البحث

التفاصيل

نبش المقابر.. وهدم دار الإفتاء

نبش المقابر.. وهدم دار الإفتاء

بقلم: د. محمد الصغير

 

دار الافتاء المصرية من أقدم مجالس الفتوى الرسمية في العالم الإسلامي، حيث أنشئت بقرار من الخديوي عباس حلمي في 7 جمادى الآخرة 1313ه‍ الموافق 21 نوفمبر 1895م، وأسندت إلى فضيلة الإمام حسونة النواوي إلى جوار مشيخة الأزهر الشريف، لذا فهناك من يعتبر الإمام محمد عبده أول مفت للديار المصرية، لأنه تولاها مستقلة عن المشيخة.

ومن اللطائف أنه باستثناء الإمام محمد عبده، فإن أوائل من تقلدوا منصب الإفتاء في مصر، كانوا من محافظة أسيوط، بداية من الشيخ النواوي ابن قرية نوى الذي تولاه من 1895م إلى 1899م ثم الشيخ بكري الصدفي من مدينة صدفا آخر مدن أسيوط جنوبا، وتولى بعد الشيخ محمد عبده من 1905م إلى 1914م، ثم تولى بعده الشيخ محمد بخيت المطيعي من 1915م إلى 1920م وهو من قرية المطيعة بأسيوط أيضا، وتعاقب على المنصب كبار علماء الأزهر الشريف، وكان الإفتاء في كثير من الأحيان هو الوظيفة المؤهلة لمشيخة الأزهر والمرحلة السابقة لها، وتكرر هذا كثيرا قديما وحديثا، وكانت الدول العربية والإسلامية ترسل من ترشحهم لدوائر الإفتاء وتخصصات الفتوى، للتدريب وتحصيل الخبرة في الدار العريقة وعند مفتيها الكبار، كما تناول الباحثون في درجات الماجستير والدكتوراه أعمالها وإسهاماتها، وما صدر عنها في الحقب المختلفة، ولا سيما أن لها أرشيفا كبيرا يحفظ ما صدر عن الدار من فتاوى، ولكن هذا التاريخ المؤرشف يُعبث به الآن، ويقتفون فيه سنة الأحبار، فيجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون منه كثيرا حسب الهوى ومسايرة المناخ العام!

ومن ذلك ما قام به بعض القائمين على الدار من حذف الفتوى التي كانت تمنع نبش القبور، ونقل رفات الموتى لإقامة الكباري والجسور، وصدرت في 18 أبريل 2019م.

وذلك نظرا لأن النظام الحالي أثار ضجة كبيرة بهدم ونبش قبور عظماء مصر في كل المجالات، لبناء محور مروري جديد. والذي يتابع أسماء أصحاب القبور المنبوشة يجد أنهم قامات كبيرة، ومن أصحاب المقامات العالية، وكأن المقصود من الطريق قطع الطريق على الأجيال القادمة لمعرفة عظمائها، فكانت البداية مع سلطان العلماء العز بن عبد السلام، ثم الكاتب الكبير يحيى حقي، ودارت معركة حامية الوطيس من أجل قبر الدكتور طه حسين، ولم تخمد حتى انتقلوا إلى قبر الإمام ورش صاحب القراءة المشهورة، وتلاه أستاذ التلاوة الشيخ محمد رفعت، وآخر ما بلغني أنهم يستعدون لنبش قبر شاعر النيل حافظ إبراهيم.

مخالفة العرف والشرع معًا

ومن المفارقات العجيبة في مسألة الاعتداء على المقابر، أنه يخالف العرف والشرع معا لما يفرضانه من احترام وصيانة للقبور ومن فيها، ثم إننا نرى حفاوة مبالغا فيها في الاحتفاء بالمقابر الفرعونية، والحفاظ على المقابر والتوابيت، وصرف الملايين على ذلك، ولو نظرنا إلى الأمر من ناحية أثرية بحتة، فإن بعض القبور المنبوشة تعد من الآثار التاريخية التي هي جزء من التاريخ الحضاري للإنسانية، وثالثة الأثافي تظهر في الاهتمام البالغ في الوقت نفسه بالمقابر اليهودية، وافتتاح مقابر ليشع ومنشة بعد إعادة الترميم في منطقة البساتين بالقاهرة، وضم 60 مقبرة يهودية إلى الآثار في محافظة الإسكندرية!

وبدلا من أن تعيد دار الإفتاء التذكير بفتواها السابقة، وتدعو إلى تعظيم هيبة الموتى، وتنكر الجرأة على الرفات والأموات، إذا بها تتلمس رضا الخلق فيما يغضب الخالق، وكأنها تفرغت في هذه الأيام لذلك، حيث خرجت علينا بفتوى موجهة بجواز الاقتراض من البنك لأداء فريضة الحج، وبعيدا عن ربا البنوك الذي أباحوا أكله والتعامل به، فإن غير المستطيع لا يجب عليه الحج، ولا يطالب بالاقتراض من أجل أدائه، قال الله تعالى: {وَلِله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 97).

ومن حج من مال حرام فحجه مأزور لا مأجور كما قال الشاعر:

إذا حججتَ بمال أصله سحت * فما حججت ولكن حجّت العيرُ!

ومدة القرض الربوي المعروض عشر سنوات، فإن مات خلالها المقترض مات مدينا، ومدانا بكبيرة الربا.

ونظرا لأن هذه الفتوى تخالف المعقول والمنقول، رأينا من ينكرها ويرد عليها من داخل المعسكر، ومن دعاة يمثلون السلطة ويتحدثون بلسانها، فإن كان هدم المقابر ونبشها جريمة، فإن هدم دار الإفتاء وتاريخها من الموبقات، وانظر كيف تحول وصف “مفتي رسمي” أو “مفتي الدولة” إلى شبهة أو سُبة، بعدما كان يتيه على الخلان، ويفاخر الأقران، بأنه جلس حيث جلس الشيخ محمد عبده والإمام حسن مأمون، وظهرت آثار هذا الهدم في فقدان الثقة وضياع الهيبة، فإن استطلاعا للرأي أجرته الدار نفسها، في وقت سابق على صفحتها بموقع “فيسبوك” خيَّرت فيه دار الإفتاء المصريين بين مواقع العلماء على مُحرِّك البحث غوغل، وبين موقع دار الإفتاء بوصفه جهة أولى للحصول على الفتاوى الدينية، وجاءت النتيجة لصالح مواقع غوغل بنحو 70% من المشاركين، كما أجرى المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام، دراسة حول مدى ثقة المصريين في الفتاوى الصادرة من دار الإفتاء عام 2020، فأظهرت أن 46% ممن شاركوا في الدراسة لا يثقون بفتاوى دار الإفتاء عموما، في حين أبدى 51% عدم ثقتهم بالفتاوى المتعلقة بالجانب السياسي، فهل تتوقف حملات نبش المقابر، ومحاولات دفن الدار؟

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. محمد الصغير؛ رئيس الهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلامﷺ. عضو مجلس الأمناء بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.





السابق
الدكتور محمد القرضاوي نيابة عن أسرة القرضاوي يسلّم الشيخ الدكتور علي القره داغي نسخة من "موسوعة الأعمال الكاملة لفضيلة الإمام القرضاوي"

البحث في الموقع

فروع الاتحاد


عرض الفروع