

أزمة فشو الطلاق في المجتمع، وفضل الإصلاح بين الزوجين

بقلم: الأستاذ بن سالم باهشام

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

(سلسلة خطبة الجمعة)

عباد الله،  في إطار ذكر أهمية الإصلاح بين المتخاصمين وفضله، نبدأ بذكر قصة أخوين متقاطعين والبنّاء الذي أصلح بينهما. عسى أن تكون سببا في رفع هممنا وشحذ عزائمنا، حتى نحرص على الإصلاح بين المتخاصمين عموما وبين الأزواج خصوص كما كان السلف الصالح، تذكر القصة أن أخوين كانا متحابين، يعيشان في توافق تام بمزرعتهما، حتى جاء يوم شب خلاف بينهما، وبدأ بسوء تفاهم، واحتد النقاش، وتبعه قطيعة استمرت عدة أسابيع، حتى اتسعت الهوة بينهما، وانقطعت الصلة، فأحضر الأخ الأكبر بنّاء، وشرح له أن بالجانب الآخر من النهر، يقطن أخوه الأصغر، وقد أساء إليه، وأهانه، وانقطعت كل صلة بينهما، وسيريه أنه قادر على الانتقام، لهذا أراد من البناء أن يبني له سورا عاليا بينه وبين أخيه الأصغر المسيء إليه، لأنه لا يرغب في رؤيته ثانية، قبل العامل  عرضه، ووعده بأنه سيبني له ما يسرُّه إن شاء الله. وأعطى الأخ الأكبر للعامل كل الأدوات اللازمة للعمل، ثم سافر تاركاً إياه أسبوعاً كاملا، وعند عودته من المدينة، كان العامل قد أنهى البناء . ولكن؛ يا لها من مفاجأة! فبدلاً من إنشاء سور عال يفرق بين الأخوين، ويقطع صلة الرحم. بنى جسرا يجمع بين طرفي النهر، في تلك اللحظة، خرج الأخ الأصغر من منزله، وجرى صوب أخيه قائلا: يا لك من أخ رائع ! تبني جسرا بيننا برغم كل ما بدر مني من أخطاء ! إنني حقا فخور بك، وبينما كان الأخوان يحتفلان بالصلح، أخذ العامل يجمع أدواته استعدادا للرحيل، فلما طلبا منه أن يبقى معهما لوجود فرصة للعمل عندهما، أجابهما بأنه يود البقاء معهما، لكن جسورا أخرى تنتظره لبنائها.

 

عباد الله، هذه القصة طافحة بالعبر التي يمكن أن تنير طريقنا، وتعيد الألفة والمحبة في صفوفنا، كم هذه العبر:

 أولا: يجب أن نكون جميعا بناةً للجسور دائما.

 ثانيا: لا ينبغي الاستجابة للمتخاصمين  والانسياق مع أهوائهم، فنبني جدارا للتفريق بينهما.

 ثالثا: علينا أن نكون ممن يوحد ويجمع، ولا يفرق بين الناس.

 رابعا: القصة دعوة لكل من في نفوسهم خير، ليشاركونا في بناء جسور الحب في الله.

خامسا: لنكن مفاتيح للخير مغاليق للشر، ولنحذر من أن نكون من أهل الفتنة بين الناس، فإنها تحلق الدين، وعلينا أن نتصافح ونتسامح ونبتسم، فالدنيا ممر، وليست مقرا، ولن يفيدنا إلا الصالح من أعمالنا، ومن أعظم الأعمال العفو والإصلاح بين الناس.

عباد الله، ما دمنا في مجتمعٍ مادي تغلب عليه المادة، وتكثر فيه المعاصي، فإن الخلافات لابد أن تكثر تبعاً لذلك، بما في ذلك العلاقات الزوجية، وجميع المسلمين عليهم واجب إصلاح ذات البين، ومحاولة إزالة ما في النفوس من ضغائن، وخصوصا بين الزوجين؛ للحفاظ على اللبنة الأولى للمجتمع.

عباد الله، إن إصلاح ذات البين من العبادات العظيمة ولا شك. قال الله تعالى في سورة الأنفال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ) [الأنفال: 1] ، وهذا أمرٌ لابد منه، لابد من الإصلاح بين إخوانكم، وبين النفوس، للتقريب بينها، ولابد من إزالة أسباب العداوة، وقد قال الله تعالى في أجر المصلح بين الناس في سورة النساء: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114]،   وروى البيهقي في الأربعين الصغرى، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (ألا  أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟، قَالُوْا: بلى يَا رَسُوْلَ اللهِ، قَالَ: إصلاح ذات البين، فَإِنَّ فساد ذات البين هي الحالقة.)، [الأربعون الصغرى للبيهقي (ص: 155)]

عباد الله، لما كان نفع إصلاح ذات البين متعدياً، وخيره عميماً، وفائدته شاملة، صار أجره عظيماً، وقد كان النبي ﷺ يقوم بذلك بنفسه ، ويحرص عليه،  وبذلك دلَّ الكتاب والسنة على فضل الإصلاح بين الناس، ولعظم الإصلاح بين الناس، جعلت الشريعة الإسلامية إثم الكذب منتفياً عمن يُصلح بين الناس، روى أبو داود عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لم يكذب من نَمَى بين اثنين ليصلح)، أي  لا يعتبر كاذبا من رفع الحديث بين اثنين للإصلاح،[أخرجه أبو داود (4/280 ، رقم 4920)]، ومن أوجه ذلك، أن يخبر بما علمه من الخير، ويسكت عما علمه من الشر، فلا ينقله ولا يبلغه، فإذا نقل خبراً أو سئل: هل قال فلانٌ فيّ كذا؟ فنفى ذلك لم يكن كاذباً،

هذا الإصلاح. وفي سنة النبي ﷺ الفعلية محاولاتٌ وعملٌ دائبٌ منه ﷺ في الإصلاح بين الناس، بل إن بل إن النبي ﷺ كان يذهب في الإصلاح، ولو بعدت المسافة، وندب إلى ذلك أصحابه رضي الله عنهم، وكان ﷺ يشير على المتخاصمين بالصلح، وكان ﷺ يعظ في أمر الصلح، ويُرغّب فيه، ويذم من رفض الصلح، وللصلح بين المسلمين فوائد كثيرة، فإنه يثمر إحلال الألفة مكان الفرقة، واستئصال داء النزاع قبل أن يستفحل،  والحيلولة دون وقوع الطلاق بين الزوجين، وحقن الدماء التي تراق، وتوفير الأموال التي تنفق للمحامين بالحق وبالباطل، والحماية من شهادة الزور، وتجنب المشاجرات والاعتداءات على الحقوق والنفوس.

عباد الله، إن من أعظم أنواع الصلح، الصلح بين الزوجين المتخاصمين؛ فإن الأسر تقوم على المحبة والألفة، وتدوم بدوامها، فإذا انتهت المحبة والألفة، وحل الشقاق، صار الفراق، ولابد للمصلحين من القيام بواجبهم تجاه الأسر المتفككة، والسعي في الإصلاح بين الأزواج، وقد قال الله تعالى عند حصول الشقاق في سورة النساء: (فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا).

فماذا يفعل الحكمان؟ يقوم كل واحدٍ منهما بالالتقاء بوكيله، أو مندوبه الذي انتدبه، أو طرفه الذي ينوب عنه، فيسمع لموكله ويتعرف على سبب الشقاق والخلاف، ثم يجتمع الحكمان، فيعتمدان أموراً، ويتوصلان إلى الطرف المخطئ من الزوجين، لأجل وعظه ونصحه، أو وعظ الطرفين معاإذا كان كلاهما مخطئ، والسعي في تقريب وجهات النظر، ولذلك فإن من الحكمة أن يذكِّر الحكمان الزوج بوصية رسول الله ﷺ بالنساء، وبقوله ﷺ في الوصية بالزوجة: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، وأن المرجو منك – يا أيها الزوج – والمأمول أن تعامل زوجتك بالفضل  والإحسان، والمسامحة، والتغاضي، لأن أهلها استودعوها عندك، وائتمنوك عليها، ووثقوا بك من أنك ستسعدها، ولا تسبب لهم المتاعب بسببها، وأنها أم أولادك، أو أنها ستكون كذلك مستقبلاً، والولد الصالح مما ينتفع به أبوه في الحياة، وبالدعاء له بعد الممات، وأن الزوجة كالأسيرة بيد زوجها، وليس من الإسلام، ولا من المروءة، ولا من الشجاعة التي جاء بها الإسلام، أن يسيء المسلم إلى أسيرته، أو أسيره، فكيف إذا كانت الأسيرة الزوجة؟ وأن الزوج الكريم؛ هو الذي لا يستغل قوته وبطشه، ولا يتعسف باستعمال سلطته على زوجته على نحوٍ يُلحق بها الضرر، فهذه المعاني إذا قدمها الحكمان إلى الزوج بأسلوبٍ لطيف، وقولٍ لين، فالغالب أنها ستؤثر في نفس الزوج، وسيُقلع عما أدى إلى الشقاق، وكذلك ينبغي للحكم من أهل الزوجة، أن يكلم الزوجة بمعاني الإسلام، ويذكرها بأحكامه المتعلقة بالزوجة في علاقتها بزوجها، وأن يذكِّرها بعظيم حق الزوج عليها، وأن من حسن معاشرتها له بالمعروف، أن تُسمعه الكلمة الطيبة اللينة، وأن تسارع إلى طاعته فيما أوجبه الشرع عليها من طاعته بالمعروف، وفيما يأمرها بها زوجها من المباحات، وألا تثقل عليه بطلباتها الكثيرة، وأن تتحمل عبوسه وصدوده وإساءته، وأن تقابل ذلك بابتسامتها وإحسانها وخدمتها، فإن الزوج إذا رأى ذلك منها، فسرعان ما يزول عنه العبوس والصدود، ويكف عن الإساءة، وعليها ألا تستقصي في طلب الحقوق، وإذا أحست بكراهتها له، فلتطرد هذا الإحساس، ولتذكِّر نفسها بأنه قد يجعل الله لها فيما تكرهه الخير الكثير، فيرزقها الله منه ولداً تقر به عينها، ويزول عن قلبها ما تحسه من كراهة لزوجها، فتذكير الطرفين بحق كل واحدٍ منهما على الآخر، وبالمعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها، مما يجعل أمرهما هيناً سهلاً، والصلح بينهما وشيكاً.

عباد الله، إن للإصلاح بين الناس آداب بينها الشرع الإسلامي، وبدونها يكون المتدخل في الخصومة غير عاقل، لا يحسن التصرف، فإن إفساده سيكون أكثر من إصلاحه، وهذا أمرٌ مشاهد، فإن عدداً من الناس يتدخل في القضية لأجل الإصلاح بزعمه، فإذا به يبعد النجعة، ويباعد الشُّقة، ويتسبب في مزيدٍ من الفرقة، ويحصل الكثير من الخلاف بعد أن كان شيئاً محدوداً، فإذا به يستشري وينتشر، فنذكر المصلحين الذين يريدون التدخل للإصلاح بما يلي:

أولاً: أن يبتغي المصلح  بعمله وجه الله تعالى، قال تعالى في سورة النساء: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً)، فإذا كانت النية صافية ومُخْلَصَةً لله، كانت النتيجة طيبة، قال تعالى في سورة النساء: (يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا).

ثانياً: الحكمة في التعامل في الأمور، فإن في كثيرٍ من الأشياء بين المتخاصمين حساسيات.

ثالثاً: التكتم: لما جاء في الأثر”واستعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان”، فلكي تنجح القضية، لابد من التكتم، وعدم نشر التفاصيل بين الناس.

رابعاً: على المصلح أن يُذكّر كل واحد من المتخاصمين بالله تعالى، وبحق الآخر عليه، إن كان أخاً في الله، يذكره بحقوق الأخوة، وإن كان زوجاً، يذكره بحقوق الزوجة، وإن كانت زوجة، تذكر بحقوق الزوج، وكذلك؛ فإنه لا بأس أن تنقل إليه كلمات من الخير على لسان الطرف الآخر، وتكتم عنه أموراً من الشر جاءت على لسان الطرف الآخر، هذا من الحكمة والسياسة في الإصلاح بين المتخاصمين.

عباد الله، إن إصلاح ذات البين، والإصلاح بين المتخاصمين يعتبر عبادة عظيمة جداً فرط فيها الكثير، ولذلك عمت الفرقة والشتات في كثيرٍ من طبقات المجتمع ونواحيه، وتفككت كثيرٌ من الأسر، ولو أن المسلمين تدخلوا كما أمر الله في سورة الأنفال فقال: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)، وهذا أمرٌ واجب – لتفادينا كثيراً من الشر، ولكننا نجد هذا يخالف الشرع، وهذا يهمل ولا يُهمه الأمر، فلذلك انتشرت الخلافات، وعم الشقاق بين المسلمين، فلنبادر إلى الإصلاح على جميع المستويات.

عباد الله، إن إصلاح ذات البين عبادة أوصى بها الله تعالى، وأوصى بها رسول الله ﷺ، فانتدبوا أنفسكم للقيام بها، فإن في القيام بها أجر عظيم لا يعلمه إلا الله تعالى. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.





التالي
الحج على نفقة الدولة (فتوى)
السابق
"دعم للظلم وخذلان للمظلومين".. ثُلة من علماء الأمة يستنكرون دعوة بشار الأسد لحضور القمة العربية في جدة

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع