البحث

التفاصيل

المقال السابع- العلم أوسع من العلوم الطبيعية موضوعا ومنهجا

الرابط المختصر :

المقال السابع- العلم أوسع من العلوم الطبيعية موضوعا ومنهجا

بقلم: بدران بن لحسن

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

(اقرأ: المقال السادس- ما السبيل للخروج من تقليد الغرب في تحديد الصلة بين الدين والعلم؟)

 

إن الإنسان هو محور أي نهضة حضارية، لأن صناعة التاريخ فعل إنساني، فإذا أردنا أن نحقق نهضة ينبغي أن ننتبه إلى عنصر الإنسان باعتباره العنصر المحوري في أي عملية تنمية وبناء حضاري. والإنسان باعتباره عنصرا محوريا فإنه – كما يقول مالك بن نبي- يؤثر في التاريخ بفكره وبعمله وبماله، ولكن الحقيقة أيضا أن الفكر هو من يقود العمل والمال، ولهذا فإن الاهتمام بالإنسان معناه الاهتمام ببناء وعيه وفكره[1]. وهذا يتطلب الاهتمام بالعلم، لأننا بالعلم فقط نستطيع أن نبني هذا الوعي، ونصوغ البنى الفكرية التي توجه العمل والمال، وتجعل أبعاد تأثير الإنسان تتكامل، وتتوجه لبناء نهضة حضارية.

ولكن يثار إشكال يتعلق بالعلم ذاته، وبمدلولات العلم في عصرنا الحديث؛ وبخاصة مع الجدل المستمر في حصر مفهوم العلم في علوم الطبيعة وما نشأ عنها وعن نموذجا، أو ما يمكن تسميته بالجانب التجريبي في العلم. مما يثير نوعا من الاضطراب، نراه متجسدا في برامجنا التعليمية، وفي مؤسساتنا العلمية والبحثية، وفي توجهات صانع القرار العلمي بوجه خاص، وفي كل القرارات المتعلقة بالمجتمع.

وهذ ما نراه أيضاً في ذلك الاستبعاد من وصف العلمية لمجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية والشرعية (الدينية)، باعتبار أن معظمها لا يخضع للتجربة والدراسة (الأمبيريقية)[2]، باعتبار أن مقياس العلمية صار مع العصور الحديثة الغربية هو معيار العلم التجريبي[3].

لكن الإشعاع العالمي للحضارة الغربية أدخلنا في صندوقها وصرنا نفكر من داخلها؛ سواء ضمن ما أضافته للحضارة والمعرفة الإنسانية من قيمة إيجابية، أو من خلال ما جلبت علينا من فوضاها وإخفاقاتها واختزالاتها[4].

ومن ضمن ما صرنا نفكر فيه من داخل صندوق الحضارة الغربية المغلق، ونعمل ضمن قوالبها المفروضة، هذا التضييق لمفهوم العلم، وهذا الاستبعاد لمجالات علمية كثيرة من وصف العلمية، بسبب عدم خضوعها للتجربة، لأن هذا كله منتج ثقافي نتج في سياق تطور تاريخي وحضاري وخبرة غربية أوروبية، تحاول أن تعمم نموذجها على العالم، وتختزل مفهوم العلم في تضييقاتها الفلسفية والفكرية وتجربتها الحضارية الخاصة.

ولعل هذا نلاحظه في جامعاتنا ومناهجنا ومؤسساتنا ولدى صناع المعرفة والقرار عندنا. فقد سادت نظرة قاصرة للعلوم الانسانة والاجتماعية والعلوم الشرعية، وصار يتبناها كثير من قادة الأمة في عالمنا الإسلامي، بفعل الهوس بالتحديث التكنولوجي والتقني، ومركزية العقلية العلمية بمعناها التقني. فصار كثير من القادة والسياسيين وأصحاب القرار في مستويات مختلفة يرون أن مشكلتنا تقنية بحته، وصاروا يعطون أولوية كبيرة للعلوم التقنية والتكنولوجية والطبيعية؛ أي علوم المادة عموما، بينما يتم تجاهل العلوم الانسانية والاجتماعية والشرعية، سواء بحسن نية أو بسوئها.

وتكمن المشكلة الخطيرة في أن معظم من يتولى القرار في جامعاتنا ومؤسساتنا ومراكز القرار فينا لهم خلفية علمية تقنية، بمفهومها الاختزالي الذي انتجته الحضارة الغربية ونموذجها المعرفي، ويكاد معظمهم يجهل تماما ثراء وتنوع وأهمية وحيوية العلوم الانسانية والاجتماعية والشرعية، ولهذا يعطونها هامشا ضئيلا في تفكيرهم وفي قراراتهم.

بل تراهم يتعسفون في قرارات خطيرة تجاه هذا المجال الحيوي، بحجة أن هذه العلوم هي علوم كلام فقط وليست فيها منجزات تطبيقية، أو أنها لا تنتج وغير مثمرة مثل العلوم التقنية، أو أنها علوم متأخرة تحتاج أن تواكب العلوم الطبيعية والتقنية.

وهذه وجهة نظر خطيرة جداً، لأنها وجهة نظر سطحية وغير علمية وغير منصفة، لأن المقارنة بين العلوم التقنية وبين العلوم الانسانية والاجتماعية والشرعية مقارنة ظالمة، تجعل من العلوم التقنية هي المركز والباقي هامش.

كما أنها وجهة نظر تتجاهل أن العلوم الشرعية والانسانية والاجتماعية هي علوم تهتم الانسان وتبني الوعي وتشكل الذهنيات، بينما العلوم التقنية تشتغل على المادة والآلة ولا علاقة لها بالوعي، إلا بمقدار أثر منتجاتها على الإنسان، بل إن الإنسان بوعيه هو من يصنع تلك الآلات.

ولهذا فإننا ما دمنا نزدري العلوم الانسانية والاجتماعية والشرعية، ولا نعطي لها أولوية، ولا نهتم بها، ولا نعطيها حقها من البرامج والعناية والتخطيط والبرمجة فإنا نبقى ننتج إنسانا مشتتا ووعيا مضطربا ملحقا بعلوم المادة لوحدها.[5]

والناظر في كيفية صياغة برامج هذه العلوم، وكيف يتحكم التقني في الانساني والاجتماعي والشرعي يعطيك البرهان على أن الشُّقَّةَ مازالت بعيدة، وأن عملا كبيرا ينبغي أن نقوم به لافتكاك المبادرة من التقنيين إلى حساب الانسانيين والاجتماعيين والشرعيين.

أقول هذا من وحي فوضى ما نعانيه من قرارات التقنيين، التي تقوض حقل المعرفة الانسانية والاجتماعية والشرعية، بحجة التطوير والتحديث ومواكبة التقدم العلمي، في تجاهل تام لخبراء الميدان ذاته، وفي تغييب لهم عن صنع مصيرهم.

ونعود فنقول أن تلك الفوضى والاختزال للعلم بمفهومه الشامل إلى مفهوم ضيق يتمحور حول العلوم الطبيعية، لا يمكن القبول به، كما يرى طه عبد الرحمن[6]، بحكم مبدأين مهمين ذكرهما، وأولهما "مبدأ مراتب العقل"؛ وبيانه أن السؤال الذي يجيب عنه العلم هو بالذات "ماذا أعقل؟"، فيكون الأصل في العلم هو العقل الصحيح؛ غير أن العقل الصحيح ليس –كما شاع وذاع- رتبة واحدة، وإنما هو –على الحقيقة- رتب متعددة؛ وحيثما وُجدت رتبة من هذه الرتب العقلية فثمّة علم على قدرها؛ وعلى هذا، يكون العلم فوق العلم الطبيعي متى كانت رتبة العقل الذي يتعلق به تعلو على رتبة العقل الذي يتعلق بالعلم الطبيعي، كما يكون العلم دون العلم الطبيعي متى كان العقل المتعلق به ينـزل عن رتبة العقل المتعلق بالعلم الطبيعي؛ وهكذا، فالعلم أوسع من أن يستوعبه العلم الطبيعي وحده[7]، وهذا يشير إلى ما ذكره ابن خلدون من اختلاف وتنوع مستويات الادراك العقلي.

أما المبدأ الثاني فهو "مبدأ استكمال العلم"؛ أي أن الأصل في كل علم من العلوم أن يطلب كمالَه، ولا يُحَصِّل هذا الكمال إلا بالالتجاء إلى العلم الذي يعلوه؛ ذلك أن كل علم تكون به آفات وله حدود، ولا يمكن أن يُزيل هذه الآفات ويَرفع هذه الحدود إلا علمٌ أرقى منه، فلا بد إذن لكل علم من أن يظل موصولا بالعلم الذي فوقه، حتى تزول عنه آفاته وترتفع عنه حدوده؛ وهكذا فالعلم الطبيعي لا تذهب عنه مناقصه ويكتمل حقاً إلا بعلم غير طبيعي يسمو عليه[8]؛ أي أن هناك تداخل وتكامل بين العلوم، بحيث يستمد أحدها من الآخر ويكمله. فلا ينفرد علم ما بتشكيل وبناء المعرفة العلمية، بل أن كل علم يحتاج إلى علوم أخرى إما تسبقه فتوفر له المادة الاولية من المفاهيم والتصورات والأدوات أو تكون تبعا له تطبق مخرجاته.

 

 

[1]مالك بن نبي، شروط النهضة، 673 وما بعدها.

[2] المصطلح معرب من كلمة (Empirical) بمعنى التجريبية.

[3]  فضيل دليو، "العلوم الاجتماعية بين العالمية والخصوصية"، مجلة جامعة قسنطينة للعلوم الإنسانية، عدد5، 1994، ص66.

[4] ملك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة عبد الصبور شاهين، 1423هـ/ 2002م، ص119 وما بعدها.

[5]  بدران بن لحسن، ازدراء العلوم الانسانية والاجتماعية والشرعية. أنظر:

https://oulama.dz/2017/06/18/ازدراء-العلوم-الانسانية-والاجتماعية/  تم الدخول يوم 12/6/ 2021.  

[6] طه عبد الرحمن، كيف نفكر في الصلة بين الدين والعلم؟، ص39-40.

[7] المرجع نفسه، ص 39-40.

[8]  المرجع نفسه، ص40.





التالي
فليعبدوا رب هذا البيت

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع